د. فخري حسن
عُرفت بعض القوى الفيزيائية منذ القدم، لكنها لم تبحث بصورة علمية إلا في القرن السابع عشر عندما درس إسحق نيوتن (1727-1643) قوة الجاذبية، ووضع قوانينه الشهيرة التي عالجتها. كما عولجت الكهرباء والمغنطيسية في القرن الثامن عشر كعلمين مستقلين، واكتشف كل من أورستد (1851-1778) في الدنمارك وأمبير (1836-1775) في فرنسا تأثير التيار الكهربائي في بوصلة موجودة على مقربة منه عام 1820.
وبدأ العلماء بعد ذلك محاولاتهم لجمع علمي الكهرباء والمغنطيسية في علم واحد. وكان العالم الإنكليزي فارادي (1867-1791) يؤمن بوحدة قوانين الطبيعة، وحاول جاهداً جمعها في قانون واحد، لكنه لم يتمكن من تحقيق ذلك. كما اكتشف فارادي – تجريبياً – تأثير المجال المغنطيسي على شعاع من الضوء مما يؤكد العلاقة بينهما، واستطاع العالم الاسكتلندي ماكسويل (1879-1831) الذي كان قد تأثر بأفكار فارادي من توحيد علمي الكهرباء والمغنطيسية في علم واحد يعرف الآن بالكهرمغنطيسية. وتمكن من الحصول على أربع معادلات تعرف الآن باسمه يمكن استخدامها لدراسة المجالات الكهربائية والمغنطيسية. وبينت هذه المعادلات أن سرعة انتشار المجالات الكهربائية والمغنطيسية تساوي تماماً سرعة انتشار أمواج الضوء. وأكدت نظرية ماكسويل بذلك أن الضوء عبارة عن أمواج كهرمغنطيسية.
ويعتبر نجاح ماكسويل في توحيد قوتي الكهرباء والمغنطيسية في قوة واحدة وربطها بالضوء من أهم الإنجازات العلمية في القرن التاسع عشر، وهي خطوة أولى على طريق توحيد قوى الفيزياء في قوة واحدة، من خلال إيجاد نظرية واحدة يمكن استخدامها لدراسة كل شيء. ويفترض في مثل هذه النظرية أن تتمكن من تفسير كل ما يحدث في هذا الكون المترامي الأطراف من التفاعلات بين الأجسام الأولية البسيطة، وحتى نشوء وتطور الكون نفسه. فهل توجد مثل هذه النظرية وهل يتمكن العلماء من الوصول لمثل هذه النظرية المهمة الكاملة؟
توحيد الجاذبية والكهرمغنطيسية
لم تظهر محاولات جديدة لتوحيد قوى الطبيعة إلا بعد ظهور نظرية ماكسويل بفترة طويلة. فقد حاول نوردستورم (1923-1881) من جامعة هلسنكي توحيد قوة الجاذبية والقوة الكهرمغنطيسية عام 1914، واستخدم في محاولته هذه خمسة أبعاد، ولم تجد هذه المحاولة الاهتمام الكافي بها، إذ إن فكرة البعد الخامس لم تكن مقبولة في ذلك الوقت، ولم يوضح نوردستورم سبب استخدامه للبعد الخامس ولا طبيعته الفيزيائية.
