د. أبو بكر خالد سعد الله
تزخر الرياضيات بعدد كبير من المسائل التي لا نعرف حلها ولا الطريق المؤدي إليه، ومن تلك المسائل فئة تسمى المخمنات conjectures، وهي في آخر المطاف تطرح في شكل سؤال ينبغي الإجابة عنه بنعم أو لا. وهذه المسائل غالباً ما ينشغل بها كبار العلماء ويدلون فيها بآرائهم من دون التمكن من تقديم البرهان إلا بعد جهود مضنية تدوم عقوداً ، بل قروناً . وأحياناً يكون التخمين بالإيجاب (هناك نحو 45 مخمنة تم حلها، وكان الجواب عنها بالإيجاب)، وأحياناً أخرى بالنفي (هناك نحو 15 مخمنة من هذا القبيل)، ولعل القارئ لا يدري أن ثمة ما يربو على 85 مخمنة شهيرة لم تحل بعد.
وتعرف الرياضيات أيضاً فئة من المسائل يطلق عليها اسم (المسائل المفتوحة)؛ تلك المسائل نجدها في الأبحاث، وتأتي في معظم الأحيان كأسئلة لم يستطع الباحثون الإجابة عنها. وهذه الأسئلة غالباً ما تكون منطلق أبحاث جديدة تثري موضوعات الرسائل الجامعية. ونشير إلى أن المنطق الذي ينتهجه جل الرياضيات مبني على ما يسمى بمبدأ (الثالث المرفوع)؛ بمعنى أنّ كل قضية رياضية تقبل واحداً من جوابين لا ثالث لهما: الجواب يكون بنعم أو لا.
وعلى الرغم من ذلك يوجد في المنطق الرياضي الموسع ما يعرف بـ(القضايا غير القابلة للبت) التي تتميز بالخاصية الآتية: إذا افترضتَ صحتها استطعت إثبات أنها خاطئة. والعكس بالعكس، إذا افترضت خطأها فإنك تصل إلى البرهان على صوابها. هذا ما يعقد كثيراً طرح المسائل في الرياضيات. وسنستعرض في هذا المقام ثلاثة نماذج شهيرة من المسائل البسيطة التي عرفتها الرياضيات ولم يتوصل العلماء إلى حلها إلا بعد قرون.
نظرية فيرما
قضى الرياضيون نحو ثلاثة قرون ونصف القرن في محاولة لإيجاد حل لإحدى النتائج التي لا تُعَدّ ذات شأن للبشرية ولا لجمهور المهتمين بالرياضيات، فما الفائدة من إنفاق كل هذا الوقت «عبثاً»؟
تعرف هذه المسألة بنظرية فيرما
(Fermat (1665 – 1601 أو بـ(مخمنة فيرما). والواقع أنَّها ظلت مخمنة (أي من دون برهان) منذ أن طرحها فيرما في منتصف القرن السابع عشر، ولم تصبح نظرية حتى أثبتها الإنكليزي أندريو وايلز عام 1995، وقد جاء هذا البرهان في 127 صفحة.
لم يكن فيرما أحد محترفي الرياضيات، بل كان يشغل بها أوقات فراغه باعتبارها هواية، لكن مواهبه في علوم الرياضيات تجاوزت مجال الأعداد الذي اشتهر به، وثمة سبب جاد يجعل فيرما لا يميل إلى كتابة براهينه: وهو أنه «أكثر الناس كسلا» – حسب اعترافه – ثم إنه كان منشغلاً بأموره المهنية الأخرى غير آبه بالكتابة في الرياضيات من أجل النشر.
فلعل ذلك هو السبب الذي جعله يكتب نص نظريته التي أرقت أجيال العلماء خلال قرون دون بلوغ برهانها.
ماذا تقول نظريته؟ يعرف تلاميذ المرحلة المتوسطة والثانوية نظرية فيثاغورس التي تنص على أن مجموع مربعي ضلعي الزاوية القائمة في مثلث قائم يساوي مربع الوتر؛ أي إن أ2 + ب2 = جـ2.
