د. أحمد خليفة الشطي
مرت الكتابة بعدة أطوار ومراحل، فبدأت على الحجر حفراً ونحتاً ورسماً، وظل الإنسان لوقت طويل يتواصل بهذه الطريقة إلى أن اكتشف الصينيون الورق عام 105 قبل الميلاد. وانتشرت طريقة الكتابة على الورق وازدهرت في ظل الخلافة العباسية حتى عام 1436 ميلادية حين اكتشف الألماني غوتنبرغ آلة الطباعة التي ساهمت في نهضة أوروبا وتقدمها. وتطورت الكتابة تطورات متلاحقة إلى أن شهدت قفزة كبيرة عام 1995 حين برز متصفح (نت سكيب)، فنقل العالم من مرحلة إلى أخرى، وأثر على جميع مناحي الحياة، ومنها النشر والطباعة.
طورت هذه التقنية الصناعات بصورة عامة، ومنها صناعة الطباعة والنشر، وجاءت مرحلة النشر الإلكتروني أو ما بات يعرف بالنشر الرقمي، واستحوذ النشر الرقمي على اهتمام العديد من العاملين والمستثمرين، وأخذت هذه الطريقة أو التقنية بالاتساع خصوصاً مع تطور تقنية صناعة الألواح الإلكترونية أو ما يعرف بـ(التاب)، فتطور التكنولوجيا والتصنيع كان له الأثر الأكبر في اتساع النشر الرقمي الذي يتبعه النسخ الرقمي، لدرجة أنه في مايو 2011 أعلنت شركة (أمازون) أن النسخ الإلكترونية التي باعتها فاقت النسخ الورقية.
وأظهر تقرير الاتحاد الأمريكي للناشرين ارتفاع بيع الكتب الرقمية عام 2010 بنسبة %6.4 من السوق التجارية مقارنة بــ %0.6 عام 2008، و توقع معهد النشر للأبحاث أن تبلغ مبيعات الكتب الرقمية في عام 2015 نحو 3.6 مليار دولار مقارنة بنحو 78 مليون دولار 2010 ، وسجل عام 2010 ارتفاعاً قدره %66 في عدد المكتبات العامة في أمريكا التي وفرت و أتاحت الوصول إلى الكتب الرقمية، كما حولت هذه المكتبات جزءاً كبيراً من ميزانياتها للمنتجات الرقمية. وهذا الاتجاه الظاهر للإنسان الذي بدأ يميل إلى أن يستقبل معلوماته عن الطريق الرقمي أو الإلكتروني أكثر من الطريق العادي، ربما يأذن بتغيير قواعد اللعبة.
النسخة غير الملموسة
النشر الإلكتروني أو الرقمي، أو ما أصبح يعرف في لغة رجال الأعمال بالنسخة غير الملموسة، عرفه أحد الباحثين بأنه «الاختزان الرقمي للمعلومات، مع تطويعها وبثها، وتوصيلها وعرضها إلكترونياً، أو رقمياً، عبر شبكات الاتصال، هذه المعلومات قد تكون في شكل نصوص أو صور أو رسوم يتم معالجتها آلياً». ويتحفظ بعض الباحثين على النشر الإلكتروني؛ لأنّه يفسح المجال أمام نشر الرديء من الأعمال بسبب عدم وجود رقابة مسبقة وقلة التكلفة، وحرمان القراء من النصوص الأدبية المتألقة والراقية، وعدم مواكبة النقد الجاد لتلك الكتابات، مما يترتب عليه ترهل الساحة الأدبية، والتسبب بزيادة كمية المعلومات في الشبكة، والتي يصعب التدقيق بها والتأكد من صحتها.
ويعتبر ارتفاع سعر الكتب الرقمية، وكثرة تعرضها للأعطال، وسرعة تقادمها، من معوقات انتشارها، وهي متوافرة للشعوب الغنية، والتي تستطيع أن توفر الثمن اللازم، على الرغم من جهود بعض الدول مثل الولايات المتحدة والصين لإنتاج أجهزة رخيصة، كمَا أنَّ القراءة الرقمية تحتاج إلى مكان محدد، وطريقة محددة، وقد يكمن أكبر تحفظ في صعوبة حماية الحقوق الفكرية للمؤلف والناشر.