ويبدو أنه تأثر بالنظرية النسبية الخاصة التي استخدم فيها آينشتاين للمرة الأولى أربعة أبعاد: ثلاثة للفضاء، وآخر للزمن عام 1905. ويمكن فهم وإدراك سبب استخدام البعد الرابع (بعد الزمن)، إذ إننا بحاجة إلى ثلاثة إحداثيات لوصف موضع جسم ساكن في الفراغ، أما إذا أخذنا الحركة بعين الاعتبار فإننا بحاجة لبعد رابع، وهو بعد الزمن. وفي الحقيقة فإننا ندرك أهمية بعد الزمن لكننا لا نستطيع رسمه لأنه بعد تخيلي كما بينت معادلات النظرية النسبية, أما الفترات الزمنية؛ مثل الثانية واليوم وغيرهما، فهي من تعريفنا، وهي بالتالي حقيقية، أما البعد الخامس فلا يمكن فهم ولا تبرير سبب استخدامه. ويبدو أن هناك سبباً آخر لعدم الاهتمام الكافي بمحاولة نوردستورم، إذ شهدت الفيزياء تطورات مهمة في تلك الفترة أدت إلى ظهور أعمال إبداعية متميزة، فقد نشر آينشتين مبدأ التكافؤ في العام نفسه، وكان محور وأساس النظرية النسبية العامة التي نشرها آينشتاين بعد ذلك بعامين. كما شهدت تلك الفترة أبحاثاً مهمة لبور ورذرفورد ولكثير من علماء الفيزياء.
كالوزا والأبعاد الخمسة
وجاءت المحاولة التالية لتوحيد قوى من الفيزياء عالم ألماني يدعى كالوزا (1954-1899)، تأثر بفكرة الأبعاد الخمسة، ووضع صيغة جديدة للنظرية النسبية العامة لآينشتين في خمسة أبعاد بدلاً من النظرية الأصلية في أربعة أبعاد. ونشر بحثاً بهذا الصدد بناء على توصية من آينشتين نفسه، إلا أنه لم يجد الاهتمام الكافي به، إذ شهدت بداية العشرينيات من القرن الماضي أعمالاً إبداعية مهمة ساهم فيها علماء كبار مثل دي برولي وشرودنغر وهايزنبرغ وديراك. وأدت هذه الأعمال إلى ظهور نظرية الكم التي تختلف عن النظرية الكلاسيكية التي استخدمها كالوزا في بحثه.
ثم تمكن العالم السويدي كلاين من التغلب على هذه المشكلة عام 1926 عندما زاوج بين بحث كالوزا ونظرية الكم، وكتب المعادلة في خمسة أبعاد، وبين أنه يمكن حل هذه المعادلة الموجية والحصول على معادلات النظرية النسبية العامة ومعادلات ماكسويل في أربعة أبعاد.
وحاول كلاين كذلك تفسير اختفاء البعد الخامس بالقول إنه بعد لولبي دوري يلتف حول نفسه في حلقات متتالية قطرها غاية في الصغر. واستخدم شحنة الإلكترون وقوة الجاذبية لحساب محيط ونصف قطر هذه الحلقات ووجد أن نصف قطرها يساوي نحو 10-35متر (تعرف هذه المسافة الآن بطول بلانك)، وهكذا فإنَّ ما نسميه نقطة في فضائنا الرباعي هو في الحقيقة – بحسب هذا التصور – عبارة عن كرة صغيرة جدا نصف قطرها 10-35متر.
وفقدت جميع هذه المحاولات لتوحيد قوتي الفيزياء أهميتها بعد ذلك بسنوات قليلة، إذ اكتشفت قوتان جديدتان هما القوة النووية والقوة الضعيفة، وأصبح عدد قوى الفيزياء المعروفة أربع قوى. وحاول آينشتين على مدى أكثر من 20 عاماً توحيد هذه القوى في نظرية واحدة، لكن جهوده لم تتكلل بالنجاح، وتوقفت أو تجمدت محاولات توحيد قوى الفيزياء، ولكن إلى حين.
مرحلة جديدة
بدأت مرحلة جديدة لتوحيد قوى الطبيعية في بداية ستينيات القرن الماضي بعد وفاة آينشتين بخمسة أعوام، عندما تمكن جلا شاو من توحيد القوتين الكهرمغنطيسية والضعيفة فيما يعرف الآن بالقوة الكهرضعيفة. وواجهت نظريته بعض الصعوبات وعلى الخصوص فشلها في استخدام جسيمات تفاعل بكتل مناسبة. وتمكن عبد السلام من باكستان وواينبرغ من الولايات المتحدة – كل على انفراد – من تطوير هذه النظرية عام 1967 للنظرية الكهرضعيفة الحالية.
