منظمة الصحة العالمية ومكافحة الأمراض الوبائية الفيروسية
د. قاسم السارة
يعـــرَّف الوبـــــاء Epidemic بأنه حدوث حالات متزايدة من أحد الأمراض في مجتمع ما بزيادة واضحة عن المتوقع أو عمّا يحدث عادة. وتوجب القوانين بضرورة التبليغ الفوري عن مثل هذه الحالات، واستكمال إجراء الدراسات الوبائية المباشرة. ومن الأمراض الوبائية التي يجب التبليغ عنها عالمياً ما تسببه الجراثيم، مثل الطاعون والتهاب السحايا بالمكورات السحائية، ومن تلك الأمراض الوبائية ما تسببه الفيروسات؛ وهي الحمى الصفراء، وشلل الأطفال، والإنفلونزا، والجدري، وحالات الحمى التي تسببها فيروسات تنقلها الحشرات، وتترافق عادة بالنزوف، وبالتهاب الدماغ، مثل حمى الضنك، والتهاب الأمعاء بالفيروسات التي تسبب الإسهال مثل الفيروسات العَجَلية (روتا)، والتهابات الكبد الفيروسية.
ترافقت العولمة والتزايد الهائل في السفر الدولي، ونقل البضائع براً وبحراً وجواً؛ مع ازدياد مماثل في فرص انتشار الأمراض الوبائية على الصعيد العالمي، مثل متلازمة الالتهاب الرئوي الوخيم الحاد (سارس) في سنة 2003، ثم أوبئة الإنفلونزا التي تتالت بأنماط مختلفة عزيت مصادرها إلى الطيور والخنازير والجمال. وهذا كله أقنع حكومات العالم بأهمية الدفاع الجماعي والمنسَّق ضد الأخطار الناشئة التي تهدد الصحة في العالم.
ويساهم في مكافحة الأمراض الوبائية كل من الحكومات والمنظمات الصحية الوطنية والإقليمية والدولية، دون أن يعفي ذلك أي فرد من القيام بدور إيجابي لحماية نفسه وأسرته والمحيطين به من أخطار العدوى. وتكمن أهمية الأدوار المختلفة لكل طرف من تلك الأطراف في تكاملها واعتماد بعضها على بعض.
وتعتبر منظمة الصحة العالمية المنظمة الرئيسية المعنية بمكافحة الأمراض الوبائية، وتتعاون في ذلك مع المنظمات الشقيقة المعنية بصحة الأطفال مثل اليونيسيف، والمعنية بالصحة الحيوانية، والمعنية بالتجارة والنقل البري والبحري والجوي.
أهداف المنظمة
نص دستور منظمة الصحة العالمية الذي دخل حيّز النفاذ في السابع من أبريل 1948، وهو التاريخ الذي أصبح يُعرف بيوم الصحة العالمي ويُحتفل به كل عام، على أن هدفها هو «أن تبلغ جميع الشعوب أرفع مستوى صحي ممكن…»، وعلى أن «التمتع بأعلى مستوى من الصحة يمكن بلوغه هو أحد الحقوق الأساسية لكل إنسان…».
وعرَّف دستور المنظمة الصحة بأنها «اكتمال السلامة بدنياً وعقلياً واجتماعياً، لا مجرد انعدام المرض أو العجز…». وأشار الدستور إلى أن من بين وظائف المنظمة «تشجيع واستحثاث الجهود الرامية إلى استئصال الأمراض الوبائية والمتوطنة وغيرها من الأمراض…». وفي المقابل طلب الدستور من الدول الأعضاء أن تقدم «تقارير إحصائية ووبائية…». ومن هنا كانت المنظمة هي السلطة التوجيهية والتنسيقية ضمن منظومة الأمم المتحدة في المجال الصحي، وفي معالجة المسائل الصحية التي تثير القلق على الصعيد العالمي، وتصميم برنامج البحوث الصحية، ووضع القواعد والمعايير في الرعاية الصحية، وتوضيح الخيارات السياسية المسندة بالبيّنات، وتوفير الدعم التقني للبلدان ورصد الاتجاهات الصحية وتقييمها. وتتحمل المنظمة مسؤولية مشتركة تنطوي على ضمان المساواة في الحصول على خدمات الرعاية الأساسية وعلى الوقوف بشكل جماعي لمواجهة الأخطار التي تعبر الحدود الوطنية.