مستقبل النشر الرقمي
يكمن مستقبل النشر الإلكتروني في عدة اتجاهات، ستحدد مدى انتشار ونجاح وسيطرة النشر الإلكتروني أو الرقمي، وهي:
الاتجاه الأول: التقنية
ساهمت التقنية بصورة كبيرة في نضج وانتشار النشر الرقمي، ومن ثمّ لا يمكن الحديث عن مستقبل هذه الصناعة دون الولوج في بحر التقنية لمعرقة الاتجاهات المستقبلية:
1 – الحبر الإلكتروني:
وهو حبر مجازي كما تعرفه موسوعة (ويكيبيديا)، وهذه التقنية الحديثة نسبياً تستخدم بصورة رئيسية في الأجهزة المتنقلة، مثل قارئ الكتاب الإلكتروني (كأمازون كيندل) وأحياناً الهواتف المحمولة. وهذه التقنية كانت تستخدم التدرج الرمادي (أي اللونين الأبيض والأسود)، وتتوافر الآن بألوان عدة. ومن أهم مزاياها توفيرها في الطاقة (البطارية) مقارنة بتقنية (إل سي دي) المستخدمة في الهواتف المتنقلة الحديثة، وتقوم عدة شركات منها (أمازون، إي لينك، زيروكس، فيلبس) بتطوير أنواع مختلفة من الحبر الإلكتروني، لتمكن كلا من الكاتب والقارئ من استخدام القارئات الإلكترونية بصورة أيسر، و هو لا يختلف كثيراً عن الحبر التقليدي.
2 – زيادة التطبيقات:
زيادة التطبيقات الخاصة بالهواتف الذكية والقارئات الإلكترونية تمثل مستقبل النشر والطباعة، ومنها سينطلق التطور، فكل تطبيق سيكون بمنزلة أداة من أدوات المبدعين والكتاب في التواصل مع العالم والبيئة المحيطة، فهناك تطبيق خاص بالمؤلف وآخر خاص بالقارئ، والتطور في هذا الاتجاه يكمن في الاستثمار في توفير طيف من التطبيقات، يتمكن بواسطتها المؤلف والكاتب من التواصل مع القارئ بشكل سهل وسريع متحرك، أو ما يسمى بلغة الصناعة (التجوال)، كما برز من التطبيقات حامل الصحف أو (المكتبة الإلكترونية)، حيث توفر جميع الكتب والمؤلفات في مكان افتراضي واحد، بحيث يتمكن المؤلف والكاتب من عرض كتبه وإنتاجه الفكري والثقافي للجميع، وتمكن القارئ من الاختيار بشكل أغنى وأوسع، وهي لذلك تنافس أعرق وأكبر المكتبات ومراكز بيع الكتب. وهذا الأمر أسهم في فقد عدد من هذه المؤسسات مكانتها، ومكن في الوقت نفسه مؤسسات جديدة لم تكن جزءاً من صناعة النشر من أن تتبوأ مكان الصدارة.
3 – تطوير الأجهزة:
لن يقف التطوير في المستقبل عند حد تطوير التطبيقات، لكن هناك جهودا لتطوير الأجهزة، (سواء الهواتف الذكية أو القارئات الإلكترونية)، فالشركات المصنعة لأجهزة الهواتف الذكية أجرت أبحاثاً ودراسات وطورت أجهزة الهاتف النقال لتصبح أكثر قابلية لعرض الكتب الرقمية والتعامل مع حاجات العميل، خصوصاً في ظل التنافس المحموم بين شركات الهواتف لجذب أكبر عدد من العملاء، وإقناعهم باستخدام شبكات الاتصالات كوسيلة لأداء وإنجاز الأعمال، لذا تم إنتاج وتطوير القارئات الإلكترونية الملونة لجذب وخدمة فئة من ناحية وتطوير (معالج المعلومات) لهذه القارئات، لتكون أسرع وأكثر سعة تشغيلية و(نظم تشغيل متطورة)، وهذا يساعد على ارتفاع الإنجاز وتطوير تجربة المستخدمين وتوافر التطبيقات، ما بين تطوير تطبيق خاص لكل مؤلف أو ناشر وبين عمل رف للكتب والمؤلفات، وسنشهد في المستقبل سباقاً محموماً بين الشركات لإنتاج أنواع مختلفة من القارئات الإلكترونية، التي تحاكي الكتاب الورقي من حيث طريقة الاستخدام.
