يوروبا يبوح بأسراره
حســني عبـد الحافــظ
قُبيل أفول العام الماضي، أعلنت وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) التقاط المرصد الفضائي هابل صورًا لينابيع فوَّارة فوق سطح القمر (يوروبا)، ورصد ثلاث حالات غير مُنتظمة لانبعاث تلك الينابيع خِلال فترة المُراقبة التي استمرت نحو15شهرًا.
وعلى الرغم من رفض بعض العُلماء فرضية وجود نوع من الحياة على هذا القمر، فإن فريقــًا منهم يتحمَّس لهذه الفرضية، ويذهب إلى مدى أبعد في إمكانية العثور على دلائل تدعم هذه الفرضية، ومن هؤلاء العالم روبرت بابالاردو، المسؤول العلمي في أحد مُختبرات (ناسا) الذي يقول إنه «خارج كوكب الأرض، يبدو أن القمر يوروبا من الأجرام المثالية، في مجموعتنا الشمسية، التي يُحتمَل بشكل كبير وجود نوع من الحياة فيه، وعلينا أن نستكشفه عن قُرب، ونتحقق من ذلك».
تاريخ من الاكتشافات
يعود تاريخ اكتشاف القمر يوروبا إلى أوائل القرن السابع عشر الميلادي، وتحديدًا يوم 7 يناير عام 1610م، عندما شاهده للمرَّة الأولى عالم الفلك الإيطالي غاليليو غاليلي، فبينما كان يوجِّه منظاره نحو عملاق كواكب المجموعة الشمسية، كوكب المشتري، إذ به يرصد أربعة أقمار صغيرة نِسبيــًا حوله، عُرِفت باسمه (توابع غاليليو).أما الأسماء الحديثة لها، فقد أطلقها عالم الفلك سيمون ماريوس، وهي: آيو IO، وغانيميد Ganymede، ويوروبا Europa، وكاليستو Calliosto .
ويُعد القمر يوروبا الثاني بين توابع غاليليو قُربــًا من كوكب المشتري، بعد آيو، وأصغرهم حجمـًا بقُطر يصل إلى نحو 3121 كم، أي إنه أصغر قليلاً من قمر الأرض، وهو يأتي في المرتبة السادسة بين كل الأقمار التي تسبح حول كواكبها في النظام الشمسي.
وفي ضوء المُعطيات التي جُمِعت عنه، سواء من خِلال الرصد بالمراقب الأرضية، أو من خلال رحلات المركبات والمسابير التي اقتربت منه، فإن من أبرز الخصائص الفيزيائية، التي تُميِّز يوروبا ضِعف حقله المغنطيسي بنحو 6 مرات، قياسـًا بغانيميد، في حين يتفوَّق في ذلك على شقيق آخر هو كاليستو، وذلك وِفقـًا للمُعطيات التي جمعها المسبار غاليلو.
ومن مزايا يوروبا بلوغ الضغط الجوي فيه نحو 1 ميكرو باسكال ، وارتفاع نِسبة الأكسجين في غلافه الجوي قياســًا بالغازات والعناصر الأخرى، وتغطية جليد ناصع البياض لمعظم سطحه وهذا سبب ظهوره لامعــًا.
ودرجة الحرارة على سطح يوروبا لا تزيد عن 150 – درجة مئوية ، في حين تراوح سماكة القِشرة الجليدية على سطح يوروبا بين بضعة كيلومترات وعشرات الكيلومترات. ويُقدَّر العُمر الزمني لهذه القشرة بما يراوح بين20 و 180 مليون سنة، وهذا يعني أن سطح القمر مازال في عنفوان شبابه.
مدار حول المشتري
يدور يوروبا حول المشتري في مدار شِبه دائري، نِصف قطره يُساوي 670900 كم تقريبـًا، ويُكمل دورة كاملة خِلال ثلاثة أيام ونصف اليوم ويزيد قليلاً بمقِياس الزمن الأرضي. ومُعدَّل انحراف المدار 0,0101، وهذا يعني أن المسافة بين نقاط الأقمار الأكثر قُربــًا وبُعدًا لا يختلف مُتوسِّطها عن -1.01 %، فعندما يقوم غانيميد بدورة واحدة، يكون يوروبا قد أكمل دورتين، وآيو 4 دورات، وهذا مُستقِر بسبب قوى الجاذبية المُتبادلة بين المشتري والتوابع الأربعة.
وقد رصدت على يوروبا سِلسلة من الخدوش الداكنة المُظلِمة، التي تمر خلال سطح القمر، أكبرها خدش تُقدَّر مسافته بنحو 20 كم.وهذه الخدوش تتسم بحافات خارجية، وبحسب بعض العُلماء، فإنها نتجت عن سِلسلة من الأنشطة والانفجارات البُركانية، والتغيُّرات التكتونية في الطبقات الداخلية للقمر .
ويمتلك يوروبا غلافــًا جويــًا، ولا يُماثله في ذلك سوى خمسة أقمار من بين كل الأقمار في المجموعة الشمسية، وهي القمر تيتان، وكاليستو، وغانيميد، وآيو، وتريتون.وعلى خِلاف الأكسجين الموجود في الغُلاف الجوي للأرض، والناتج عن الأنشطة الحيوية، فإن أكسجين يوروبا هو في الغالب تولَّد بتبخر جُزء من الماء المُتجمِّد على السطح ، نتيجة حرارة جوفية مُنبعثة عبر الفوالق، ومن ثم تنقسم الجُزيئات إلى هيدروجين وأكسجين، ويتضاءل الهيدروجين لقُدرته على الهروب من الجاذبية، في حين يحدث تراكم نِسبي للأكسجين في الجو، ويصل جُزء منه إلى السطح، ليتكاثف على الجليد، ويخترقه نحو الداخل .
