نظام المعلومات الجغرافية.. طفرةٌ علمية في التوثيق الأثري
علماء الآثار أدركوا أهمية استخدام نظام المعلومات الجغرافية في مجال التسجيل الأثري للمساعدة على الحفاظ على الهوية والموروث الحضاري لكل مدينة ومنطقة وموقع
د. محمد أحمد عنب
أستاذ الآثار والحضارة الإسلامية المساعد، جامعة الفيوم (مصر)
ارتبط علم الآثار بعدد كبير من العلوم الحديثة التي استخدمها علماء الآثار من أجل تيسير عملهم وتوفير الوقت والجهد وتعزيز نشاطهم البحثي. ومن أشهر هذه العلوم نظام المعلومات الجغرافية الذي أصبح من الأدوات المهمة المستخدمة في توثيق المواقع الأثرية وإدارتها، وذلك لقدرته الكبيرة على الرصد والتوثيق والتحليل والإظهار، وغيرها من القدرات التي تتطلّبها عمليات التوثيق الأثري.
ونظام المعلومات الجغرافية Geographic Information System (GIS) هو العلم الذي يهتم بجمع ومعالجة ودراسة المعلومات الجغرافية، ويعتبر حالة خاصة من نظام المعلومات التي تحتوي على قواعد بيانات تعتمد على دراسة التوزيع المكاني للظواهر والأنشطة والأهداف التي يمكن تحديدها في المحيط المكاني، مثل النقاط والخطوط والمساحات، حيث يقوم ذلك النظام بمعالجة البيانات المرتبطة بتلك النقاط أو الخطوط أو المساحات لجعل البيانات جاهزةً لاسترجاعها، من أجل تحليلها أو الاستعلام عن بيانات محددة من خلالها.
ويعتبر نظام المعلومات الجغرافية أحد المكوّنات الرئيسية لعلم الجيوماتكس Geomatics الذي يشمل كل العلوم والتقنيات المتعلقة بالبيانات العمرانية بهيئتها الرقمية، بما فيها المسوح العمرانية ونظم المعلومات المكانية.
النشأة والتطبيقات
كانت بداية ظهور نظام المعلومات الجغرافية بطريقة المصادفة، حيث كان ظهوره في لندن عام1854م حينما كانت تعاني تفشّي مرض الكوليرا، ولم يكن هناك طريقة لتحديد الأماكن المنتشر فيها المرض، إلى أنْ تمكّن العالم جون سنو من استخدام بعض النقاط التمثيلية لمواقع معينة تعاني الإصابة بالمرض، مما مكّن من تحديد مصدر الوباء، فتمّ رسم خريطة حدّد فيها أماكن انتشار المرض بشكل أوسع.
ومع بدايات القرن العشرين طُور مفهوم الخرائط ليصبح عبارة عن مجموعة من الشرائح أو الطبقات مفصولة عن بعضها بعضا، بحيث تغذى كل طبقة بعددٍ من المعلومات. ويعتبر عالم الجغرافيا الإنجليزي روجر توملينسون Roger F. Tomlinson (1933-2004) هو صاحب الفكرة الأساسية لهذا العلم، لذا يلقب بالأب الروحي لهذا العلم.
معالجة البيانات وتحليلها
تعتمد فكرة نظام المعلومات الجغرافية على جمع وإدخال ومعالجة وتحليل وعرض وإخراج المعلومات المكانية والوصفية لأهداف محدّدة. ويتكون من عدة مراحل: الأولى مرحلة تخزين البيانات واسترجاعها؛ وتتمثّل في إدخال وتخزين البيانات الجغرافية من مصادرها المختلفة من خرائط وبيانات رقمية ووصفية مع ربطها ببعضها بعضا ليسهل استدعاؤها على شكل طبقات عند الحاجة.
والمرحلة الثانية هي مرحلة معالجة البيانات وتحليلها؛ حيث يتم فيها إحداث تغيير في نمط ومستوى البيانات وإزالة أخطاء الإدخال وتحديث البيانات، إضافة إلى إجراء بعض العمليات الإحصائية والحسابية مثل تحديد المساحات أو المسافات ونطاقات المناطق العمرانية. والمرحلة الأخيرة هي مرحلة عرض البيانات وتقديمها التي تتمثل في عرض كل أو بعض البيانات الأصلية في قاعدة البيانات بأنماطٍ مختلفة، إمّا على شاشة الحاسوب أو على ورق في شكل خرائط أو تقارير ورسوم بيانية.
