نورا الشريف
كاتبة علمية (اليمن)
مع ازدياد تأثير ظاهرة تغير المناخ في شتى أنحاء العالم، وانعكاس ذلك على المجتمعات، يجد العلماء أنفسهم في صراع من الزمن لفعل كل ما يستطيعون من أجل ابتكار تقنيات تسهم في الحد من تداعياتها على البشر وبقية الكائنات الحية الأخرى، والإقلال من الأخطار الكبيرة المصاحبة لها.
وتطالعنا مراكز البحوث في المؤسسات العلمية والشركات الكبرى كل يوم بابتكارات جديدة وتقنيات متميزة تستهدف مجالا محددا من المجالات المرتبطة بتلك الظاهرة، بهدف الإسهام في حماية الكوكب وجميع الكائنات التي تعيش عليه.
ومن التقنيات التي أخذت طريقها إلى الاستخدام في الآونة الأخيرة الأسطح البيضاء التي يسميها العلماء أحيانا “التبريد الإشعاعي السلبي”. وهذه الأسطح تعمل على عكس ضوء الشمس مرة أخرى إلى الفضاء بدلاً من امتصاصه؛ مما يخفض درجة حرارة المباني ويقلل الحاجة إلى تكييف الهواء المعروف باستهلاكه الكبير للطاقة. وتعتمد الأسطح البيضاء على استخدام طلاء فائق البياض يعكس أشعة الشمس بالكامل؛ مما يسهم في جعل الأسطح أكثر برودة في يوم صيفي حار من الهواء المحيط بها.
تاريخ من التجارب
يعود استخدام التبريد الإشعاعي السلبي إلى عقود عدة، إذ بدأت الدراسات العلمية المتعلقة به في وقت مبكر من الستينات من القرن العشرين. وأجريت خلال تلك المدة تجارب ودراسات على الدهانات ذات القدرة على التبريد الإشعاعي أثناء النهار وتحت درجة حرارة المحيط، واستخدمت في معظم هذه الدراسات جسيمات ثاني أكسيد التيتانيوم TiO2 الشائعة في الدهانات التجارية.
ويتم عادة اختيار حجم الجسيمات لتكون في حدود مئات من النانومتر إلى عدة ميكرونات، بحيث تستطيع أن تشتت الضوء بشدة وتعكسه، وتكون الجسيمات بحجم مماثل لطول الموجة.
وفي عام 1978 أظهرت طبقة رقيقة من طلاء أبيض من أكسيد التيتانيوم مغطى بالألمنيوم تبريداً نهارياً أقل من حرارة المحيط خلال يوم شتوي، وعزي الانعكاس الشمسي العالي لهذه الطبقة إلى ركيزة الألمنيوم.
واستمرت الأبحاث خلال السنوات التالية إلى أن تمكن علماء جامعة بوردو في عام 2020 من إثبات وجود انعكاس شمسي عال بنسبة 95.5 %، وانبعاثية طبيعية عالية في نافذة الغلاف الجوي (هي نطاق للأطوال الموجية يكون فيه الامتصاص ضئيلا نسبيا للإشعاع بواسطة غازات الغلاف الجوي. وهناك ثلاث نوافذ رئيسية في الغلاف الجوي: النافذة المرئية، ونافذة الأشعة تحت الحمراء، ونافذة الميكرويف) تبلغ 0.94، ووجود تبريد إشعاعي كامل خلال النهار تجاوز 37 وات لكل متر مربع. وكانت درجة حرارة السطح أكبر من 1.7 درجة مئوية. وهذا أفضل أداء تبريد إشعاعي تم الإبلاغ عنه حتى ذلك الوقت، مع مزايا غير مسبوقة لشكل الطلاء والتكلفة المنخفضة، والتوافق مع عمليات تصنيع الطلاء التجارية.
