د. عمّار العاني
باحث في المعلوماتية وتأثير وسائل التواصل الاجتماعي، (سورية)
في الوقت الذي تظهر فيه معظم الأبحاث العلمية أن ظاهرة الاحترار العالمي والتغير المناخي حقيقة مؤكدة، فإن نحو 15% من الجمهور لا يصدق هذه “النظرية” ويعتبرها خدعة من قبل الحكومات. وتظهر الإحصاءات أن نحو 5% من الأهالي يمتنعون عن تقديم اللقاحات الأساسية لأطفالهم إيماناً منهم بأخطارها، على الرغم من التوافق شبه الكامل في الأوساط الطبية على أن هذه المخاوف لا أساس لها.
وفي سياق مشابه، تسعى الجمعية العالمية لأبحاث الأرض المسطحة The International Flat Earth Research Society ((IFERS إلى تفنيد أكذوبة كروية الأرض، وهي تعقد مؤتمراً سنوياً يشارك فيه آلاف الأشخاص من حول العالم (أو عبر العالم في حالة فيروس كورونا التي نشهدها) وتُقدَّم خلاله عشرات المحاضرات والأوراق “العلمية” التي تثبت أننا نعيش على أرض مسطحة!
ونجد مئات الأمثلة المشابهة لنظريات المؤامرة ونشر التشكيك بالحقائق العلمية المثبتة، بدءاً من زيارات الكائنات الفضائية، مروراً بالتشكيك في رحلات أبولو والهبوط على سطح القمر وتقديرات العلماء لعمر الكون، وانتهاءً بعشرات النسخ من مؤامرات فيروس كورونا المستجد COVID19. كل هذا ليس بالجديد أوالمفاجئ؛ لكن ما هو جديد ومفاجئ هو الارتفاع الحاد في انتشار وشعبية هذه الادعاءات في عصر وسائل التواصل الاجتماعي خلال العقد الأخير، في الوقت الذي يفترض أن تتراجع فيه أفكار كهذه. لكن الدراسات المتتالية تعزو هذا الارتفاع إلى ظاهرة أفرزتها تقنيات التواصل الاجتماعي ذاتها، واصطُلِح على تسميتها غرف الصدى Echo Chambers.
وقد صاغ هذا المصطلح الناشط في مجال الإنترنت إيلي باريزر Eli Pariser عام 2010، ونوقش في كتابه الذي صدر عام 2011 وهو يحمل العنوان نفسه. ووفقًا لهذا الناشط : “يتعرض المستخدمون باستمرار إلى قدر أقل من وجهات النظر المخالفة لهم، ويعزلون فكرياً في فقاعة المعلومات الخاصة بهم”. وفي الواقع، ليست هذه الظاهرة بحديثة أو خاصة بوسائل التواصل الاجتماعي، فقد ذهبت معظم منصات الإعلام التقليدية الخاصة والرسمية في الأنظمة الديموقراطية والشمولية إلى التحكم في تدفق المعلومات بشكل أو بآخر، وذلك بهدف تشكيل القناعات و”حماية” جمهورها من الرأي الآخر. ولكن لطالما كان القارئ أو المشاهد واعياً إلى حد ما بوجود هذه المؤسسات وبنياتها، إذ إنه كان يعلم بوجود سياسة تحريرية معينة لجريدة ما، وأن لكل محطة تلفزة جهة ممولة ذات توجه معروف، كما كان على علم بوجود جريدة تخالف الأولى ومحطة تناوئ الثانية حتى لو حُرم منهما قسراً أو طوعاً.
إن ما تغير في عصر التواصل الاجتماعي هو اختفاء المصدر وغياب التنوّع، فالخبر يأتي من “الأصدقاء” في مجموعات وتكتلات افتراضية متجانسة يبقى فيها المحرّر مستتراً أو غير موجود أصلاً، لأن المحرر الفعلي هو… الخوارزمية.
آيديولوجيا الأرباح
كي نستوعب أبعاد هذه الظاهرة علينا أن نفهم الخوارزميات التي تستخدمها مواقع التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك، تويتر، غوغل، يوتيوب، لانتقاء باقة تضم بضع عشرات من الأخبار من بين ملايين الاحتمالات كي تعرضها على صفحتك الخاصة.
