ربما تستحضر عبارة تقنية النانو في أذهان معظم الناس صور روبوتات صغيرة أو أدوات تنتمي إلى عالم الخيال العلمي. لكن علي بومجداد، أحد أبرز خبراء تقنية النانو في الكويت، يستخدم معرفته لإجراء أبحاث على مادة أكثر شيوعًا ألا وهي الخرسانة، بهدف تحسين خصائصها.
يندرج عمل بومجداد على الخرسانة في نطاق اهتمامه الأوسع بالتطبيقات البيئية لتقنية النانو. عن عمله قال: “إن أحد التطبيقات الرئيسية لتقنية النانو هي البيئة. فتقنية النانو هي في الواقع علم ظواهر الأسطح، إذ ترتبط أكثر الطرق فعالية لحل المشكلات البيئية بكيمياء السطح”. فقد أجرى على سبيل المثال بحثًا حول تنقية المياه وتطوير محفِّز يمكنه تقليل الغازات السامة الناتجة أثناء استخراج البتروكيماويات ومعالجتها. في كلتا الحالتين، كان أحد الجوانب الرئيسية للتقنية هو التحكم في المسامية لتكتسب المادة حجم المسام المناسب والتكوين المناسب للتفاعلات الكيميائية المتوخاة.
مشروع الخرسانة البحثي وضعه زميل بومجداد حسن كمال الذي طرأت له الفكرة عندما التحق بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا MIT كجزء من أبحاث التفرغ العلمي. يتمثل النطاق العام للمشروع في تحسين استدامة المباني والإنشاءات في الكويت، وقد استُعين ببومجداد للتعامل مع الخرسانة من منظور تقنية النانو، ودراسة الإضافات التي يمكن أن تحسن إنتاج الخرسانة وقوة تحملها.
وهذا المشروع مموّل من قبل مؤسسة الكويت للتقدم العلمي ويُنفذ من خلال التعاون بين جامعة الكويت ومعهد الكويت للأبحاث العلمية ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. ولمتابعة التفاعلات شديدة التعقيد التي تحدث عند خلط الخرسانة، استعان بومجداد وزملاؤه ببعض المختبرات الوطنية الأمريكية، مثل مختبر أوك ريدج الوطني Oak Ridge National Laboratory والمعهد الوطني للمعايير والتكنولوجيا National Institute of Standards and Technology. قال كونال كوبوادي-باتيل Kunal Kupwade-Patil الباحث في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا الذي تعاون مع بومجداد: “هذه [مؤسسات]مرموقة جدًا، ومن الصعب قبولهم لإجراء بحث هناك”.
إن فكرة استبدال بعض الأسمنت في الخرسانة واستخدام إضافات مثل الرماد البركاني ليست بجديدة: فقد استخدم الرومان القدماء الرماد البركاني لصنع الملاط وهو يُستخدم بالفعل كبديل للأسمنت. أراد فريق بومجداد معرفة ما إذا كان بإمكان الكويت تقليل التكلفة الاقتصادية والبيئية للخرسانة باستخدام الرماد البركاني من مصدر في المنطقة. ليفعلوا ذلك، كان عليهم اختبار مدى ملاءمة الرماد البركاني من مصدر إقليمي – من المملكة العربية السعودية حيث يعد هذا الرماد من النفايات المستعصية – وتحسين عملية الخلط حتى يتمكنوا من أمثلة إنتاج الخرسانة الناتجة ومتانتها.
عدا تحسين إنتاج الخرسانة ومتانها، كان عليهم أيضًا مراعاة التأثير البيئي المحتمل لهذه العملية. قال كَبوايد-باتيل: “إن إنتاج الأسمنت للخرسانة يسهم بنحو 8 % من انبعاثات
ثاني أكسيد الكربون في العالم. … إذا كان بإمكاننا أن نستعيض عن بعض من هذا الأسمنت
بمواد طبيعية، يمكننا تقليل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون وربما حتى جعل الخرسانة أقوى وأكثر متانة”.
استفاد المشروع التعاوني من الجمع بين معرفة كَبوايد-باتيل بمواد الهندسة المدنية وخبرة بومجداد في الكيمياء وعلم النانو. وتمكنا معًا من طرح رؤية لم يسبق لها مثيل لكيفية خلط الخرسانة والتفاعلات والمميزات التي تحدد خصائصها المادية.
