معركة القضاء على فيروس شلل الأطفال
د. عبدالرحمن لطفي أمين
في الوقت الذي كان يبحث فيه العلماء عن السيناريو الذي ستُعلن به نهاية فيروس شلل الأطفال من الوجود باستئصاله تماماً والقضاء عليه، لإنهاء مأساة فيروس قضى على مستقبل مئات الآلاف بل الملايين من البشر على مدار عقود طويلة، فإن الأمل في القضاء على المرض أصبح مشكوكا فيه بعد أن أعلن عدد من العلماء عن إمكانية تصنيع الفيروس مختبرياً ويدوياً، مما قد يقلل من فرصة القضاء عليه تماماً في ضوء أبحاث قد يكون لها دور إيجابي وربما تؤثر على العالم سلبا أيضا.
ويتضح جزء من ذلك من تصريح الباحث المتخصص جون لامونتاني القائل: «يمكننا الآن من خلال بيانات مطبوعة على ورقة صغيرة أو مخزنة على الحاسوب أن نعيد بناء شكل الفيروس دون وجود للفيروس نفسه».
وفي عام 1981، نشرت مجموعتان بحثيتان مختلفتان هما فنسنت راكانيلو وديفيد بالتيمور في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وفريق إكارد ويمر في جامعة ستوني بروك بجامعة ولاية نيويورك، جينوم شلل الأطفال. وقد استخدموا إنزيما لتحويل الخيط الواحد من الحمض النووي الفيروسي RNA إلى خيوط مزدوجة من الحمض النووي DNA، ثم حددوا تسلسل بروتينات الأدينين والثيمين والغوانين والسيتوزين بتشفير الجزيئات الخمسة التي تشكل جوهر وجود الفيروس.
بعدها استخدم الباحثون من جامعة ولاية نيويورك في ستوني بروك التسلسل الجيني المنشور لتجميع نسخة DNA من فيروس شلل الأطفال. ثم استخدموا إنزيما لتحويل الحمض النووي DNA إلى الحمض النووي RNA ، ونما الفيروس في خلاصة خالية من الخلايا. وأظهرت الاختبارات على الحيوانات «المُصَنَع» قد سبب الشلل بالفعل.
وكان العالم فينسنت راكانيلّو قد أعلن في عام 1981 أنه لم يستخدم أي آلة لإجراء تسلسل جينوم شلل الأطفال، بل إن ذلك تم يدوياً – بيده هو كما قال – «لقد استخدمت ما كان يعرف باسم طريقة «ماكسام غيلبرت»، حيث يتم إجراء أربعة تفاعلات كيميائية مختلفة على الحمض النووي. ثم يتم تجزئة الناتج على مادة هلامية رقيقة من بولي أكريلاميد، والتي يتم سكبها يدويا، ومن ثم إزالتها يدوياً بعناية من على اللوحات، ثم تجفيفها، وتعريضها على فيلم أشعة سينية. ثم قراءة التسلسل «التصاعدي» على صندوق ضوئي، ثم يتم إدخالها يدويا إلى حاسوب».
من يحتاج لتخليق الفيروس ؟
يقول العلماء إنه لا يمكن أبدا استئصال فيروسات مثل شلل الأطفال والإيبولا والجدري مادام تخليق تلك الفيروسات ممكنا في المختبر باستخدام الشيفرة الوراثية. وقد ثبت أن لدى الفيروسات المصنعة صناعيا قدرة على إحداث الضرر باستخدامها كأسلحة بيولوجية, كما يمكن استخدامها في مجالات الأبحاث وذلك بإنتاج لقاحات جديدة أو أنظمة جديدة للعلاج الجيني.
رعب شلل الأطفال
تمكنت منظمة الصحة العالمية – التي تعد طرفاً أساسياً في المبادرة العالمية لاستئصال شلل الأطفال- من خفض حالات شلل الأطفال بنسبة %99. ولم يعد شلل الأطفال موجوداً إلاً في أشدّ مجتمعات العالم فقراً وأكثرها تهميشاً. والهدف الذي تنشده المبادرة هو تطعيم كل طفل باللقاح المضاد لشلل الأطفال وضمان عالم خال من هذا المرض خدمة لمصالح الأجيال القادمة.
وتقول المنظمة إنه ما دام هناك طفل واحد مصاب بعدوى فيروس الشلل، فإن الأطفال في جميع البلدان معرضون لخطر الإصابة بالمرض. وفي معظم البلدان أتاحت الجهود العالمية لاستئصال شلل الأطفال المجال لزيادة القدرة على التصدي لأمراض معدية أخرى من خلال بناء أنظمة فعالة في مجالي الترصد والتمنيع.
