هل السلوك الإجرامي موروث؟!
د. عبد الرحمن النمر
منذ نحو قرن، أو يزيد، والعلماء يجهدون في البحث عن العلاقة بين بنية الإنسان وسلوكه العام. وكان التفكير في معظم الأحيان في اتجاه علاقة السلوك بالتركيب التشريحي أو الوظيفة الفسيولوجية. وأشهر مثال على ذلك محاولات العالم الإيطالي
«لومبروزو» إيجاد علاقة بين شكل الجمجمة والسلوك الإجرامي.
وهناك محاولة أخرى للربط بين سلوك الإنسان ووظائف أعضائه أجراها العالم سيغموند فرويد. ومن خلالها عزا السلوك الإجرامي عند الإنسان إلى قصورٍ في إشباع غريزة الجنس.
وبغض النظر عن مدى النجاح الذي حققته هذه المحاولات وأشباهها في فهم سلوك الإنسان، فإن القاسم المشترك بينها جميعا هو إغفال الدور الذي تؤديه « كيمياء الجسم » في توجيه السلوك البشري.
والحق أن تأثير الكيمياء الحيوية في سلوك الإنسان، لم ينل حظا كبيرا من الاهتمام والبحث إلا منذ عهد قريب، وإنْ كان ما يزال مغبونا من وسائل الإعلام.
والأسئلة المطروحة على بساط البحث مهمة ومثيرة. وقد عجزت المحاولات السابقة عن الإجابة عنها، فبقيت مثار جدل إلى هذا اليوم. مثال ذلك: هل الشر موروث، أم هو عادة مكتسبة؟! وهل يرتكب إنسان «جريمة» ما وهو مدفوع بقوى حيوية لا تقهر؟! لماذا يجنح بعض الأطفال في حين يكون بعضهم الآخر عباقرة نابغين؟!
قد يكون في أسرة واحدة سفاح يسفك الدماء، وآخر يدعو إلى الفضيلة ويطالب بالإصلاح. فمن أين يأتي هذا الاختلاف؟! وكيف يمكن تفسير هذا التباين في السلوك؟!
إن الكيمياء الحيوية ليست المفتاح الوحيد إلى مغاليق سلوك الإنسان. وعلى الرغم من ثبوت العلاقة بين بعض أنماط السلوك وبين تأثير كيمياء الجسم، فإن أسئلة كثيرة حول السلوك البشري لا تزال دون جواب.
قرينة ليش – نيهان
لبعض الأطفال سلوك متطرف، يتسم بطابع العنف، ويأخذ شكل
«مضايقات اجتماعية»، كأن يعمد الطفل إلى ضرب الآخرين وإيذائهم جسديا.
ويبدو أن هذا السلوك الطفولي المتطرف كان يضايق بوجه خاص طبيبين في كلية الطب في جونز هوبكنز بالولايات المتحدة، هما مايكل ليش
و وليام نيهان. وقد قرر الطبيبان معا البحث عن العلة وراء هذا السلوك، هذه المرة من وجهة نظر الكيمياء.
بعد محاولات مضنية استغرقت عدة سنوات، تم خلالها فحص عشرات الأطفال ذوي السلوك المتطرف، وضع الطبيبان أيديهما على ما يبدو أنه مفتاح اللغـز. إنه «إنزيم» خاص مسؤول عن النمو، يفتقر إليه هؤلاء الأطفال.
وباستقصاء العلة إلى آخر مداها، اتضح أن الأطفال يفتقرون إلى ذلك الإنزيم المعين، نتيجة تحور (تغير) في «الجين» (المُوَرِّث) الذي يحكم عملية تكوين الإنزيم.
وكان كشف الطبيبين عن سبب ذلك السلوك العدواني الأول من نوعه. ونظرا لأن العلاقة بين السلوك المتطرف عند الأطفال وبين الاضطراب الكيميائي هي من نوع «ارتباط النتيجة بالسبب»، فقد أطلق على هذا الاكتشاف اسم ارتباط أو «قرينة ليش – نيهان» Lesch-Nyhan Connection.
ومنذ ذلك التاريخ، بدأ الاهتمام يتزايد في اتجاه معرفة المزيد عن تأثير الكيمياء. وسهّل البحث في هذا الاتجاه، تقدم وسائل الفحص الكيميائي بصورة مذهلة، في ذات الوقت الذي تقدم فيه البحث الطبي بشتى وجوهه وفروعه، مما يجعل الربط بين المعلومات أمرا ميسورا.
كيمياء المخ
الظاهر أن اضطراب التوازن الكيميائي في الجسم ليس مسؤولا فحسب عن اضطراب السلوك، وإنما كذلك عن جنوح الإنسان إلى الجريمة!
فالمعـروف أن حـفـظ توازن وظائف أعـضاء الإنســـان يتم عن طريق تبادل «رسائل عصبية» بين المخ وسائر أعضاء الجسم وأجهزته. وعمليات انتقال هذه الرسائل هي ما يطلق عليه اسم «السَّيَّال العصبي». ويلزم لانتقال السيال العصبي عبر الأعصاب إلى المخ، ومن المخ عبر الأعصاب، وجود مواد كيميائية تعرف باسم الناقلات العصبية
ومن الناقلات العصبية المعروفة المادتان «إبينيفرين» (Epinephrine) و«نورإبينيفرين» (Norepinephrine). وقد أظهرت التجارب الحديثة على الحيوانات أن زيادة نسبة هاتين المادتين في المخ تؤدي إلى سلوك عنيف، يمكن معه أن يقتل الحيوان حيوانا آخر من فصيلته وجنسه!