قال كَبوايد-باتيل: “عندما ينظر الناس إلى الخرسانة، فإنهم ينظرون فقط إلى شكلها العام، مثل الخلطة. أردنا تغيير هذا الفهم. … أردنا أن نفهم الخرسانة ونصف مميزاتها على النطاق النانوي أو حتى أدنى من ذلك – وصلنا إلى مقياس الأنغستروم Angstrom scale – وأردنا أن نفعل ذلك في الوقت الفعلي. لذا خلطنا العجينة ثم راقبنا تطورها حتى نتمكن من وصف كيف تؤثر مادة مضافة معينة في قوتها ومتانتها”.
قال بومجداد إن الفريق استخدم مزيجًا من الأساليب للحصول على صورة كاملة: “درسنا السلوك في مرحلة مبكرة باستخدام تقنيات معينة وفي مرحلة لاحقة باستخدام تقنيات مختلفة. هذا مهم، لأنك في بعض الأحيان تحسّن سلوك التفاعلات الأولى، لكنك تؤدي إلى تسريع شيخوخة الأسمنت. لذلك، كان علينا أن نفهم كلا الإطارين الزمنيين”.
في البدء تطلب الأمر التأكد من أن الرماد البركاني السعودي يحتوي على التركيب الكيميائي المناسب لاستخدامه في الخرسانة ولا يحتوي على الكثير من المواد الكيميائية السامة. بعد التأكد من أنه قابل للاستخدام وآمن، أجرى الفريق سلسلة من التجارب التي كشفت أن استبدال الرماد البركاني بما يصل إلى 20 % من الأسمنت ما زال ينتج خرسانة متينة. قال بومجداد: “لدى إضافة نسبة أكبر، بدأنا نلحظ تدهورًا في خصائص الخرسانة”.
أدى تعزيز الرماد البركاني بمادة تعرف بغبار السيليكا Silica fume إلى تحسين المكاسب. فلدى استخدام 10 % من غبار السيليكا في الخليط تمكنوا من أن زيادة نسبة الرماد البركاني إلى 30 % وأن يحصلوا على خرسانة متينة. هذا يعني خفض استخدام الأسمنت بنسبة 40 %، وهو مكسب كبير. كما أن إضافة تركيبة أخرى من السيليكا تُعرف بالسيليكا النانوية Nanosilica أنتجت خرسانة أكثر كثافة. قال بومجداد: “هذا جيد. جعلها أكثر كثافة يعني تقليل المسامية، وهذا بدوره يعني تحسين الخصائص الميكانيكية والحصول على خرسانة أقوى”.
لا يتوفر غبار السيليكا والسيليكا النانوية بسهولة في الكويت، لذا فإن استخدامها كمواد مضافة ربما لا يوفر الفوائد الاقتصادية والبيئية التي تصورها المشروع. لحسن الحظ، كشف البحث عن مسار آخر لإدخال تحسينات مماثلة على الخرسانة. قال بومجداد: “اكتشفنا أن استخدام رماد بركاني أنعم – عبر طحنه قبل استخدامه – أدى إلى تحسين خصائص الخرسانة”. وقد مكنهم ذلك أيضًا من زيادة نسبة الرماد البركاني إلى 30 % من الأسمنت مع الحصول على خرسانة متينة.
في نهاية المشروع، نظم الباحثون مؤتمراً استقطب اهتمام الباحثين في جامعة الكويت لعرض النتائج التي توصلوا إليها. كما نشروا كتابًا مع دار نشر سبرنغر Springer يتضمن وقائع المؤتمر. إضافة إلى مساعدة الكويت على تحقيق مبان أكثر استدامة، يمكن أيضًا استخدام هذا البحث لتحسين إنتاج الخرسانة في أماكن أخرى من العالم. فعلى الرغم ن أن تركيبات الرماد البركاني خاصة بما يمكن الحصول عليه من المنطقة، إلا أنه لا يزال بالإمكان استخدام طرق وبروتوكولات البحث لفهم الديناميات والبنى الدقيقة التي يمكن أن تتشكل بفعل استخدام مواد أخرى مضافة.
إضافة إلى ذلك، أعد فريق بومجداد تقريرًا مفصلاً عن النتائج التي توصلوا إليها وقدمها إلى سلطات البلدية في الكويت، جنبًا إلى جنب مع وقائع المؤتمر. قال بومجداد: “آمل أن يأخذوا ذلك في الاعتبار عند اتخاذ قراراتهم. هم صناع القرار، وليس نحن – نحن علماء”.