د. عبدالله بدران
هل كان الإنسان البدائي يتصور في يوم من الأيام، أو يحلم في ساعة ما، أنه سيلمس شاشة إلكترونية فيظهر له عالم مذهل من البيانات والصور والرسوم والخرائط، بلغات عدة وبمؤثرات متنوعة وبحركات مستمرة، أو سيضع أمامه جهازاً حاسوبياً يحرر بواسطته ما يرغب من مواد خبرية ، أو يقرأ منه آلاف الكتب، ويطالع معظم الصحف والمجلات، ويشاهد القنوات التلفزيونية، ويستمع إلى محطات الإذاعة التي يختارها.
هذه التطبيقات تمثل – حالياً على الأقل – أحدث محطة في الرحلة الطويلة التي مرت بها الصحافة عبر تاريخها الطويل، ولا أحد يعلم على وجه اليقين ما الذي ستكون عليه المرحلة المقبلة من هذه الرحلة التي أخذت مراحلها تختصر الزمن، وخطاها تتسارع بصورة لا سابق لها.
ومن المعروف أنَّ الصحافة تبنى على الخبر، وأن هذا الأخير قديم قدم البشرية، فمنذ أن وجد البشر على ظهر البسيطة وهم يتناقلون الأخبار فيما بينهم، ويتداولون في لقاءاتهم واجتماعاتهم أخبار كل منهم، عن صيده ورزقه وعمله وأسرته وشؤونه، وقد تطور هذا الشكل البسيط من الأخبار شيئاً فشيئاً، فصار الإنسان ينقل أخبار الآخرين إلى مجتمعه، كما ينقل أخبار مجتمعه إلى من يلتقيهم خارج إطار هذا المجتمع، وبذلك انتقلت الأخبار من المحيط المحلي إلى المحيط الإقليمي. وهكذا بدأت الأخبار تنتشر شيئاً فشيئاً، وتتسع دائرة الناقلين لها، والمستمعين إليها.
كان الناس يتناقلون الأخبار في البداية شفاهاً، أو عن طريق الأصوات، أو النسخ المخطوطة، ويطلق على هاتين المرحلتين من تاريخ الخبر: مرحلة الخبر المسموع، ومرحلة الخبر المطبوع، فيما يضيف إليهم بعض الباحثين مرحلة الخبر المخطوط.
الخبر المسموع
تعود بدايات الخبر المسموع إلى العصور القديمة، حينما استخدم الإنسان الأبواق أو الصيحات والصرخات للإعلان عن حالات معينة تعارف عليها أبناء المجتمع، كالحروب، والأعياد، والمناسبات الاجتماعية، كما عرفت العصور القديمة، وجانب من العصور الوسطى، المنادين الذين كانوا يجوبون الأسواق، وأمكنة التجمعات البشرية الأخرى ليبلغوا الرعية أو المواطنين أوامر الحكومة وبياناتها.
وكان لظروف التطور الاجتماعي في العصور القديمة والوسطى أثر في اقتصار تبادل الأخبار على الوسائل السمعية أو الصوتية فقط، إذ لم تكن القراءة والكتابة قد عرفت بعد، وبعد معرفة القراءة والكتابة ظل من يعرفونهما أقلية بين كل الشعب من الشعوب المعروفة في ذلك الوقت.
كما اعتمدت بعض الديانات على الأصوات الصادرة عن النواقيس للإبلاغ عن شعائر العبادات والطقوس لديها. ونجد في شعيرة الأذان التي جاءت في الشريعة الإسلامية ضرباً من أنواع نقل الخبر بوساطة السماع، إذ كان يتم بوساطة هذه الشعيرة الإبلاغ عن مواعيد العبادات وعن أمور أخرى شهدها التاريخ الإسلامي.
الخبر المخطوط
وبعد ظهور الكتابة وانتشار القراءة لدى الحضارات السابقة ظهرت مرحلة الخبر المخطوط المدون في الصحائف والجلود وألواح الحجارة وأوراق البردي، ففي العراق وجد علماء الآثار نشرات ترجع إلى عام 1800 ق.م ترشد الزراع إلى كيفية بذر محاصيلهم، وعلاجها من الآفات، وتشبه هذه النشرات إلى حد كبير النشرات التي توجهها وزارات الزراعة إلى المزارعين في الدول المتقدمة.