هذه المواقع ليست مدفوعة بأجندات حزبية أو خطط مسبقة لانتقاء هذه الباقة، بل هي في معظمها برمجيات ذكاء اصطناعي تتعلم من عادات المستخدم وتتطور دون تدخل بشري، فهي مصممة أولاً وأخيراً لتحقيق الأرباح عن طريق إبقاء المستخدم على الصفحة وعدم مغادرته لها. ولتحقيق ذلك تستغل هذه الخوارزميات نزعة بشرية غريزية يسميها علماء النفس confirmation bias the أو الانحياز التأكيدي أو الذاتي.
ترجع هذه الفكرة إلى ستينات القرن العشرين وإلى الباحث البريطاني في علم نفس الجماعة بيتر واسون Peter Wason من جامعة لندن، الذي كشفت أبحاثه على آلاف المشاركين الآلية السيكولوجية لظاهرة الانحياز التأكيدي: “عندما يرغب الناس في أن تكون فكرة ما أو مفهوم معين صحيحاً، إما للمصلحة بذلك أو بدافع الخوف من البدائل، ينتهي بهم الأمر إلى الإيمان العميق بأنها صحيحة وإلى جمع وتبنّي المعلومات التي تؤكدها واستبعاد كل ما يمكن من الدلائل التي قد تهدد قناعاتهم”.
صُمّمت خوارزميات مواقع التواصل الاجتماعي كي تستشعر هذه الآلية، وتعلمت مع الوقت أن عرض أفكار وآراء تخالف تلك التي يحملها المستخدم سيؤدي على الأغلب إلى موقف مشكك وعزوف عن الاستمرار في التصفح، ومن ثم خسائر كبيرة لعوائد الإعلانات التي تشكل المصدر الأساسي للربح. فهذه المواقع تقدم خدماتها مجاناً للمستخدم وتعتمد بشكل كامل على تعلقه وإدمانه على تصفح المحتوى، وهذا لا يمكن استمراره إلا بتقديم المزيد والمزيد من الآراء والأفكار التي تتطابق وتؤكد قناعاته ولا تتحداها بأي شكل من الأشكال. وبعد أشهر وسنوات من استشعار الخوارزميات لذائقة كل مستخدم، سيجد الأخير نفسه سجين فقاعاتٍ لا تتردد فيها إلا أفكاره وقناعاته الشخصية، وهذه هي “غرف الصّدى”.
فقاعة أم جماعة؟
طفت هذه الظاهرة على السطح بشدة خلال الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2016 وأزمة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عام 2017، حيث ثبت وجود مجموعات كبيرة من المصوتين الذين يعتمدون على “غرف الصّدى” هذه كمصدر رئيسي للأخبار وتكوين الرأي، وتعذّر على المؤسسات التقليدية اختراق جدران هذه الغرف وعرض ما يمكن اعتباره حقائق غير قابلة للجدل، فداخل هذه الفقاعات تفقد الحقيقة قيمتها وتتحول
إنها “نيرفانا” افتراضية جماعية تقدم للمؤمنين بها الشعور بالأمان والقوة والتعاضد، ويصبح معها الجدل العقلاني الموضوعي أوحتى تبادل الأفكار وتداولها مصدر تهديد للانسجام، وهو خطر يستدعي الاستئصال بالحجب block أو حتى الـمقاطعة unfriend.
استنفرت هذه العواقب الخطيرة عدة جامعات ومراكز أبحاث مرموقة لتقدم لنا دراسات أكثر عمقاً عن هذه الظاهرة، منها مثلاً دراسة للدكتور نغوين Nguyen صادرة عن جامعة كامبريدج تميز بين نوعين من أساليب تكوين الرأي: الأول يطلق عليه فقاعات معرفية epistemic bubbles، والآخر غرف الصدى echo chambers وأطروحة الدكتور نغوين حول الفقاعات المعرفية تجادل كالتالي: “عندما تجد نفسك تتعرض بشكل متواصل لنوعية (البوستات) والأخبار التي تحمل دائماً وجهة النظر نفسها، مع غياب كامل للرأي المخالف، فأنت في فقاعة معرفية”، حيث تحجب الخوارزمية عنك جزءاً كبيراً من المعلومات لضمان تحويلك إلى مستهلك سهل غير مشكك، غافل تماماً أنت وشريحتك عن آراء ومعارف أخرى خارج دائرة المألوف هذه. ومن السهل جداً “فرقعة” هذا النوع من الفقاعات الشائعة عَبْرَ تمرير آراء جديدة ومختلفة ومعارف متنوعة إلى داخلها، الأمر الذي سيتكفل بتوسيع آفاق تلك الشريحة ودمج أفرادها بالتدريج في مجموعات أخرى لزيادة التنوع والتفاعل الإيجابي بينهم.