وبلغت الأبحاث مرحلة محاولة إضافة الرائحة التي تشعر بعض الأشخاص بالكتاب الورقي، كما أنها تسهل على المستخدم سهولة الولوج في الشبكة العنكبوتية، وللباحثين الولوج في المخدمات ومخازن المعلومات، كما سيتم تطوير بطاريات هذه الأجهزة لتكون قابلة للاستخدام مدة أطول.
4 – تطوير السعة:
الاتجاه التقني الرابع هو تطوير حجم السعة التخزينية، وذلك عن طريق استخدام (الحوسبة السحابية)، وهو مصطلح يشير إلى المصادر والنظم الحاسوبية المتوافرة تحت الطلب عبر الشبكة، والتي تستطيع توفير عدد من الخدمات الحاسوبية المتكاملة من دون التقيد بالموارد المحلية، بهدف التيسير على المستخدم. وتشمل تلك الموارد مساحة لتخزين البيانات والنسخ الاحتياطية والمزامنة الذاتية.
والاتجاه العالمي لا يسير فقط في اتجاه مجال الطباعة والنشر ولكن لخدمة جميع الصناعات والقطاعات، والاستثمار في هذه التقنية لتوفير السعة والسهولة و الأمان، فهي ستوفر للناشر الفرد أو المؤسسة برامج وتطبيقات وسعات تخزينية تساعده على الإنتاج الثقافي والفكري، وعلى الإبداع أيضا، نظرا إلى ما توفره هذه التقنية من سعات تخزينية كبيرة ولكلفتها المنخفضة، وإنتاج عالي الجودة، وقدرة بحثية واطلاع واسع على كثير من مراكز المعلومات.
5 – أمن المعلومات:
لضمان نجاح هذه الجهود في هذه الصناعة؛ كان لابد من الاستثمار في (أمن المعلومات) والدخول الآمن إلى الشبكة العنكبوتية للمساهمة في تطوير هذه الصناعة في مجالات عدة، منها المحتوى والأجهزة والشبكة والتخزين، خصوصاً أن هناك توجهاً مستقبلياً لاستخدام (الحوسبة السحابية) التي تستلزم الثقة بين المستخدم ومقدم الخدمة؛ لأن مقدم الخدمة يقوم ببساطة بتوفير سعة تخزينية وتطبيقات عملية في مكان بعيد عن المستخدم.
الاتجاه الثاني: نموذج العمل (Businesss model)
في كل صناعة وعمل تجاري هناك (نموذج للعمل) تقوم عليه الصناعة، ويتعامل معه جميع الأطراف الفاعلة في تلك الصناعة، وهذا النموذج يحدد العلاقات بين جميع الأطراف، وتكمن أهميته في أنه يساعد على استمرار الصناعة عن طريق العمل على نجاح جميع الأطراف العاملة في الصناعة.
ومن المتوقع أن يغير النشر الإلكتروني قواعد سوق النشر بصورة عامة وصناعة الطباعة والنشر بصورة خاصة، وهذا دفع بالعاملين في مجال الطباعة والنشر إلى محاولة تطوير سلسلة الإجراءات أو ما يسمى (سلسلة الفائدة) عن طريق تقليل عدد الوسطاء بين المؤلف والقارئ، فالتوجه المستقبلي يتمثل في أن يتوجه الكتاب والمؤلفون إلى القراء مباشرة، دون الحاجة إلى وسيط (الناشر أو الموزع)، وذلك عن طريق توفير الاتصال المباشر بين الأطراف بواسطة شبكة الاتصالات.