تساءل فيرما: ماذا لو عوّضنا في المساواة السابقة 2 بأي عدد طبيعي آخر (ن)، وكانت أ، ب، جـ أعداداً طبيعية (أي 1، 2، 3، 4، 5،…)؟ هل تظل المساواة صحيحة؟ بعبارة أخرى، هل توجد أعداد طبيعية أ، ب، جـ، ن بحيث تتحقق المساواة
أن + ب ن = جـ ن؟ أجاب فيرما عن هذا السؤال بالنفي عندما يكون ن أكبر من 2 والأعداد الأخرى غير منعدمة. وقد تبيّن في آخر المطاف أنه على حق!
والطريف أن فيرما ادعى أنه وجد آنذاك الحل، لكن المكان في سجله لم يكفه لتدوينه.
والواقع اليوم يقول إنه ربما كان واثقاً في برهانه على هذه النظرية، لكن عمق وحجم الأعمال التي تمت خلال قرون من قبل كبار علماء الرياضيات لتتوّج أعمالهم عام 1995 ببرهان جاء في عدد كامل من مجلة (حوليات الرياضيات Annals of Mathematics) وهي أرقى مجلة في الرياضيات، حيث يبيّن أن صحة برهان فيرما (وجد أو لم يوجد) أمر مستبعد جداً. وإليك في هذا السياق ترجمة النص الذي كتبه فيرما باللاتينية، نحو سنة 1637، على هامش كتاب أعمال ديوفنتسDiophantus (القرن الرابع): «لا يمكن أن نقسم مكعباً إلى مكعبين ولا مربع مربع إلى مجموع مربعي مربعين، وبصفة عامة، لا يمكن أن نقسم قوة كيفية ذات أس أكبر من 2 إلى قوتين من الأس نفسه. لقد اكتشفت برهاناً رائعاً لهذه القضية لكن الهامش لا يسعه».
وحتى يقتنع القارئ بعمق البرهان والمخاض العسير الذي واكبه خلال قرون نورد هنا أسماء عدد من كبار العلماء الذين سجلت أعمالهم تقدماً نحو الجواب النهائي عن مسألة فيرما: السويسري أولر (1707 – 1783)، الفرنسيان لاغرانج (1736 – 1813) ولوجندر (1752 – 1833)، الألماني غاوس (1777 – 1855)، النـرويجي آبل (1802 – 1829)، الألماني ديرخليت (1805 – 1859)، الفرنسي لامي (1795 – 1870)، الألماني كومار (1810 – 1893)، الأمريكيان مورديل (1888 – 1972)، وفنديفر (1882 – 1973)، الألماني غرد فالتينغ (1954).
ومن المعلوم أن البراهين المقدمة كانت تزداد تعقيداً بمرور الزمن. كما كانت تستعمل أدوات رياضية لم تكن موجودة في عهد فيرما ولا بعده، وإنما وجدت بعد الستينيات من القرن العشرين.
ولعل إلقاء نظرة على مراجع ويلز في برهانه على النظرية يوضح ذلك. فقد أحال إلى 84 مرجعاً، صدر منها 21 مرجعاً خلال التسعينيات من القرن العشرين، و33 مرجعاً خلال الثمانينيات، و23 مرجعاً خلال السبعينيات، و5 مراجع خلال الستينيات، ومرجع واحد عام 1901.
مسألة جغرافية
المسألة الشهيرة الثانية التي نقدمها في هذا السياق مسألة طال عمرها عرفت بـ«مسألة الألوان الأربعة». وهي مسألة تتساءل عما إذا كان بالإمكان تلوين أي خريطة جغرافية بأربعة ألوان، لا أكثر، شريطة ألا نلوّن بلدين متجاورين باللون نفسه؟ كان الجغرافيون وعلماء الخرائط يعتبرون هذه المسألة «التافهة» محلولة منذ عهد بعيد؛ لأنهم لم يحتاجوا في تلوينهم إلى طرح هذا السؤال. لكن الرياضيين لم يكتفوا بما تثبته التجربة وراحوا يبحثون عن برهان رياضي متين يؤكد الرأي السائد.
وهكذا توصلوا بعد جهد جماعي مكثّف، دام 124 سنة، إلى البرهان الذي سعوا إليه.
واللافت في البرهان المقدم أنه أثار الكثير من الجدل؛ لأنه أساء إساءة غير مسبوقة لمفهوم البرهان الرياضي ذاته بسبب الإفراط في استخدام الحاسوب.
