أحمد عبد الحميد
أدركت دول كثيرة في العالم مبكراً أهمية الانصهار في مجتمع المعلومات العالمي، فاستوعبت عبر سياساتها الوطنية وخططها الاستراتيجية شقّي هذا المجتمع بالتتابع: البنية التحتية الرقمية، والمحتوى الرقمي؛ فأولت اهتمامها الأكبر لتطوير البنى التحتية الرقمية، من أجل تحقيق التنمية المستدامة، والمشاركة الفاعلة في النظام الاقتصادي العالمي الجديد القائم على المعرفة. في حين تخلف الوطن العربي عن هذا المسار، نظراً إلى التأخر العربي النسبي في ترجمة ذلك الإدراك لديناميكيات التحول في المجتمع الإنساني العالمي من اقتصاد صناعي إلى اقتصاد معرفة إلى استراتيجية عربية تعنى بصناعة المحتوى الرقمي على وجه التحديد.
لذا بات الوطن العربي اليوم في أمس الحاجة إلى الانخراط في تجربة رقمية شاملة تتسم بالجدّية والفاعلية في مجال صناعة المحتوى الرقمي العربية، ومحاولة استحداث آليات عمل بديلة ذات أبعاد غير تقليدية بعيداً عن الحلول المستهلَكة.
وليس أدل على المحتوى الرقمي وتأثيره مما حدث في الآونة الأخيرة من تحولات إقليمية جذرية في ما اصطلح على تسميته إعلاميا (الربيع العربي) من خلال تحالف المحتوى الرقمي على الشبكات الاجتماعية (social network) مع الرغبة الجامحة لدى أقلية من أفراد المجتمع أتقنت استخدامه واستوعبت إمكاناته واستغلته على نحو فاعل في تغيير الواقع.
وهذا الأمر يدفع نحو تساؤل بدهي مفاده ما الذي سيحدث إذا توافر للأغلبية محتوى رقمي أفضل من حيث الكم والجودة وإمكانات النفاذ إليه؟ لا شك أن الإجابة ستتلخص في تحقيق التغيير الشامل والتنمية العربية المستدامة.
ولتسليط الضوء على هذه القضية المحورية، نشر مركز دراسات الوحدة العربية كتاباً جديداً للدكتور عبود رامي بعنوان: (نحو استراتيجية عربية لصناعة المحتوى الرقمي)، تزامناً مع تزايد الاهتمام بالمحتوى الرقمي على نحو مطرد في الآونة الأخيرة، لكونه يمثّل إحدى أبرز القضايا المرتبطة بالتنمية المستدامة بشقيها الاقتصادي والاجتماعي.
استراتيجية إي-عرب
وتبرز أهمية هذا الكتاب في تسليط الضوء على جوانب الواقع الحالي لصناعة المحتوى الرقمي العربية، واقتراح آليات تحسينه من خلال صياغة نموذج لاستراتيجية إقليمية تفصيلية أطلق عليها المؤلف إي – عرب (e-Arab) وليس مجرد سياسات عامة أو مبادرات منفصلة.
وقال المؤلف في مقدمة الكتاب إن هناك تبايناً كبيراً في تجارب الدول العربية وممارساتها في شـأن الاهتمام بالمحتوى الرقمي؛ فقد لاحظنا أن بعض الدول العربية قد تبنت استراتيجيات رقمية وطنية بحيث انصبت الجهود المبذولة لفئة معينة منها على تحسين شق البنية التحتية الرقمية، في حين أخذت جهود فئة أخرى أفقاً أكثر اتساعاً لبناء قطاع صناعة محتوى رقمي عربية تزامناً مع تطوير بنيتها التحتية، فيما طورت فئة ثالثة بعض الاستراتيجيات في قطاع أو أكثر من قطاعات المحتوى الرقمي، وبخاصة المرتبط بالحكومة الإلكترونية فقط على سبيل المثال، واستطاعت فئة رابعة تحقيق نجاحات كبيرة في النفاذ إلى مجتمع المعرفة عبر جهود فردية لعدد من الجهات المسؤولة، من دون أن يكون لها خطة استراتيجية وطنية موحدة تسير في إطارها، وتبقى فئة أخيرة من الدول العربية لم تقم حتى الآن بتبني أي استراتيجية وطنية بهذا الصدد.