واستخدمت هذه النظرية ثلاثة جسيمات للتفاعل الضعيف، سُمّيت بالبوزونات الوسيطة. وعلى الرغم من أنَّ الجسيمات المشحونة تؤدي دوراً معروفاً في النظرية فإن البوزون المتعادل (جسيم متعادل يعرف أحياناً بالتيار المتعادل) لم يكن متوقعاً. وقد بينت هذه النظرية ان التفاعلات الكهرمغنطيسية والتفاعلات الضعيفة لها طبيعة واحدة.
ولاقت النظرية الكهرضعيفة نجاحاً كبيراً عام 1973 عندما تم الكشف تجريبياً عن التيار المتعادل الذي تنبأت به النظرية. وتعزز نجاح النظرية بعد عقد من الزمن عندما تمكن روبيا وفاندر مير من إنتاج جسيمات التفاعل الضعيفة بنفس الكتل المحسوبة من النظرية في المختبر الأوروبي لفيزياء الجسيمات الأولية CERN قرب مدينة جنيف السويسرية.
وحصل العلماء جلا شاو وعبد السلام وواينبرغ على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1979، كما حصل روبيا وفاندمير على الجائزة نفسها عام 1984. وهكذا فقد حققت محاولات توحيد قوى الفيزياء نجاحاً باهراً خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي.
النموذج المعياري
شهدت فترة الستينيات من القرن الماضي جهوداً حثيثة لوضع نظرية كمية تفسر القوة النووية، تعرف بنظرية ديناميكا اللون الكمية QCD، وتفترض هذه النظرية وجود جسيمات أولية حقيقية سميت بالكوارك Quark، حيث يوجد في الوقت الحاضر ستة جسيمات مختلفة منها. ويمكن لكل من هذه الجسيمات أن يوجد في إحدى ثلاث حالات مختلفة ميزت بالألوان الأحمر والأخضر والأزرق (يمكن تسميتها بشحنة اللون).
وفي الحقيقة فإن هذه الألوان لا علاقة لها باللون العادي، لكنها صفة مميزة للكوارك مثل صفة الشحنة الكهربائية، فهي إما سالبة أو موجبة.
وتتفاعل هذه الجسيمات مع بعضها من خلال جسيمات تفاعل تعرف بالغلون Gluons، وتفترض النظرية وجود ثمانية من هذه الجسيمات، التي يؤدي امتصاصها أو انطلاقها إلى تغيير الكوارك وتحوله إلى كوارك آخر. ويؤدي الغلون في هذه النظرية الدور الذي يؤديه الفوتون في النظرية الكهرمغنطيسية.
وحققت نظرية ديناميكية اللون الكمية بعض النجاح مما شجع العلماء على القيام بمحاولات للجمع بين هذه النظرية ونظرية الكهرضعيفة لتصبحا نظرية واحدة. وتعود المحاولة الأولى في هذا المجال لجورجي وجلا شاو حيث دمجا النظريتين فيما عرف بالنظرية الموحدة العظمى GUT.
وتفترض هذه النظرية وجود نوعين من الجسيمات الأولية الحقيقية التي تتجمع لتكون المادة الكونية هما اللبتوناتLeptons (عائلة الإلكترون) والكواركات Quarks التي تدخل في تركيب كل من البروتون والنيوترون داخل نواة الذرة. ويوجد في الوقت الحاضر ستة أنواع مختلفة من كل منها، كما يوجد لكل منها جسيم مضاد أو ضديد Antiparticle. واستطاعت النظرية تجميع هذه الجسيمات في بوتقة واحدة حيث يمكن أن يحدث تحول فيما بينها. واستخدمت النظرية لتحقيق ذلك 24 جسيماً من جسيمات التفاعل معظمها لم يكن معروفاً في ذلك الوقت.