مكوّنات نظام المعلومات الجغرافية
يتكون النظام من مجموعة من المكوّنات الأساسية أهمها البيانات التي تعتبر العنصر الأساسي لهذا النظام. وهذه البيانات تكون مكانية ووصفية، ويتم الحصول عليها بعدة تقنيات حديثة كالتصوير الجوي Aerial Photography والاستشعار عن بعد ونظام تحديد المواقع العالمي GPS. والمكوّن الثاني هو توافر الحواسيب الحديثة التي تقبل البرامج التطبيقية التي تعمل على هذا النظام، وأيضًا البرامج التي تحلل وتعالج البيانات التي خُزنت في قواعد البيانات. ويراعى تخزين البيانات في أكثر من طبقة للتغلّب على المشكلات التقنية الناجمة عن معالجة كميات كبيرة من المعلومات دفعة واحدة. وأهم هذه المكوّنات هو العنصر البشري المدرّب والمؤهّل بشكلٍ جيد على استخدام هذه البرامج.
ولهذا النظام مزايا كثيرة منها قدرته الفائقة على الربط بين البيانات المختلفة في قواعد كبيرة وفي إجراء عمليات البحث في هذه القواعد، مما يساعد على إجراء الدراسات المختلفة للخروج بالنتائج المطلوبة في صورة كاملة ودقيقة ومبسّطة، فالبيانات الأفضل تقود إلى قرار أفضل. ويعتبر هذا النظام أداة مهمة للاستفسار والتحليل لاسيما لمتخذي القرار، فيساعدهم على اتخاذ أفضل القرارات بسرعة كبيرة وفاعلية عالية.
ومن مزايا النظام أيضا أنّه يساعد على توثيق وتأكيد البيانات والمعلومات بمواصفات موحّدة، وعلى نشر هذه المعلومات لأكبر عدد من المستفيدين، وعلى التنسيق بين المعلومات والجهات ذات العلاقة قبل اتخاذ القرار، كما أنه مفيد جدًا في إجراء المحاكاة للاقتراحات الجديدة والمشروعات التخطيطية ودراسة النتائج قبل التطبيق الفعلي.
التوثيق الأثري
أدرك علماء الآثار أهمية استخدام هذه التْقنية العلمية الحديثة وتوظيفها في مجال التسجيل الأثري للمساعدة على الحفاظ على الهوية والموروث الحضاري لكل مدينة ومنطقة وموقع. وقد بدأت الدول في استخدامه على نطاق واسع للحفاظ على المواقع الأثرية المختلفة وللتنشيط والدعاية السياحية لها؛ وذلك لما يتيحه من تنظيم قواعد بيانات كاملة تتضّمن كل القضايا والمعلومات المتعلقة بهذه المواقع. وتتميّز هذه القواعد بتغذيتها وتحديثها باستمرار بكل البيانات الاجتماعية والطبيعية والبيئية والعمرانية الخاصة بالموقع الأثري.
وكان لنظام المعلومات الجغرافية أهمية كبيرة لاسيما في فترة الأزمات، مثل أزمة فيروس كوفيد-19 المعروف بفيروس كورونا المستجد؛ فإضافة إلى دور هذا النظام في معرفة مدى انتشار الفيروس، فقد كان جزءًا أساسيًا في عمل المتاحف الافتراضية التي تتيح للأفراد تنظيم رحلات افتراضية للمتاحف والمواقع الأثرية في العالم.
ويتمتع هذا النظام بإمكانات يمكن توظيفها للحفاظ على المناطق التاريخية؛ فهو يعمل على رصد وتوثيق العمران القائم لهذه المناطق بتفاصيلها من خلال صور الأقمار الاصطناعية ومراقبة النمو العمراني لها، وإجراء مقارنة للفترات الزمنية المختلفة لتحديد التغيّرات التي طرأت عليها، مما يساعد بدوره على تحديد المشكلات والتحّديات والمخاطر التي تواجهها تلك المناطق، والتي تؤثّر فيها بصورةٍ مباشرة أو غير مباشرة، والعمل على حل هذه المشكلات والحد منها بشكل علمي سليم وفق البيانات والمعطيات المدخلة.
كما يساعد النظام على تقديم الدعم للمسؤولين ومتخذي القرار بالمحاذير والتوصيات الناتجة عن التحليلات الواقعية للمشكلات، بما يسهم في اتخاذ القرار الأنسب للنفع العام في عمليات التوثيق للحفاظ على المواقع الأثرية.