وأصدر الصينيون صحيفة في بكين اسمها جريدة (باكين) في عام 911 ق.م لتنشر الأوامر الرسمية وأخبار دوائر الحكومة، كما عرفت روما في مرحلة متقدمة من عصر الإمبراطورية خطابات الأخبار (News letter)، وهناك من الآثار التاريخية ما يؤكد أن يوليوس قيصر أصدر عقب توليه السلطة في عام 59 ق. م صحيفة مخطوطة سمَّاها ( Acta Dinrna)، أي الأحداث اليومية. وكانت تهتم بنشر الأخبار عن مداولات مجلس الشيوخ، وأخبار الحملات الحربية، وبعض الأخبار الاجتماعية الأخرى.
واستمر استخدام خطابات الأخبار طوال العصور الوسطى، وذلك لخدمة التجارة بين المدن الأوروبية، وأصبحت مدينة فيينا مركزاً لهذه الخطابات، وأصبح هناك كتّاب مهنتهم كتابة خطابات الأخبار في جميع المدن الكبرى.
وعرف العرب قبل الإسلام أنماطاً إعلامية عدة، كالأسواق، والرحلات التجارية، ورواة القصص، والأنساب، والخطابة، ومجالس القبائل، كما عرف العرب في تلك الفترة الكتابة ودونوا بها.
واستمر استخدام الخبر المخطوط فترة طويلة حتى بعد ظهور الخبر المطبوع، وانتشار المطبعة في منتصف القرن الخامس عشر؛ لأن تـأسيس المطابع وانتشارها احتاج إلى وقت طويل، بل وصاحب ظهور احتكار بعض الحكومات للمطابع، لذلك حافظ كتّاب الأخبار المنسوخة وجامعوها على مصادر أخبارهم وعلى عملائهم وقتاً طويلاً.
لكن الخبر المخطوط لم يستطع الصمود طويلاً أمام تدفق الخبر المطبوع، وذلك لرخص ثمن الأخير، وسعة انتشاره، وانتظام صدوره، وخاصة بعد أن أنشئت مكاتب البريد في القرن الخامس عشر.
وبدأت حينذاك مرحلة النهاية للخبر المخطوط، وأخذ استخدامه يتراجع يوماً إثر آخر، حتى انعدم استخدامه، وسيطرت الأخبار المطبوعة على الصحف والمجلات والنشرات.
الخبر المطبوع
يرتبط تاريخ الخبر المطبوع ارتباطاً وثيقاً بظهور المطبعة، ذلك الاختراع الفذ الذي شكل نقلة هائلة ليس في ميدان الصحافة والإعلام فحسب، بل في جميع ميادين الحياة، ويعتبر بحق أحد الإنجازات الحضارية للبشرية، وإحدى الوسائل التي أسهمت في رقي البشرية وتطورها، ومهدت الإنجازات الفكرية، والعلمية، والتقنية، التي نراها ماثلة للعيان في عصرنا الحالي.
وقد ظهرت المطبعة على يد الألماني يوحنا غوتنبرغ عام 1436، وتقدمت خلال القرن الخامس عشر، ومن ثم بدأ عصر جديد خرج به الإعلام من عصر الفوضى، ومن السرية، وبلغ مرحلة الصناعة، أو الحرفة، أو الفنية.
وأمكن عن طريق هذا الابتكار الفذ طباعة عدد كبير من النسخ من الخبر الواحد، وهو الأمر الذي أتاح أيضاً إمكانية وصول الخبر إلى أكبر عدد من القراء، إضافة إلى ما توفره المطبعة من وقت، وجهد، وتكاليف، إذا ما قورنت بما يبذل في الخبر المخطوط.
نشرات إخبارية
وفي بداية القرن السابع عشر ولدت فكرة جمع الأخبار، ومنذ ذلك الوقت قام أصحاب المطابع بطبع النشرات الإخبارية، وظهرت أوَل صحيفة مطبوعة في (إنفرس) ببلجيكا. واستمر الخبر الصحافي المطبوع متربعاً على عرش وسائل الإعلام حتى ظهرت الإذاعة والتلفزيون، اللذان سيطرا على الساحة الإعلامية.