وتعمل منظمة الصحة العالمية على بلوغ أهدافها من خلال القيام بوظائفها الأساسية، وهي توفير القيادات والشراكات الصحية، وبلورة البحوث لتوليد المعارف الصحية ونشرها، ووضع القواعد والمعايير وتعزيز ورصد تنفيذها، وتعزيز الممارسات الأخلاقية والمسندة بالبيّنات، وإتاحة الدعم التقني، وحفز التغيير وبناء القدرة المؤسسية المستدامة، ورصد الوضع الصحي، وتقييم الاتجاهات الصحية.
اللوائح الدولية
ولعل أهم الأدوات التي طورتها منظمة الصحة العالمية للتصدي للأمراض الوبائية هي اللوائح الصحية الدولية، وهي صك قانوني دولي ملزم للدول التي وقّعت عليه، وهي جميع الدول الأعضاء في المنظمة، وعددها 194 بلداً، يستهدف تعزيز وتنسيق العمل الصحي الدولي، وتعزيز دور كل بلد في الكشف عن الأمراض التي يمكنها أن تتحوّل إلى أوبئة، وأن تنتشر عبر الحدود، وتهدِّد الناس في أرجاء العالم، وذلك بعد التثبّت منها على وجه السرعة.
وقد اعتمدت منظمة الصحة العالمية في 23 مايو 2005 اللوائح الصحية الدولية بصيغتها المنقحة، لتدخل حيِّز التنفيذ في 15 يونيو 2007، ومن ثم لتصبح إطاراً قانونياً يدعم الأساليب الموجودة من قبل، والأساليب المبتكرة التي تستند إلى الخبرات المتراكمة في مكافحة الأمراض الوبائية، والتي تمت الاستفادة منها في الكشف الشامل عن الأحداث والاستجابة لمقتضيات الأخطار المحتملة المحدقة بالصحة العمومية والطوارئ الصحية العمومية.
وتقع مسؤولية تنفيذ اللوائح الصحية الدولية بصورة رئيسية على كل من منظمة الصحة العالمية والدول الأطراف، دون أن تهمل أدوار الأفراد والمجموعات الصغيرة العدد وأصحاب المهن الصحية والمجتمعات، فلكل منها دوره في مواجهة الأمراض الوبائية بصورة ملائمة عند ظهورها، والتخفيف من وطأة آثارها على صحتهم أولاً ثم على سلامة وعافية ورفاهية سكان العالم بأجمعهم، والحفاظ على قوة الاقتصاد العالمي، والتبادل التجاري والسفر الدولي.
المنظمة والأمراض الوبائية
تقوم منظمة الصحة العالمية بدور كبير بهدف التصدي للأمراض الوبائية، ومن أهم أدوارها:
> الاستعانة بالخبراء وبالمراكز الأكاديمية المتعاونة معها، ومراكز البحوث الصحية الكبيرة لتعريف وتحديد الأمراض الوبائية، والأحداث التي يمكن أن تصبح إحدى حالات الطوارئ الصحية العامة التي تثير القلق على الصعيد الدولي، والتثبت من وقوعها.
> تعيين مكتب اتصال داخل المنظمة ليكون مسؤولاً عن تلقي ومتابعة ما يصل إليها من بلاغات بوقوع أمراض وبائية يمكن أن تصبح إحدى حالات الطوارئ الصحية العامة التي تثير القلق على الصعيد الدولي، ليعمل على مدار 24 ساعة يومياً، طوال الأسبوع.
> تشكيل لجنة الطوارئ لمتابعة تنفيذ اللوائح الصحية الدولية (2005) لتبدي وجهات نظرها وتقدم المشورة إلى المدير العام, بشأن التوصيات المؤقتة فيما يتعلق بأنسب تدابير الصحة العمومية وأكثرها ضرورة للاستجابة للمقتضيات الطارئة.
> يصدر المدير العام توصيات مؤقتة موجهة إلى الدول الأطراف المتضررة وغير المتضررة، للحيلولة دون انتشار المرض على الصعيد الدولي، أو التقليل منه, وتجنب التدخل في حركة المرور الدولي.
> أنشأت منظمة الصحة العالمية في عام 2001 مكتباً للتأهب ولمواجهة الأوبئة بالتعاون مع المكاتب الإقليمية والمكاتب القطرية التابعة للمنظمة، ومساعدة البلدان على تعزيز نظمها الوطنية للترصّد والاستجابة من أجل تحسين الكشف عن الأحداث الصحية العمومية وتقييمها والتبليغ بشأنها، ومواجهة حالات الطوارئ الصحية الخطرة التي تثير القلق على الصعيد الدولي، بموجب اللوائح الصحية الدولية، ومقر هذا المكتب في ليون بفرنسا. ويساهم هذا المكتب في إعداد الإرشادات اللازمة لتنفيذ أحكام اللوائح الصحية الدولية في نقاط الدخول إلى البلدان، في المطارات والموانئ البحرية والمعابر البرية.
