لغة البكتيريا… فصاحة كيميائية
م. فداء ياسر الجندي
هل للبكتيريا لسان حتى يكون لها لغة؟ وأي لغة تلك التي يمكن أن تكون لأصغر الأحياء وأكثرها بدائية؟
الجواب: نعم، للبكتيريا لغة، بل لغات، لكنها ليست محكية، هي لغات كيميائية، تتواصل بها مع بعضها، فهي تعيش شعوباً وقبائل وليست منفردة، وتفصيل ذلك في بحث علمي مشوق أجرته الدكتورة الأمريكية «بوني باسلر»، بمساعدة فريق من الباحثين الشباب، وتوصلوا بنتيجته إلى نتائج باهرة، ما كانت لتخطر على بال، وهاكم ملخصاً عن بحثها وقصته.
كائنات لا نواة لها
البكتيريا كائنات مكروسكوبية وحيدة الخلية، تختلف عن الخلايا الحية الأخرى بأنها لا نواة لها، وأنها لا تحوي إلا على جزيء واحد من الحمض النووي (DNA)، وتتكاثر بالانقسام، وتؤدي دورا حيويا في الحفاظ على حياتنا، وعلى الحياة على الأرض بصورة عامة، فكل واحد منا يوجد داخل جسمه وعلى جلده عشرات التريليونات من البكتيريا، ومن أدوارها المهمة في أجسامنا، هضم الطعام، وتدريب جهاز المناعة على مقاومة الأمراض، والمساهمة في صنع الفيتامينات.
بدأت القصة مع فريق بحث الدكتورة «باسلر»، تحت الماء، وكان بطلها أحد أنواع الحبّار الذي يعيش في شواطئ جزر هاواي، في أعماق لا تزيد على نصف متر، (الحبار كائن بحري لافقاري معروف)، حيث لاحظت أن هذا الكائن يدفن نفسه في الرمل نهاراً هربا من أعدائه المفترسين، فإذا حل الظلام يخرج من مخبئه ليبحث عن طعامه، لكنه يبقى معرضاً للافتراس إن كان ضوء القمر والنجوم في الليالي المقمرة يصل إليه فيبصره أعداؤه، فيحتال عليهم بأن يقوم بإصدار ضوء يكافئ دائما الضوء الذي يصل إليه من القمر والنجوم والذي يختلف حسب حجم القمر كل ليلة، فيختفي بذلك ظله ويصبح غير مرئي لأعدائه. ولما بحثت الدكتورة «باسلر» وفريقها عن طريقة عمل هذه الإضاءة السحرية، توصلوا إلى نتائج مذهلة.
مستعمرات بكتيرية مدهشة
لقد اكتشفوا أن لدى هذا الكائن مجسات في ظهره تقيس كمية الضوء الواردة، ولديه تحتها أغشية تعمل وكأنها بوابة تفتح وتغلق حسب كمية الضوء التي تقيسها المجسات، وتحت تلك الأغشية يكمن مصدر عجيب للضوء، هو مستعمرات من البكتيريا تستوطن في أمكنة محددة في جوف الحبار، والأشد عجبا أن جميع الخلايا البكتيرية التي تتكون منها تلك المستعمرات تضيء معا في لحظة واحدة، وينطفئ ضوؤها معاً، فكيف يحدث ذلك؟ كيف تعمل كل البكتيريات في المستعمرة وكأنها على قلب رجل واحد؟ وكأنها تخبر بعضها بعضاً بموعد ساعة الصفر، ساعة الإضاءة؟
الجواب كان مدهشاً: تضيء جميع الخلايا البكتيرية معاً عندما يصل عددها إلى نصاب معين، فكل خلية بكتيرية تفرز في الوسط المحيط بها جزيئاً كيميائياً، ليخبر من حولها من رفيقاتها أنها موجودة، كيف يخبرهم؟ عن طريق جهاز استقبال في البكتيريا يستشعر وجود ذاك الجزيء الكيميائي الخاص، فكأن البكتيريا تتكلم عندما تفرز ذلك الجزيء لتقول لرفيقاتها: (أنا موجودة)، وتستمع إليهم عندما تستشعر وجود ما يفرزونه لتعلم أنهم موجودون، وتقوم كل خلية منها بإحصاء عدد خلايا البكتيريا الموجودة في محيطها، عن طريق إحصاء عدد تلك الجزيئات المفروزة في محيطها، فإذا ما بلغ عددها نصاباً معيناً، قامت كلها في لحظة واحدة بالتفاعل الكيميائي المطلوب لإصدار الضوء.
لكن كيف يختفي الضوء في الصباح؟ عندما يأتي الصباح وقبل بزوغ الشمس يقوم الحبار بأمر مذهل: يضخ معظم البكتيريا المضيئة خارج جسمه عن طريق مضخة خاصة، ويبقي على عدد محدد منها، فينخفض عدد البكتيريا إلى ما دون النصاب، فيتوقف تفاعل الإضاءة، لأنها تستشعر انخفاض النصاب، كما استشعرت بلوغه من قبل، ثم يدفن الحبار نفسه في الرمل، ويغط في سبات حتى المساء، وخلال سباته، تتكاثر البكتيريا الباقية، حتى إذا ما هبط الليل، بلغ عددها النصاب، فأخبرت بعضها بعضاً: أن هيا ياقوم، الحبار قد خرج من مخبئه، وهو محتاج لضوئنا، فتعود للعمل من جديد كما عملت بالأمس.