النشر الشخصي
البعد الثاني في هذا الاتجاه هو انتشار ما يعرف بالنشر الشخصي (Self-publishing)، وهذا سيكون دافعاً قوياً للعديد من الكتاب والمؤلفين الذين لا تساعدهم إمكاناتهم المادية على نشر مؤلفاتهم أو التواصل مع قرائهم، أو القراء في أنحاء العالم، وبهذه الخطوة تكون صناعة الطباعة والنشر قد خطت خطوة كبيرة باتجاه إلغاء معوق كبير أمام المؤلفين والكتاب، وهو الرضوخ لميول الناشر. وهي كذلك تجبر مؤسسات النشر على إجراء تغييرات في الدور المنوط بها وطريقة عملها، ولم يعد المؤلف والكاتب يحتاج إلى من يوصله إلى القارئ أو إلى جميع القراء؛ فبواسطة النشر الإلكتروني وما يوفره من إمكانات استعاض الكتّاب عن الوسيط الذي يوصلهم إلى القراء، مما سيقود مؤسسات النشر إلى تغيير دورها والطريقة التي تتعامل بها في صناعة الطباعة والنشر.
وعلى سبيل المثال، يعمل محرك البحث (google) كموزع أو ناشر، وهو يوفر خدمة الأولوية، فعن طريق رسوم معينة يمكن أن تأخذ أولوية في المعلومة المعروضة، وبهذا يمكن لأي مؤلف أن يتواصل مع الجمهور، بل ويكسب جمهورا جديدا بسهولة ويسر وبلا رقابة، فقد ألغى النشر الإلكتروني الرقابة نوعاً ما، أو على الأقل الرقابة السابقة، ووفر للجميع حق التواصل عن طريق الكتاب.
الاندماج بين الطبع والنشر
لا شك أن نموذج العمل آخذ بالتغيير باتجاه ما يعرف بالاندماج في صناعة الطباعة والنشر، ويعني تقارباً بين الصناعات بصورة تبادلية، يؤهِّل كلاً منها للانتقال إلى المجال الآخر فيما يكون تشابها، فالاندماج سيكون بين صناعة الطباعة والنشر من ناحية، وصناعة الترفيه من ناحية أخرى، أو بين المكتوب والمسموع والمرئي وحتى المحسوس. وبهذه الطريقة التفاعلية ستدخل صناعة الطباعة والنشر في عالم ومجال آخر للإبداع، وستمكن المؤلف من استخدام الخط الذي يفضله والصور التي يراها أنسب إلى مؤلفه دون الرجوع إلى مصمم أو مخرج أو حتى خطاط محترف، كما ستمكنه من استخدام أفلام الفيديو وأصوات التسجيل لتبيان فكرته وإيضاح وجهة نظره، وبهذه التقنية سيتفوق الكتاب الإلكتروني على مثيله الورقي.
وفي هذا الاتجاه بدأت تظهر في الأسواق شركات توفر للزوار قارئات إلكترونية في أوقات قصيرة، يستطيع القارئ أن يستأجرها مدة معينة خلال وجوده بعيداً عن مكتبه أو منزله، مثل أمكنة التسوق والترفيه، وقد أعلنت مدينة دبي توفير هذه الخدمة في نوفمبر 2012.
الاتجاه الثالث: الإبداع
ربما لا يكون هذا البعد خاصاً بالنشر والطباعة فقط، لكنه سيكون أحد الاتجاهات المستقبلية في مجال الطباعة والنشر، وسيساعد الكتاب والمؤلفين على أن يكونوا أكثر إبداعاً وأجود إنتاجاً للتعامل مع حاجات القراء والعملاء عن طريق ما يسمى بالتفاعلية، وهي علاقة آنية بين الكاتب والقارئ تمكن القارئ من المشاركة في التأليف مباشرة، أو عن طريق تزويد الكاتب بالأفكار والتعليقات أثناء الكتابة. وسيغطي النشر جميع الحواس، فالقارئ أو المستخدم سيستعمل في المستقبل حاسة النظر والسمع وحتى الشم ليتفاعل بصورة أكبر مع ما يقرأ.
وختاماً، لا شك أنَّ النشر الرقمي يعتبر نقطة مضيئة في صناعة الطباعة والنشر بصورة عامة. وهناك جهود تبذل لتطوير التقنية لتمكن من تحويل الكتابة التقليدية والكتب المطبوعة إلى رقمية أو إلكترونية، فهل ستنجح هذه الجهود؟ وهل سنرى في المستقبل القريب أي تقنية أخرى متعلقة بالنشر لها أثر مطبعة (غوتنبرغ)؟، وهل صحيح أن المتحف سيكون مكان الكتاب الورقي، مثل الكتاب الحجري.. هذا ما ستبينه لنا الأيام والتقنيات المقبلة.