رحــلات اســتــكــشـــافــيـــة
حظي يوروبا باهتمام كبير من عُلماء الفلك، وكان هدفــًا رئيسيا للعديد من الرحلات الاستكشافية، حيث دارت حوله المركبات، بل وصلت إلى غلافه الجوي المسابير التي عاينته عن قُرب.
و كانت أولى الرحلات الاستكشافية له في العام 1979م، عندما حلَّقت إلى جواره ورصدته مركبتا الفضاء الأمريكيتان فيويجير 1، وفيويجير 2، وذلك أثناء تجوالهما الطويل في فضاء النظام الشمسي، والوصول إلى أقصى حدوده .
و استهدفته رحلة المركبة غاليليو غاليلي التي انطلقت عام 1995م وأمضت ثماني سنوات وهي تدور حول المشترى، حيث أسقطت في غُلافه الجوي مسبارًا نجح في جمع العديد من المعلومات.
و خِلال شهري نوفمبر وديسمبر من عام 2016 التُقطَت له صور واضحة بعدسات المسبار هابل . كما التقط المسبار (غونو) الذي دخل مدار المشتري في عام 2016 عِدَّة صور، وجمع عنه معلومات مهمة .
نــشـــاط بُــركــانــــي
من أهم الظواهر التي رُصِدت على سطح يوروبا وجود نشاط بُركاني في مناطق مُتفرِّقة. ولعل من أهم العوامل المؤثرة في ذلك نشوء مد قوي عندما يكون القمر في أقرب نقاطه من المشتري، حيث ترتفع الطبقة السطحية إلى حد الانتفاخ في المناطق المواجهة لجاذبية الكوكب العملاق، وذلك مُقارنة بالوضع الذي يكون عليه عندما يُصبح في أبعد مدى من الكوكب.كما التُقِطت عِدَّة صور ظهر فيها قُبب وبُقع حمراء تُدعى”العُديسات”، يبلغ قُطر كُل منها نحو10 كم، ويرجح أن تكون هذه العُديسات فُقَّاعات من الجليد الدافئ، القادم من الأسفل، والتي ارتفعت بشكل تدريجي عبر الطبقات السطحية الأقل برودة، وذلك بشكل مُشابه للفقاعات المُتصاعدة في الحِمم البركانية التي تشاهد على سطح الأرض.
يــنــابــيــع فـــوَّارة
وذكرت (ناسا) أنها التقطت صورًا لينابيع حارة فوق القمر يوروبا ، وبلغ ارتفاع الانبعاثات الناتجة عن بعضها نحو20 كم. واكتشاف هذه الينابيع سيجعَل من المُمكن دِراسة المُحيطات المُتجمِّدة، التي تقع على عُمق عِدَّة كيلو مترات، من الجليد الموجود على سطحه. وبحسب تقديرات أوَّليَّة فإن ثمة مُحيطــًا هائلاً من المياه المالحة المُتجمِّدة، أو الجليد اللزِج على يوروبا، قد يبلغ حجمه ضِعف حجم المُحيطات على سطح الأرض.
بــحــث عــن الحــيــاة
على الرغم من أنه لم يُثبت حتى الآن وجود أي نوع من الحياة على سطح يوروبا، فإن ثمة عُلماء قطعوا الطريق
أمام الباحثين عن الحياة، مُستندين إلى أن البُعد الكبير للقمر عن الشمس، والحالة الجليدية القاسية على سطحه، وطبيعة غلافه الجوِّي الضعيف، تُفضي إلى عدم وجود حياة. إلاَّ أن فريقــًا من العُلماء يُشيرون إلى أن مُعطيات الرصد التي جمعتها المركبات والمسابير الفضائية تُعطي أملاً في إمكانية إيجاد نوع من الحياة البدائية على القمر يوروبا، خاصة بين شقوقه وأخاديده التي تتسم بمُكوِّنات كيميائية وطبيعة فيزيائية. ويذهب هؤلاء العلماء إلى أن ما تحت القِشرة الجليدية يُمكن أن يوجد فيه كائنات تستطيع أن تعيش وتتأقلم مع بيئات قاسية، حيث تولَّد طاقتها من تأكسد المواد الكيميائية التفاعلية، كما هو الحال بالنِسبة للكائنات الدقيقة التي تعيش في أعماق محيطات الأرض.
سيظل قمر يوروبا هدفــًا مُهمـًا للرحلات الاستكشافية الفضائية، حيث يذهب كثير من العلماء إلى أنه منجم أسرار كبير، يُمكن من خلاله فك طلاسم عدد من الأسئلة المُثارة عن الأجرام البعيدة في نظامنا الشمسي، والتأثيرات المُتبادلة فيما بينها. ويرى بعض العلماء أن ما اكتُشِف عن يوروبا حتى الآن لا يُمثل سوى غيض من فيض أسراره، حيث مازال في جُعبته المزيد، ومن ثم فإنه هدف مُستقبلي لرحلات فضائية جديدة، بدأ بالفعل الإعداد لها، منها مشروع “كليبر”، الذي تبلغ تكلفته بليوني دولار أمريكي، ، والذي يستهدف الاقتراب من سطح القمر، ومن ثم إمكانية تغطية كُل مساحته. وكانت وكالة الفضاء الأوروبية قد أعلنت أنها بدأت في الإعداد لمشروع “جوبيتر آيسي مون أكسبلور”. ومن المُفترض في إطار هذا البرنامج وصول المسبار الأوروبي (جوبس ) إلى قمر يوروبا بحلول عام 2030م والتقاط صور عالية الدِقَّة لسطحه، والتحقُق من تكويناته الداخلية. فهل يبوح قمر يوروبا، بالمزيد من أسراره..؟!