لغة مدهشة
لا نملك إلاأن نقول : ماهذه الدقة، ماهذا التصميم، ماهذا الإعجاز، كيف تعلمت البكتيريا أن تُعَبِّر عن نفسها، تقول: أنا موجودة، وتفهم أن غيرها موجود حولها، وتحصي عددهم، وتعمل بصورة جماعية معهم في لحظة واحدة؟ وهذا كله وهي أصغر وأبسط كائن حي، حجمها لا يزيد على مكرون مكعب واحد (المكرون جزء من ألف من المليميتر)، أي إننا نستطيع أن نضع على سطح مقطع شعرة واحدة من شعر البشر نحو ثمانية آلاف خلية بكتيريا.
ثم متى وقّعت البكتيريا مع الحبار اتفاقية التعايش المذهل بينهما؟ إن ما يقومان به معاً هو نظام يتميز بما يسميه العلماء (تعقيد غير قابل للاختزال)، فالمجسات، والبوابة، ومضخة البكتيريات، التي يملكها الحبار، بالتعاون مع آلية عمل البكتيريا الجماعية، تشكل جميعها نظاماً متكاملاً لا يمكن أن يعمل إذا نقص عنصر واحد من عناصره، وهنا نسأل : كيف نشأ هذا النظام؟ هل هو مصادفة عمياء؟ أم تطور عشوائي؟ أم تقدير رباني؟
طرف الخيط
كانت البكتيريا المضيئة في حبّار هاواي هي طرف الخيط الذي قاد فريق الدكتورة باسلر ليكتشف أن جميع أنواع البكتيريا تعمل بصورة جماعية، فكل نوع يفرز جزيئا خاصاً به لا يفرزه غيره من أنواع البكتيريا، ويملك جهاز استقبال يستشعروجود هذا الجزيء وكميته في محيطه، ليقول بواسطته: « نحن هنا»، ويتواصل به مع من يتحدث اللغة نفسها، أي مع (بني جلدته!)، من النوع نفسه.
فمثلاً، عندما تنتقل عدوى أي مرض بكتيري إلى جسم الإنسان يكون عدد البكتيريا قليلاً، بحيث لو هاجمت الجسم فور دخولها لقضى عليها جهاز المناعة، لكن البكتيريا لاتهاجم الجسم فور دخولها إليه، بل تقوم بالتكاثر، وتتواصل مع بعضها بلغتها الكيميائية حتى إذا بلغ عددها النصاب، تنادت بصوت واحد، أن هيا هاجموا، فلا يتمكن جهاز الممانعة من مقاومتها، ويمرض الجسم ويضطر لأخذ المضاد الحيوي ليتعافى، وتقول الدكتور باسلر: إن هذا الاكتشاف يفتح الطريق أمام جيل جديد من الأدوية التي سيختلف عملها جذريا عن المضادت الحيوية الحالية، وستعتمد على أن تعطي المريض جزيئات مشابهة لتلك التي تفرزها البكتيريا للتواصل مع بعضها، بحيث نخدع البكتيريا لتظن أن عددها قد بلغ النصاب، فتقوم بالهجوم وهي قليلة العدد، فيقضي عليها جهاز المناعة بسهولة، والتجارب الواعدة ما زالت في بدايتها على هذه الأدوية.
والأعجب من كل ما سبق، أن البكتيريا تتقن لغتين! تخيل عزيزي القارئ لو أن كل إنسان يولد وهو يتقن لغتين: لغته الأم، ولغة أخرى عالمية يتكلمها كل البشر ويستطيع بواسطتها التفاهم مع أي إنسان على وجه الأرض، البشر لا يتمتعون بهذه المزية ولكن البكتيريا تملكها، ذلك أنه إضافة إلى الجزيء الخاص الذي تفرزه كل خلية بكتيريا لتتواصل مع رفاقها من النوع نفسه، (مع بني جلدتها!)، والذي يختلف باختلاف نوع البكتيريا، فإنها تفرز جزيئاً آخر، تفرزه نفسه كل أنواع البكتيريا، وكل الأنواع لديها أيضا مستقبلات خاصة به، تستشعره لتتواصل مع الأنواع الأخرى من البكتيريا، بطريقة مماثلة لما رأيناه من تواصل أفراد النوع الواحد، ليكون ذلك بمثابة لغة أخرى غير الأولى، يمكن تسميتها (لغة بكتيرية عالمية!)، تتواصل فيها الأنواع المختلفة من البكتيريا بعضها مع بعض.
ها هي البكتيريا، أضعف الكائنات وأصغرها وأكثرها بدائية، تعيش في مجتمعات متكاملة، تتواصل مع بعضها بلغاتها الخاصة، (بفصاحة!) كيميائية مدهشة، وتعمل بصورة جماعية لا فردية.