وعلى الرغم من ذلك التباين في توجهات الدول العربية نحو مجتمع المعرفة، فهي تشترك جميعها في سمة أخرى غير إيجابية؛ وهي عدم وجود استراتيجية محلية عربية واحدة تتمحور بوضوح حول المحتوى الرقمي كخيار استراتيجي لا بد منه لتحقيق تنمية مستدامة، ومن ثم كان من البديهي ألا تكون هناك استراتيجية إقليمية عربية للمحتوى الرقمي تستند إلى أسس التكامل والتكتل العربي في هذا القطاع، وهو ما يعد أحد أبرز الأسباب التي أدت إلى ضعف هذه الصناعة الشديدة الأهمية داخل الوطن العربي، وما نتج عن ذلك من تخلف الوطن العربي عن دول اقتصاد المعرفة الجديد ووجود حالة التبعية الحالية، كما أثر ذلك سلباً في معدلات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وساهم في وضع الهوية العربية في مواجهة غير متكافئة مع العديد من التحديات والأخطار في الوقت نفسه.
وأفاد المؤلف بأنه بناء على ذلك، فإن إيجاد أرضية إقليمية مشتركة تنطلق منها استراتيجية عربية موحدة تسعى إلى إقامة صناعة إقليمية منافسة للمحتوى الرقمي أصبح أمراً ملحاً وضرورياً، غير أنه من الإنصاف تأكيد محاولات بعض الدول العربية في سبيل إحراز خبرات جيدة في تلك الصناعة، كما هي الحال في مصر والأردن والإمارات والسعودية على سبيل المثال، بيد أنها قطاعات بعينها من قطاعات المحتوى الرقمي دون الأخرى، كقطاعات التعليم الإلكتروني وبرمجيات اللغة العربية على سبيل المثال. ولعل إحداث تكتل عربي في صناعة المحتوى الرقمي يمكن أن ينطلق بتلك الخبرات الشابة إلى أبعاد جديدة.
وبناء على ذلك فإن الاستراتيجية الإقليمية الموحدة لصناعة المحتوى الرقمي التي اقترح نموذجاً أولياً لها تسعى إلى تجسيد حالة من التكامل لتلك الجهود المحلية العربية المتفرقة، بحيث يتم الانتقال بصناعة المحتوى الرقمي العربية إلى آفاق تنافسية عالمية جديدة.
الاستراتيجية: النموذج والآفاق
ورأى الدكتور عبود أنه بناء على ذلك فقد أخذنا على عاتقنا ضمن مراحل منهجية معقدة وطويلة مهمة صياغة أول نموذج لاستراتيجية إقليمية أطلقنا عليها (أي-عرب) (e-Arab) وهي استراتيجية لا تقتصر على مجرد سياسات عامة أو مبادرات منفصلة في مجالات بعينها – كما كانت الحال في السابق- بل إنها خطة تفصيلية متكاملة قدر المستطاع، كما قمنا لاحقاً باستطلاع آراء النخبة من الخبراء المتخصصين حولها باستخدام طريقة دلفي (Delphi method)، وهكذا أصبح نموذج الاستراتيجية المقترح _حسبما نعتقد _ جاهزاً لتقديمه إلى صانع القرار العربي لتبنيه وتنفيذه بعد اتخاذ اللازم بشأنه في ضوء المتغيرات المحلية والإقليمية الجارية منها والمتوقعة.
وعرج المؤلف في الكتاب على نموذج الاستراتيجية بمزيد من التفاصيل، وأبرز نتائج استطلاع آراء النخبة حوله، وذلك بعد تسليط بعض الضوء على الحالة الراهنة فيما يتعلق بالمحتوى الرقمي العربي وصناعته.
وأورد المؤلف بعض الحقائق حول المحتوى الرقمي العربي، منها أنه على الرغم من أن اللغة العربية هي إحدى اللغات الست المستخدمة في الأمم المتحدة، فإن المحتوى الرقمي العربي عام 2003 احتل المرتبة العشرين تقريباً بين لغات العالم من حيث الكم، غير أن التحولات السياسية والاجتماعية التي التي مرت بها المنطقة العربية في الآونة الأخيرة حققت قفزة نوعية في إثراء المحتوى الرقمي العربي والوصول إليه عبر الإنترنت عن طريق الشبكات الاجتماعية والتطبيقات الإعلامية الأخرى، ومن خلال المساهمات الفردية وتحميل النصوص والفيديو وغيرها من مواد المحتوى الرقمي، لذا فقد قفزت اللغة العربية عام 2011 إلى المرتبة السابعة في تسلسل اللغات المستخدمة على الإنترنت.
وقدرت بعض الدراسات سوق المحتوى الرقمي العالمي لعام 2011 بأقل من 3000 مليار دولار. ومن المتوقع أن يصل هذا الرقم إلى 3800 مليار دولار عام 2015. وتم تقدير حصة المنطقة العربية من سوق المحتوى العام اعتمادا على فرضيات نسبية بما يقارب 88.8 مليار دولار عام 2011 و112.2 مليار دولار عام 2015.