تكمن المشكلة الأخطر في أسلوب النوع الثاني والسلبي الذي يخصص له نغوين مصطلح “غرف الصّدى”، حيث يمكن أن تتسلل بعض المعلومات والآراء التي تتحدى ثوابتها، لكن أفراد الشريحة هنا يتعاملون مع هذه المصادر بتشكيك ورفض ويضعونها في خانة الكذب والمؤامرة والخيانة، ويعتبرونها ذات أثر مدمر على “تماسك” الجماعة. تنحو”غرف الصّدى” إلى عزل أعضائها ليس عن طريق قطع خطوط اتصالهم بالعالم، وإنما عن طريق تلوين هذا العالم بالأبيض والأسود، إنه صراع ثنائي بسيط ومطلق بين الخير والشر، فالناس جديرون بالثقة إذا كانوا يتماهون معي، وأي شخص يخالفني الرأي هو خبيث ولا يمكن تصديقه.
باختصار، في الفقاعة المعرفية تغيب المعلومة أما في غرف الصدى فتغيب الثقة.
غرفة بيضاء في عالم أسود
في دراسة أخرى للباحِثَيْن مارشال فان ألستين Marshall Van Alstyne وإريك برنجولفسن Erik Brynjolfsson من معهد ماساتشوستس للتقانة MIT، نقترب أكثر من العواقب الاجتماعية والسياسية لهذه الظاهرة التي تعيد تشكيل الانتماءات والهويات بعيداً عن خطوط التكوين التقليدية الجغرافية منها أو الطبقية أو العرقية أوالدينية، إذ يمكن في مجتمع متجانس إلى حد ما، ويعيش في أحياء متجاورة، أو حتى ضمن عائلة واحدة، أن يتحوصل أفراده في “غرف صدى” متباعدة تضعهم على جبهات صراع مفتعلة. يسمي الباحثان هذه الظاهرة بلقنة سايبرانية Cyberbalkanization؛ في إشارة إلى منطقة البلقان التي تصدعت فيها يوغوسلافيا السابقة إلى سبع دول بصورة سريعة وعنيفة. وفي هذا التشبيه نبوءة غير مستبعدة لاحتمال انتقال الصراعات التي تعززها خوارزميات مواقع التواصل الاجتماعي من “غرف الصّدى” الافتراضية إلى العالم الحقيقي.
بالطبع، لا يمكن لأي شخص عاقل أو باحث جاد أن يتّهم “غرف الصّدى” بأنها “تفتعل” صراعات من العدم، فالعالم المعاصر يعيش أزمات حقيقية دون شك، تتجلى بصورة صارخة في الخلل المتعاظم في توزيع الثروة، والتغيرات المناخية العنيفة، والأتمتة المتزايدة لوسائل الإنتاج، والفشل الذريع لأنظمة الحكم الشمولية وما أنتجته الدول الفاشلة من هجرات جماعية وفقدان الثقة المتزايد بالنظرية الليبرالية الرأسمالية. وهي أزمات يتحدث عنها الكاتب الهندي بانكاج ميشرا Pankaj Mishra في كتابه (عصر الغضب)، ويوضح فيها مكامن هذا الغضب الشعبي الجارف الذي يجتاح العالم دون أن يميز بين شوارع دلهي والقاهرة وباريس وهونغ كونغ وبرشلونة وسانتياغو وبيروت. ويصف الكاتب بدقة التقاطعات بين حالات الغليان الشعبي الواسع ليكشف اختلافها في الظاهر وتطابقها في العمق.
ويتضح أن وسائل التواصل الاجتماعي بخوارزمياتها “الذكية” المثيرة للجدل هي قاسم مشترك بين هذه الصراعات، فهي تعزز عزلة الغاضبين وشيطنة كل من يخالف قناعاتهم، ويصبح الاستقطاب وانعدام الثقة العملة الاجتماعية والسياسية السائدة، فالعالم المعقد يصبح سهل الفهم بعملية فرز بسيطة: الأخيار من هم داخل “غرفة الصّدى” والأشرار من هم خارجها.