هل الأمر كذلك عند الإنسان؟! سؤال لم يجب عنه البحث بعـدُ. على أنّ مما يعـضد حقيقة تأثير كيمياء المخ على السلوك، أن الإنزيم المعروف اختصارا بالحروف MAO (أحادي أمين أُكسيداز) والموجود في المخ، يؤدي دورا أساسيا في «مزاج» الإنسان. فانخفاض نسبة هذا الإنزيم في المخ يؤدي إلى شعـور بالابتهاج، في حين يؤدي ارتفاع نسبته إلى شعور معاكس تماما بالاكتئاب.
ويبدو أن الأوساط الطبية اقتنعت بحقيقة دور الكيمياء الحيوية، وقبلت البحث في اضطرابات السلوك من هذا المنطلق. وقد أدى ذلك إلى كشف جديد عن الأسباب الحقيقية لمرض «الفِصام» (انفصام الشخصية) Schizophrenia، الذي يشيع بين المراهقين من الجنسين، ويؤدي – في حال عدم علاجه – إلى تدهور «الشخصية» بشكل خطير.
وكانت الأبحاث البيولوجية كشفت عن دور «الجينات» (العامل الوراثي) في هذا المرض الخطير. بيد أن الأعراض المميزة لمرض انفصام الشخصية، مثل الانزواء والأوهام والتخيلات والميل إلى العنف، والنزوع إلى الشك والارتياب، بقيت غامضة دون تفسير. وبدراسة كيمياء المخ عند هؤلاء المرضى، اتضح أن المخ يستخدم عددا من المركبات الكيميائية بطريقة خاطئة، ومن بين ذلك بعض الناقلات العصبية!
الوراثة والهرمونات
تتمثل الصفات الوراثية مثل طول الجسم، ولون الشعر والعينين والجلد، والسمنة والنحافة، والقوة والضعف، في الجينات. وتتجمع الجينات في « الصِّبْغيات » (الكرموسومات) التي تتجمع بدورها في نواة الخلية الحية – كل خلية حية! ويختلف عدد الصبغيات من جنس إلى آخر من أجناس الحيوان. والعدد المميز للجنس البشري هو 46 صِبْغيا، منها 44 تعرف باسم
«الصبغيات الجسمية»، أي التي تحدد صفات الجسم، واثنان فقط يحددان النوع (الجنس). ويرمز للصبغي الأنثوي بالحرف الإنجليزي «X»، ولصبغي الذكورة بالحرف «Y».
وعلى ذلك، فالخلية الحية في جسم ذكر الإنسان تحوي 44 صبغيا جسميا، وصبغين جنسيين هما XY.
والمعروف أن أي مرض وراثي يصيب الذكور، يكون مرده زيادة صبغي جنسي من نوع Y بحيث يكون العدد النهائي للصبغيات 47، ويكون ترتيب صبغيات النوع (الجنس) XYY، ويعرف هذا المرض باسم العالِم الذي وصفه لأول مرة «كلاينفلتر» Klienfelter. وهو أول مرض وراثي يتم الكشف عن علاقته بصبغيات الجنس في الإنسان.
وفي أوائل السبعـينيات من القرن العشرين، قال باحثون إنّ لدى المصابين بهذا المرض نزوعا إلى العـنف. بيد أن دراسة أحدث أجريت في الدنمارك، كشفت أن هؤلاء المرضى لديهم «ميول إجرامية» وليس مجرد نزوع إلى العنف!
وقد أثار هذا الاكتشاف احتمال أن تكون النزعة إلى الجريمة «صفة موروثة». ولوضع الأمور في نصابها، أجرت كلية الطب في جامعة جنوب كاليفورنيا بالولايات المتحدة دراسة على 14427 طفلا لآبائهم سجلات في الشرطة نتيجة اشتراكهم في نشاط إجرامي.
والهدف من الدراسة كما هو واضح، معرفة ما إذا كان السلوك الإجرامي يورث للأطفال الذين يولدون لآباء لهم نشاط إجرامي. وظهر من الدراسة أن لدى %30 من هؤلاء الأطفال ميولاً إجرامية، وبعـضهم له بالفعـل سجل مع الشرطة، على الرغم من حداثة ســنِّه!
مهما تكنْ الدلالة من نتائج هذه الدراسات، يرفض كثير من الأطباء وعلماء النفس الإيمانَ بأن النزوع إلى الجريمة موروث. ويفضلون على ذلك الاعتقادَ بأن الطفل الذي ينشأ في بيئة ذات علاقة بالجريمة، يكون عرضة أكثر من غيره من الأطفال للسير على النهج نفسه. ويشبهون ذلك بـ « العدوى » بمرض معين، والتي يزداد احتمال وقوعها كلما زاد قرب الإنسان السليم من المريض، وكلما طال مكثهما معا! وما يزال البحث جاريا حول هذه القضية.
من جهة أخرى، هناك علاقة وطيدة بين الهرمونات وسلوك الإنسان. فالصبية الذين يتأخر نموهم جنسيا نتيجة نقص هرمون الذكورة testosterone، يميلون إلى الانطواء، ويبدو سلوكهم غريبا عند مقارنتهم بأقرانهم من الصبية الطبيعيين!
وبعـدُ، فما تزال جوانب كثيرة من سلوك الإنسان غامضة غير مفهومة. لكن الضوء الذي تسلطه أبحاث الكيمياء الحيوية سيزيد من قدرتنا على فهم السلوك البشري، خصوصا في حقل الجريمة. فهل يأتي اليوم الذي تصدر فيه الأبحاث الطبية عـفوا شاملا عن المجرمين؟!