وعلى الرغم من النجاح الذي حققته النظرية فإنها عانت بعض المشكلات، فلم تستطع تفسير الفرق الشاسع بين كتل الأجسام المستخدمة في التفاعل والذي يزيد في بعض الحالات عن عشرة ملايين ملايين مرة. كما تنبأت النظرية باضمحلال البروتون بفترة نصف عمر قدرتها بنحو 1031 عام (واحد وأمامه 31 صفراً). وصممت عدة تجارب ضخمة للكشف عن اضمحلال البروتون لكن النتائج كانت سلبية. وقد ظهرت عدة صيغ من هذه النظريات يطلق عليها الآن اسم النموذج العياري أو المعياري The Standard Model.
ومن المشكلات التي واجهت نظرية النموذج المعياري العدد الكبير من الجسيمات التي ظهرت فيها، لاسيما أن صفات هذه الجسيمات (مثل الكتلة والشحنة والسبين Spin وغير ذلك) لا يمكن حسابها من النظرية، وإنما تضبط باستخدام الدراسات والأبحاث التجريبية.
وهذا يختلف عن نظرية ماكسويل الكهرمغنطيسية، حيث استطاعت النظرية حساب سرعة الضوء بدقة كبيرة. كما أن النموذج العياري يعالج المادة المعروفة في الكون والتي تقدر بنحو %4 فقط من مادته، أما بقية المادة الكونية (%96) فهي معتمة غير مشعة وغير معروفة بصورة يقينية حتى الآن.
ومع ذلك فقد ترسخت نظرية النموذج العياري قبل أكثر من عامين عندما تم الكشف عن بوزون هيغز (Higgs Boson) أو جسيم هيغز، وهو جسيم من جسيمات النموذج العياري قضى العلماء أكثر من نصف قرن في البحث عنه. وتم الكشف عن الجسيم في تجارب الطاقة العالية في مصادم الهادرون العملاق (LHC) قرب مدينة جنيف السويسرية في الرابع من يوليو 2012.
وتعود أهمية جسيم هيغز إلى أن تفاعل مجاله مع الجسيمات الأولية في النموذج العياري يحدد كتلها، كما افترض الفيزيائي البريطاني بيتر هيغز من جامعة أدنبرة عام 1964. وحصل بيتر هيغز وفرنسوا إنجلتر، من جامعة بروكسل الحرة، على جائزة نوبل في الفيزياء عام 2013 لمساهمتهما النظرية في اكتشاف ميكانيكية تحديد كتل الجسيمات الأولية في النموذج العياري.
وقد وحد النموذج العياري بين ثلاث من قوى الفيزياء هي: القوة الكهرمغنطيسية والقوة الضعيفة والقوة النووية في بوتقة واحدة. أما قوة الجاذبية، وهي أقدم القوى التي عرفها الإنسان وأضعفها، فقد بقيت خارج هذا النموذج . وقد جرت محاولات جادة خلال العقود الماضية لضم قوة الجاذبية للنموذج العياري.
تمرد قوة الجاذبية
تمتاز قوة الجاذبية Gravity بمداها الطويل مقارنة بالقوى الفيزيائية الأخرى. فقوة الجاذبية هي القوة المسؤولة عن توازن وتركيب الكون بالصورة التي نراها ونعرفها في الوقت الحاضر. وحاول العلماء منذ فترة طويلة ضم قوة الجاذبية لقوى الفيزياء الأخرى التي توحدت في النموذج العياري.
وواجهت العلماء مشكلة أساسية تتمثل في أن النموذج العياري يعالج الأجسام الأولية على صورة جسيمات نقطية لا تركيب داخليا لها، وليست ذات أبعاد. ومدى قوة الجاذبية طويل، ولا تعطي هذه القوة بالتالي أجوبة منطقية عندما تؤول المسافة إلى الصفر في حالة الأجسام النقطية، بل تعطي كميات لانهائية. وحاول العلماء حل هذه المشكلة من خلال تطوير نظرية الجاذبية التي وضعها آينشتين لنظرية جذب كمية للتغلب على مشكلة الكميات اللانهائية .