كيف طرحت المسألة؟ كان فرنسيس غوثري طالباً في قسم الرياضيات بجامعة بريطانية خلال منتصف القرن التاسع عشر، ثم انتقل ليعمل أستاذاً في جامعة بجنوب إفريقيا. وفي أكتوبر 1852 بعث فرنسيس رسالة إلى أخيه فريدريك الذي كان يدْرس آنذاك الفيزياء في الجامعة نفسها التي تخرّج منها. وفي هذه الرسالة طرح فرنسيس مسألة الألوان الأربعة، التي خطرت بباله عندما كان يلوّن خريطة أقاليم إنكلترا ومقاطعاتها. لكن فردريك لم يتمكّـن من حل المسألة، لذا توجّه بالسؤال إلى أستاذ شهير يدعى أغستين دي مرغان (1806 – 1871).
بحث مرغان في الموضوع واعتقد أنه أثبت نتيجة تقول إنه لا لزوم لخمسة ألوان لتلوين الخرائط، مستخلصاً أنه أتى على برهان نظرية الألوان الأربعة. لكنه سرعان ما تدارك خطأه وطرح المسألة على زملائه، واستعصى الحل، وتداول على هذه المسألة البسيطة عشرات – بل مئات – الرياضيين المحترفين والهواة، إلى أن حلّت عام 1976.
كانت فكرة البرهان، منذ البداية، تتمحور حول ما يسمى في الرياضيات بـ«البرهان بالخلف» (الذي يعني الانطلاق من نفي صحة النتيجة التي نريد إثباتها والتوصل إلى تناقض، فيتم بذلك البرهان على صحة النتيجة). إننا نعلم أن خمسة ألوان تكفي لتلوين أي خريطة. ونحن نريد إثبات النتيجة الآتية: إن أربعة ألوان تكفي لتلوين أي خريطة. يفترض البرهان بالخلف عكس هذه النتيجة، فينطلق من حتمية استخدام خمسة ألوان لتلوين الخرائط. ويواصل تبعاً للخطوات التي رسمها المحامي والرياضي ألفرد براي كامب (1922-1849) في مقال له نشر عام 1879.
والفكرة الأساسية في البرهان تعتمد على «تبسيط» الخرائط. ونجح كامب في تبسيط الخرائط إلا في حالة واحدة، وهي حالة وجود بلد تحيط به خمسة بلدان؛ فالحجة التي قدمها كامب كانت واهية، وانتبه إلى ذلك الرياضي بيرسي جون هيوود (1861 – 1955). تلك هي الحالة الوحيدة التي ظلت عالقة حتى عام 1976.
والجدير بالملاحظة أن برهان 1976 تمثّل في تصحيح خطأ كامب، وتطلب ذلك معالجة نحو 1500 خريطة. وعندما نقول هنا «خريطة» فليس المقصود منها خريطة لبلد حقيقي وإنما خريطة وهمية يمكن أن يكون لها أي شكل هندسي.
ومن الأسماء البارزة التي أضافت لبنات -بعد مقال كامب- حتى بلغ الحل منتهاه نذكر البريطاني كيلي (1821 – 1895)، والأمريكي ستوري (1850 – 1930)، والبريطاني تايت (1831 – 1901)، والدنماركي (1839 – 1910)، والأمريكيين فيبلن (1880 – 1960)، وجورج بيركوف (1884 – 1944)، والإنكليزي رينولدس (1842 – 1912)، والنمساوي (الأصل) غودل (1906 – 1978).. والقائمة تطول.
وفي 1972 شرع الرياضيان كنيت آبل وولفغنغ هاكن، الأستاذان في جامعة إلينويز الأمريكية بالعمل معا. وهما صاحبا البرهان النهائي الذي قُدِّم عام 1976. وكانا متأكديْن أنه لا مناص من استعمال الحاسوب في معالجة هذه المسألة الشائكة.
وفي أواخر 1975 قطع آبل وهاكن شوطاً كبيراً في برهانهما، حين التحق بهما أحد الطلبة، وهو جون كوتش Koch. وفي منتصف 1976، أنهى آبل وهاكن البرهان على أن أربعة ألوان تكفي لتلوين أي خريطة، وتحقق الحلم الذي راودهما خلال أربع سنوات، كما راود غيرهما من ألمع الرياضيين طوال 124 سنة. >