تاريخ طويل للمرض
في أوائل القرن العشرين، كان شلل الأطفال من أكثر الأمراض شراسة في الدول الصناعية، إذ كان يؤدي إلى إصابة مئات الآلاف من الأطفال بالشلل كل عام. وبعد مدة وجيزة من إدخال اللقاحات الفعالة في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، تم السيطرة على شلل الأطفال وإزالته عمليا كمشكلة صحية عامة في تلك البلدان.
ويقول المؤرخون إن المرض كان موجوداً من أيام الفراعنة، إذ صورت لوحة مصرية يرجع تاريخها إلى عام 1350 – 1580 قبل الميلاد كاهنا بساق مشلولة، مما يشير إلى أن مرض شلل الأطفال كان موجوداً منذ آلاف السنين. وظل المرض غامضاً حتى عام 1789، حين قدم الطبيب البريطاني ميشيل أندروود أول وصف سريري لحالة شلل أطفال وسماه حينذاك “ضعف الأطراف السفلى”. وظهر أول وباء للمرض في أواخر القرن التاسع عشر في الولايات المتحدة، وسمي حينذاك بمرض شلل الأطفال. وفي عام 1955 اكتشف الدكتور جيمس سولك أول لقاح ضد الشلل عن طريق الحقن، وهو موجود حتى الآن وسمي باسمه – لقاح سولك. وفي عام 1961 اكتشف العالم ألبرت سابين لقاحا آخر يُعطى عن طريق الفم وسمي أيضاً باسمه – لقاح سابين. وفي عام 1988 أطلقت مظمة الصحة العالمية مبادرة عالمية لاستئصال مرض شلل الأطفال بحلول عام 2000. ومنذ ذلك الحين، تم تحصين أكثر من 2.5 بليون طفل ضد شلل الأطفال بفضل تعاون أكثر من 200 بلد و 20 مليون متطوع، مدعومين باستثمار دولي يزيد عن 11 بليون دولار.
وأعلنت آخر حالة شلل في منطقة غرب الباسيفيك في العام 1997 في كمبوديا، بعدها بسنة أعلنت عن آخر حالة شلل في المنطقة الأوروبية ( تركيا). وفي عام 2008 ظهر وباء جديد غزا القارة الأفريقية وامتد من نيجيريا إلى غرب أفريقيا، فأصبح القضاء على شلل الأطفال تحدياً كبيراً وأولوية للمنظمة. وفي عام 2014 أعلنت المنظمة خلو منطقة جنوب شرق آسيا من المرض، في حين لم تعلن منطقة شرق المتوسط وأفريقيا حتى الآن خلوهما من المرض نظراً لوجود حالات في كل من باكستان وأفغانستان ونيجيريا.
وأطلقت المبادرة العالمية لاستئصال شلل الأطفال في عام 2013 خطتها الأكثر شمولا وطموحا للقضاء التام على شلل الأطفال. وهي خطة استراتيجية شاملة تحدد بوضوح التدابير الرامية إلى القضاء على المرض في معاقله الأخيرة والحفاظ على عالم خال من شلل الأطفال.
وتستهدف المبادرة جعل مرض شلل الأطفال هو المرض الثاني- بعد الجدري- من الأمراض البشرية التي يمكن القضاء عليها من العالم.
وعندما بدأت تلك المبادرة عام 1988، كان شلل الأطفال متوطنا في أكثر من 125 دولة وتسبب في إصابة أكثر من 350,000 طفل كل عام، ومنذ ذلك الحین، قضت تلك المبادرة علی أكثر من %99 من الحالات السنوية.
ولا يزال شلل الأطفال متوطنا في ثلاثة بلدان هي أفغانستان ونيجيريا وباكستان. وإلى أن ينقطع انتقال فيروس شلل الأطفال في هذه البلدان، تظل جميع البلدان في العالم معرضة لخطر الإصابة بشلل الأطفال، ولا سيما البلدان الفقيرة والتي تعاني من ضعف خدمات الصحة العامة وخدمات التحصين، إضافة إلى حركة السفر أو التجارة مع تلك البلدان المتوطنة.
في النهاية يجب أن ندرك أنه ينبغي ألا تكون مسألة حماية الأطفال هي مسألة تفاخر دولي، بل يجب أن نتفاخر بأننا كجنس بشري أذكياء بما فيه الكفاية لابتكار لقاح يقضي على المرض في غضون سنوات، وشجعان بما فيه الكفاية لتوصيل هذا اللقاح في أمكنة خطرة جدا. وتقول منظمة الصحة العالمية إن الجهد المبذول للقضاء على شلل الأطفال سيظل مستمراً، ويبدو أننا على وشك النجاح.