وبناء عليه قدرت قيمة المحتوى الرقمي من إجمالي المحتوى لتكون في حدود 18 مليار دولار عام 2011 و26 مليار دولار عام 2015.
المحتوى الرقمي ومجتمع المعرفة
تضمن الكتاب أربعة فصول، تضمن الفصل الأول دراسة وثائقية نظرية لصناعة المحتوى الرقمي وبعض مفاهيمها الأساسية في إطار النظر إلى واقعها العربي الحالي، وذلك من خلال تسليط الضوء على ماهية المحتوى الرقمي ومجالاته، وعلاقته بمجتمع المعرفة، ثم التعريف بواقع الصناعة العربية للمحتوى، وحجمها، وماهية منتجاتها، وفجوة المحتوى على مستوى الأفراد والمؤسسات والمجتمعات، والجوائز المحلية والإقليمية، وتشريح سوقها الحالية والمتوقعة، وعلاقة منتجاتها ببعض القضايا مثل التنوع اللغوي والثقافي، والقضية الجدلية المتعلقة بتضييق فجوته أم سدها.
أما الفصل الثاني فقد تضمن مراحل التخطيط والإعداد لصياغة نموذج استراتيجية صناعة المحتوى الرقمي العربية المقترحة التي تدعى إي – عرب (e-Arab)، حيث الطرق والروافد المنهجية التي صيغ نموذج «إي – عرب» خلالها عبر إصداريه الأولي والنهائي، ونتائج تحليل سوات (SWOT) للحالة الراهنة والمتوقعة لصناعة المحتوى الرقمي العربية، ورؤية «إي – عرب» الاستراتيجية، والملامح العامة لها، وكذلك الملامح الأساسية المتمثلة في تفاصيل مبادرتي ممر العرب الرقمي المتقاطع، والمجلس العربي للمحتوى الرقمي، باعتبارهما مكونيْن أساسيّين من مكونات الاستراتيجية المقترحة.
واشتمل الفصل الثالث على الإصدار النهائي من نموذج استراتيجية صناعة المحتوى الرقمي العربية المفتوحة أو «إي – عرب»، التي قام المؤلف بصياغة إصدارها الأولي من خلال الروافد واللبنات المنهجية الأولية التي تشكلت خلال مراحل سابقة. ثم التأكد من سلامة نموذج الاستراتيجية المقترح، وتنقيح بعض مكوّناته، وإضافة بعض نواقصه، بواسطة الاستعانة بمجموعة نخبوية ضيّقة تدعى (مجموعة الخبراءA)، وفي إطار مساهماتهم بالتعاون مع المؤلف، لينتج من ذلك الإصدار النهائي من «إي – عرب».
وتضمن هذا الفصل خطة العمل بمحاورها وأهدافها ومبادراتها الاستراتيجية، واشتمل على أمور أخرى ذات صلة وهي أولويات تنفيذ المبادرات الاستراتيجية، والخطة الزمنية، وآليات التنفيذ والمتابعة، وتفاصيل حول مختلف فئات أصحاب المصلحة المتوقع مشاركتهم في عمليات تنفيذ الاستراتيجية والأدوار المقترحة لكل منهم.
استطلاع الخبراء العرب
وضم الفصل الرابع والأخير نتائج عملية استطلاع آراء الخبراء والمتخصصين حول نموذج استراتيجية «إي – عرب» – في إصداره النهائي – بالاستعانة بمجموعة نخبوية أوسع من سابقتها تدعى (مجموعة الخبراء B)، وذلك عبر ثلاث جولات باستخدام طريقة «دلفي» للتعرّف إلى توجهات الخبراء المتباينة في إطاره، ومدى التوافق الجماعي حوله، حيث تضمّنت الجولتان الأولى والثالثة مساهمات كمية ونوعية بشأن فرضيات الدراسة المرتبطة بنموذج «إي – عرب» ومضمونه ومكوناته، في حين انطوت الجولة الثانية على المساهمات النوعية فقط، حيث تم خلالها استئناف النقاش حول بعض الفرضيات التي لم تحقق توافقاً تاماً بين جميع الخبراء خلال الجولة الأولى، وهي الفرضيات ذاتها التي تم إعادة استطلاع آراء الخبراء حولها خلال الجولة الثالثة. وبناء على مساهمات الخبراء النوعية، ونتائج جولات «دلفي» الكمية، تم استنباط الأخطار التي تهدّد تنفيذ أهداف ومبادرات «إي – عرب» بشكل خاص والنهوض بصناعة المحتوى الرقمي العربية بشكل عام، وكذلك مجموعة الحلول المقترحة وآليات التغلب على تلك الأخطار.