فرط الجاذبية
قامت النظرية النسبية العامة لآينشتين التي عممت نظرية جاذبية نيوتن على مبدأ التناظر. ويقول المبدأ إنه لا يمكن التمييز بين الظواهر الناتجة عن قوة الجاذبية وتلك التي تنتج عن الحركة المتسارعة. وتم تعميم هذا المبدأ لمبدأ فرط التناظر الذي يربط بين نوعين من الجسيمات الأولية، هما: الفيرمونات، نسبة إلى عالم الفيزياء النووية الإيطالي فيرمي، والبوزونات، نسبة للعالم الهندي السير بوز.
وتمثل الفيرمونات جسيمات مادية أولية مثل الإلكترون في حين تمثل البوزونات جسيمات التفاعل أو نقل القوة وهي غير مادية مثل الفوتون. ويوجد حسب هذا المبدأ لكل بوزون جسيم مادي (فيرمون) مناظر, والعكس أيضاً صحيح، إذ يوجد لكل جسيم مادي جسيم تفاعل (بوزون) مناظر.
ويعتبر الإلكترون أشهر الجسيمات المادية الأولية، وحسب هذا المبدأ يوجد جسيم تفاعل مناظر له يعرف بـSelectron. أما الفوتون وهو جسيم تفاعل فإن نظيره المادي يعرف باسم Photino، وهكذا مع بقية الجسيمات الأولية الأخرى. ولا يوجد في الحقيقة حتى الآن أي دليل تجريبي على أنَّ هذا النوع من التناظر موجود في الطبيعة.
واستخدم العلماء مبدأ فرط التناظر لبناء نظرية جاذبية جديدة أعم وأشمل من نظرية الجاذبية التي وضعها آينشتين، وعرفت هذه النظرية باسم نظرية فرط الجاذبية Theory Super Gravity. وتمكن العلماء من بناء عدة صيغ من هذه النظريات في 11 بعداً كحد أقصى.
وظهرت أهمية استخدام هذا العدد من الأبعاد عندما بين الفيزيائي ويتين من جامعة برنستون أن النموذج العياري يستخدم على الأقل 11 بعداً. واستخدم العلماء فكرة كلاين عن الأبعاد اللولبية الملتفة على نفسها لتفسير عدم ظهور هذه الأبعاد على أرض الواقع. وتختلف نظرية فرط الجاذبية عن نظرية الجاذبية في عدد جسيمات التفاعل التي أصبح عددها 8 جسيمات بدلاً من جسيم واحد هو الغرافتون في النظرية القديمة.
نظرية الوتر
تعود فكرة استخدام الوتر أو الخيط String لتمثل الجسم الأولي إلى الفيزيائي الإيطالي فينيزيانو الذي استخدمه في محاولة منه لوضع نظرية لتركيب نواة الذرة عام 1968. وتفترض نظرية الوتر أن جميع الجسيمات الأولية في النموذج العياري ناتجة عن اهتزاز وتر صغير بأنماط مختلفة، ويماثل ذلك النغمات المختلفة لوتر الغيتار المشدود.
والوتر صغير جداً (نصف قطره نحو 10-35 م)، ذو بعد واحد، يخضع لشد Tension وليس له تركيب داخلي ويمكن معالجته بصورة كلاسيكية أو كمية. وتفترض النظرية أن الأجسام الأولية الموجودة ناتجة عن الحالات الكمية المختلفة لهذا الوتر المهتز. ويمكن تبسيط ذلك بالقول النظري إن الإلكترون – عند رصده عن بعد – يبدو لنا كنقطة, أما إذا استخدمنا مجهراً عملاقاً لرصده عن قرب فإن حقيقته تظهر على صورة خيط – أو وتر رفيع جداً مثل الشعرة – تهتز بنمط معين.