باب الخروج
كان الاتحاد الأوروبي هو السبّاق إلى أخذ هذه الظاهرة على محمل الجد، إذ تشير مراكز البحث إلى أن أكثر ما يهدد مستقبله هو الجنوح الواضح نحو التطرف والاستقطاب في مجتمعات يفترض أنها رسّخت قيم المواطنة، ولكن هاهي النزعات القومية والانفصالية والعنصرية الضيقة تعود لتنمو في “غرف صدى” مغلقة لا يمكن اختراقها بالحجة والموضوعية ولا حتى بوساطة المؤسسات الديموقراطية.
لهذا السبب، نشرت المفوضية الأوروبية في أكتوبر عام 2018 (مدونة ممارسات حول التضليل على مستوى الاتحاد الأوروبي) لتشجيع الحكومات والمنصات على الإنترنت على الحد من “الاستهداف الجزئي” للناخبين وزيادة شفافية الإعلانات السياسية. ويعكف البرلمان الأوروبي على صوغ القوانين التي تسمح بفرض القيود على تصفية أو “فلترة” filtration المحتوى انتقائياً على منصات التواصل. وبهذا الصدد، تدّعي منصّة غوغل مثلاً أنها حسّنت خوارزمياتها لتقليل تأثير فقاعات الرأي إلى أدنى حد. وعلى هذا المنوال فعلت منصّة فيسبوك، إذ إنها أقدمت مؤخراً على وضع أدوات وإجراءات للتحقق من أن الإعلانات السياسية التي يتم عرضها في الاتحاد الأوروبي لا تحاصر المستخدم بمرشح معيّن أو توجه وحيد، وتكشف له بالإضافة إلى ذلك هوية من يدفع مقابل الإعلان بوضوح.
أما في عالمنا العربي، فغني عن الذكر أن مواقع التواصل الاجتماعي أدت دوراً مهما في اندلاع حركات الربيع العربي. ومع فشل معظم مؤسسات الدولة التقليدية في إدارة الصراع سلمياً واستيعاب مفردات العصر الرقمي، فقد تشرذمت المجتمعات العربية في “غرف صدى” مغلقة مشغولة بتأكيد الذات وتخوين الآخر؛ غرف موصدة الأبواب في وجه “الغرباء” وطافحة بالكره والعزلة والنفور، وترتفع جدرانها الافتراضية باطراد بين أبناء الوطن الواحد.
وفي غياب أي تدخل مؤسساتي، يبدو أن الحل بيد المستخدم نفسه. عليك أن تسأل نفسك أولاً وثانياً وثالثاً: هل أنت سجين “غرف الصّدى”؟ إذا كنت تحيط نفسك بأشخاص يشبهونك، وتستبعد عن قصد أو غير قصد كل رأي يتحدى معتقداتك، وإذا لاحظت بشكل متزايد أن المحتوى الذي يملأ صفحتك يكرر المقولات نفسها، ويتشابه في اللون والشكل والرائحة، وإذا كنت تشعر بانعدام الثقة بينك وبين “الآخر”، فأنت على الأغلب تعيش في “غرفة صدى” أو على الأقل في “فقاعة معرفية”.
مفتاح الخروج في يدك، عليك أن تكسر الخوارزميات بأن تبحث عن الأفكار التي تخالفك بدلاً من الانجذاب فقط لمن يوافقك، وأن تخصص جزءاً يسيراً من الوقت التي تقضيه على هاتفك الذكي لتقرأ وتشاهد وتتفاعل برحابة صدر مع الآراء التي لا تتفق معها، وعليك إجبار نفسك على وضع إشارة إعجاب لشخص من الطرف الآخر دون أن تخشى رأي من يوافقك الرأي، وعليك أيضا اعتبار العالم الافتراضي كالعالم الحقيقي، يستحق المغامرة والسفر لتتعرف على ثقافات مختلفة وتزور بلادا بعيدة وتتعلم لغات جديدة، بدلاً من الخوف والتوجس والتقوقع فقط مع من يوافقونك الرأي في غرفتك الصغيرة، مهما كان صدى صوتك فيها مطمئناً.