ثم ظهرت وسائل الإعلام الحديثة، ويقصد بها الحديثة حالياً لكنها قد تصبح قديمة بعد مدة زمنية، ومن أهم هذه الوسائل الحديثة الرسائل النصية التي تستخدم عبر الهواتف النقالة، وشبكة الإنترنت.
وشبكة الإنترنت تعد منبرا متميزاً للإعلام وفنونه، ووسيلة مهمة للوصول إلى أهدافه، فبوساطتها تصل الأخبار إلى معظم من يتعاملون مع الإنترنت، وتبلغ آفاقاً لم يكن من السهل بلوغها سابقاً، ويستفيد من يستخدمونها من المميزات الكثيرة التي تتيحها، ومنها الترجمة إلى لغات عالمية أو محلية، والبث بالصوت والصورة، واستقبال ردود الأفعال والتعليقات، وكون المستقبل في بعض الأحيان صانعاً للمعلومة بدلاً من الاكتفاء بالتلقي والاستقبال.
وأتاحت الهواتف النقالة فرصة للإعلام ليفيد من المميزات التي تتمتع بها، والخصائص التي تتحلى بها، وفي مقدمها الانتشار الواسع ورخص التكلفة والتقنيات المتطورة.
ثم ظهرت مواقع التواصل الاجتماعي وأخذت تحتل مكانة مهمة في عالم الإعلام.
صحافة الجيل
انتشر مفهوم الصحافة الإلكترونية في الأدبيات العلمية قبل نحو ثلاثة عقود، ثم أخذ ينتشر حتى أصبح مألوفاً ومعروفاً، وأسهم في انتشاره التطور الهائل في وسائل الاتصال وتكنولوجيا المعلومات، واكتسب هذا النوع الجديد من الصحافة أهمية بالغة منذ ظهوره أوائل التسعينات من القرن الماضي، وبالتحديد عام 1993، حينما أطلقت صحيفة سان خوزيه ميركوري الأمريكية نسختها الإلكترونية، تلاها تدشين صحيفتي ديلي تليغراف والتايمز البريطانيتين نسختهما الإلكترونية عام 1994.
أما عربياً فأصدرت أول صحيفة عربية نسختها الإلكترونية عام 1997، وهي صحيفة الشرق الأوسط، وتزامن معها إصدار النسخة الإلكترونية لصحيفة النهار اللبنانية، في حين تعد صحيفة إيلاف التي صدرت في لندن عام 2001 أول صحيفة إلكترونية عربية.
وعلى الرغم من الضجيج الذي صاحب الصحافة الإلكترونية، واعتبارها تهديداً حقيقياً للصحافة الورقية، والتنظيرات التي رأت أن عهد الصحافة الورقية أوشك على التلاشي والأفول، والاضمحلال والذبول، وأنَّه لن تكون هناك بعد منتصف العقد الحالي أي صحيفة أو مجلة ورقية، فإنَّ واقع الحال لا يشير إلى دقة تلك التنظيرات، ولا إلى صحة تلك التوقعات؛ فلا تزال الصحافة الورقية مؤثرة وفاعلة، ولا تزال كبرى الصحف العالمية تصدر طبعتها الورقية بجانب الإلكترونية، ولم تستطع تلك الأخيرة هز عرش الأولى ولا الحد من قرائها، اللهم إلا عند الشباب، وأفضل ما يقال إنَّ أي نوع لن يكون بديلاً للآخر.
إن المميزات الكثيرة التي تتمتع بها الصحافة الإلكترونية تجعلها واعدة، فوجودها في كل زمان ومكان عبر الأجهزة الحديثة من الهواتف والحواسيب والأجهزة اللوحية، ونقلها الأحداث المباشرة مرفقة بالصور الحية، و إتاحة المجال لتعليقات الجمهور وتدخلاته تحريراً وتصويراً، ورخص ثمنها، ومؤثراتها الإخراجية, تجعل منها صحافة المستقبل، ولاسيما لجيل الشباب الذي يتفاعل مع المستجدات المعرفية بصورة سريعة، ويتواكب مع تطوراتها المتسارعة.
لا أحد يعلم ما سيحمله المستقبل من تطورات في مراحل الصحافة، لكن الصحافة الإلكترونية سيظل لها بريق أخاذ، وجمهور يتسم بالولاء، إلى أن يأتي العلم حاملاً معه فتحاً معرفياً جديداً يغير المفاهيم ويقلب الأمزجة ويستولي على القلوب.