وكانت نظرية الوتر الأصلية في 26 بعداً، وعالجت البوزونات أو جسيمات التفاعل فقط دون التعرض للجسيمات المادية. ثم طورت النظرية لنظريات عدة في سبعينيات القرن الماضي تبعاً لحالة الوتر إذا ما كان مفتوحاً أو مغلقاً، ويمكن لبعض الأوتار المغلقة أن تتحول إلى أوتار مفتوحة وليس العكس. وتم معالجة جميع الجسيمات الأولية بواسطة هذه النظريات التي أصبحت في 10 أبعاد فقط، وواجهت هذه النظريات مشكلات كثيرة مثل الكميات اللانهائية وكذلك الجسيمات التي تسير بسرعة أكبر من سرعة الضوء التي تنبأت بها. وطور العلماء هذه النظرية لنظرية أعم وأشمل، وهي نظرية فرط الوتر.
نظرية فرط الوتر
حقق غرين من كلية ماري الملكية – لندن، وشوارتس من معهد كاليفورنيا للتقانة عام 1984 تقدماً مهماً في عملية توحيد قوى الفيزياء، عندما دمجا بين نظرية الوتر ونظرية فرط الجاذبية فيما يعرف الآن بنظرية فرط الوتر. ويمثل الجسم في هذه النظرية بوتر صغير يهتز في عشرة أبعاد، وله خاصية معينة, مثل الشحنة، لكنها ليست شحنة كهربائية, تحدد هذه الخاصية الترددات, ومن ثم الأجسام التي قد تصدر عن الوتر الذي قد يكون مغلقاً أو مفتوحاً . وقد تمكنت النظرية من إنتاج جسيمات التفاعل والجسيمات المادية على حد سواء. وتخلصت النظرية من كثير من المشكلات التي واجهت النظرية السابقة مثل الكميات اللانهائية والجسيمات التي تسير بسرعة أكبر من سرعة الضوء.
وبدلاً من نظرية واحدة فقد ظهرت خمس نظريات لها الصورة العامة نفسها، لكنها تختلف في التفاصيل. والمشكلة الأساسية أن هذه نظريات عدة وليست نظرية واحدة ولا يمكن فحصها أو اختبارها من خلال التجارب العملية.
نظرية الغشاء
بدأت ثورة جديدة في عملية توحيد قوى الفيزياء منتصف تسعينيات القرن الماضي عندما اقترح ويتّن في مؤتمر عام 1995 أن النظريات الخمس الآنفة الذكر عبارة عن حالات وبخاصة في نظرية أعم وأشمل، سماها نظرية الغشاء M- Theory، وقد يعني الحرف M الغشاء Membrane أو جميع النظريات (mother of all theories) أو شيئاً آخر غير ذلك.
والغشاء في هذه النظرية ذو بعدين، بدل البعد الواحد في حالة الوتر. ويهتز في فضاء ذي 11 بعداً. وحسب هذه النظرية فإن جسيمات الكون عبارة عن أغشية مختلفة الأبعاد. فإذا كان الجسيم نقطياً, كما هي الحال في النموذج العياري, فإنَّ الغشاء يكون من دون أبعاد، ويرمز له بـ(0-brane). أما إذا كان وتراً ببعد واحد فيرمز له بـ(1-brane), وفي حالة الغشاء فيكون ببعدين ويرمز له بـ(2-brane) وهكذا إلى 10-brane. أما البعد الحادي عشر فهو بعد للزمان.
لقد كان الفيزيائي الإنجليزي المعروف بول ديراك أول من استخدم الغشاء لتمثيل الجسيم الأولي قبل ذلك بنحو ربع قرن. لقد افترض أنه يمكن تمثيل الإلكترون بغشاء أو فقاعة صغيرة، ويمكن لهذه الفقاعة المهتزة أن تعطي كلاً من الإلكترون والميون (وهو إلكترون كبير) على حد سواء.
وحققت نظرية الغشاء نجاحاً كبيراً وتغلبت على معظم العقبات التي اعترضت النظريات السابقة، لكن النظرية ما زالت في بداياتها وهي بحاجة إلى كثير من الدراسات والأبحاث لكي توحد قوى الفيزياء جميعاً في قوة واحدة، ويعتقد بعض الباحثين أن هذه النظرية يمكن أن تطور في المستقبل لتصبح نظرية كل شيء.