> وقد أعدت المنظمة عدداً من الوثائق والدلائل الإرشادية والوسائل التي رأتها ضرورية لتطبيق أحكام اللوائح الصحية الدولية، مثل شهادات التطعيم الدولية، والشهادات الصحية للسفن وللفريق العامل المعني بالنقل، والشهادات الصحية في نقاط الدخول (المطارات والموانئ والمعابر البرية)، وللنظافة ولحفظ الصحة في الطيران، وبطاقة الصحة العمومية لتعيين موقع المسافرين.
> وأنشأت المنظمة «الشبكة العالمية للإنذار بحدوث الأوبئة ومواجهتها»، وهي هيئة للتعاون التقني بين المؤسسات والشبكات الموجودة على أرض الواقع، تسعى إلى حشد الموارد البشرية والتقنية للكشف عن الأوبئة ذات الأهمية الدولية والتثبّت منها ومواجهتها على وجه السرعة. وتوفّر الشبكة إطاراً عملياً لضمّ الخبرات والمهارات من أجل إنذار المجتمع الدولي بصفة مستمرة بأخطار الفاشيات لتمكينه من التأهّب لمواجهتها.
دور البلدان
كما أن للمنظمة دورا كبيرا ملقى على عاتقها؛ فإن لجميع البلدان الأعضاء في المنظمة أدواراً هي أيضاً لمواجهة الأمراض الوبائية، وهي:
> تعيين مركز اتصال وطني يتحمل مسؤولية الاتصال بالمنظمة، لتقديم البلاغات بوقوع الأمراض الوبائية والأحداث التي يمكن أن تشكل طارئة صحية عامة.
> يجب على مركز الاتصال الوطني تقييم جميع ما يرد إليه من تقارير وبلاغات محلية بوقوع أمراض وبائية يمكن أن تثير القلق الدولي، في مدة لا تتجاوز 84 ساعة.
> يجب على مركز الاتصال الوطني تزويد المنظمة بمعلومات متواصلة مفصلة عن تأثير الحدث في الصحة العامة، وتحديد الحالات، والنتائج المختبرية، ومصدر ونوع الخطورة المحتملة، وعدد المرضى والوفيات.
> تُعيِّن كل دولة المطارات والموانئ الدولية والمعابر البرية التي ستتوافر فيها القدرات اللازمة لتطبيق التدابير الصحية العامة المطلوبة عند وقوع الأمراض الوبائية، مثل توفير سبل الوصول إلى الخدمات الطبية والمرافق التشخيصية المناسبة، وخدمات لنقل المرضى، وعاملين مدربين من أجل التفتيش على السفن والطائرات وغيرها من وسائل النقل.
> توفير القدرات الأساسية اللازمة لرصد الأخطار والاستجابة لها في أقرب وقت ممكن، ولاسيما في نقاط الدخول الدولية البرية والبحرية والجوية لمنع انتشار الأمراض.
> الإبلاغ عن الحالات بشفافية ونزاهة.
أدوية ولقاحات
ولمنظمة الصحة العالمية دور محوري في ابتكار وتطوير الأدوية واللقاحات والكواشف الجديدة اللازمة للعمل في المختبرات، والإشراف على تنفيذ الإدارة الجيدة للمختبرات الصحية، وأفضل الممارسات فيها. وقد أثمرت الجهود التي بذلتها المنظمة لرعاية المراكز المتعاونة معها في مجال المختبرات، تطويراً واسع النطاق للقاحات ولتنفيذ برامج التمنيع وفق الجداول التي أثبتت البحوث نجاعتها.
ومما يُذكَر لمنظمة الصحة العالمية إشرافها الصارم على تنفيذ الإجراءات الوقائية والعلاجية لكل مرض وبائي على حدة، وتوثيق الحالات ونشر نتائج الخبرات المكتسبة، وتعميم قصص النجاح في كل مكان. وبذلك تساهم المنظمة في إصدار الدلائل الإرشادية التي يتفق على صياغتها الخبراء وفق منهجية صارمة لتوثيق صحة كل خطوة فيها.
ولا تقف أدوار منظمة الصحة العالمية عند ذلك الحد, بل إن متابعتها للتطورات تؤول إلى بناء ذاكرة تستفيد منها الأجيال المتعاقبة للتصدي لأي وباء يتهددهم في المستقبل.