مزايا الطلاء الجديد
من مزايا الطلاء الجديد أنه يمتص 1.9% فقط من أشعة الشمس ويعكس 98.1 % من ضوئها بما في ذلك الأشعة فوق البنفسجية؛ أي إنه يمتص مقدارا ضئيلا جدا من الأشعة الشمسية، ويبعث بالحرارة إلى الفضاء السحيق، وهو ما يجعل الأسطح المطلية به باردة، في حين تعكس الدهانات البيضاء العاكسة للحرارة المتوفرة في السوق حالياً أطوالا موجية معينة من ضوء الشمس ولاسيما الضوء المرئي وأطوال موجات الأشعة تحت الحمراء القريبة، لكنها تمتص أشعة الشمس فوق البنفسجية مما يتسبب في ارتفاع درجة حرارة السطح.
وعلى سبيل المثال، فقد أظهرت التجارب التي أجريت خلال ساعات الظهيرة المشمسة على سطح مبنى الحرم الجامعي في ويست لافاييت بولاية إنديانا أن الطلاء الجديد أسهم في جعل الأسطح الخارجية أبرد بمقدار 8 درجات فهرنهايت من درجة الحرارة المحيطة بها. وفي الليل حافظ الطلاء على الأسطح أكثر برودة بمقدار 19 درجة فهرنهايت من المناطق المحيطة بها، محققاً متوسط قوة تبريد بلغت 117 وات لكل متر مربع.
ومن أجل التوصل إلى المادة الأساسية التي تعكس الأشعة فوق البنفسجية ولا تمتصها، اختبر الباحثون أكثر من 100 مادة على مدار السنوات الست الماضية، وفي النهاية حصروا اختبارهم في كبريتات الباريوم، وهو مركب معروف يعكس الأشعة فوق البنفسجية.
ومع أن كبريتات الباريوم كانت نقطة انطلاق جيدة، فقد اتخذ الباحثون أيضا خطوتين جديدتين لتعزيز قدرة الطلاء على عكس الضوء وانبعاث الحرارة؛ إذ استخدموا تركيزاً عالياً من جزيئات كبريتات الباريوم، 60 % مقارنة بنسبة 10 % النموذجية في الدهانات الحالية، ودمجوا جسيمات ذات أحجام مختلفة. وتبين لهم أنه إذا وضعت أحجام مختلفة من الجسيمات في الطلاء فإنّ كل جسيم يمكن أن يتشتت ويعكس أطوالا موجية مختلفة، وأن مجموعها يعكس الطيف الكامل للأطوال الموجية في ضوء الشمس.
الحمل الحراري
من خلال الحفاظ على الأسطح باردة وتقليل استخدام مكيفات الهواء سيساعد الطلاء على الحد من حرق الوقود الأحفوري. ومكيفات الهواء تعمل عادةً عن طريق دفع الحرارة من الأماكن الداخلية إلى الخارجية، وهي طريقة تعرف باسم الحمل الحراري. إن انتقال الحرارة التي لا تزال في الأرض والمدن والهواء قد يساهم في ظهور الجزر الحرارية الحضرية، وهي ظاهرة تحدث عندما تصبح المدن أكثر سخونة من المناطق المحيطة بها، ومن ثم فإنها تتطلب المزيد من تكييف الهواء.
من ناحية أخرى يستخدم الطلاء فائق البياض الإشعاع لنقل الحرارة وإرسال أنواع من الموجات الكهرومغناطيسية عبر الغلاف الجوي إلى الفضاء السحيق، وهو ما يسهم في الحد من ارتفاع درجة حرارة الأرض. وباستخدام النمذجة الإحصائية قدّر الباحثون أن الطلاء قد يقلل من استخدام تكييف الهواء بنسبة تصل إلى 70 % في المدن الحارة، وأنه إذا تم طلاء مساحة تبلغ نحو 1000 قدم مربعة (92.9 متر مربع) فإننا سنحصل على طاقة تبريد تبلغ 10 كيلووات، وهذا أقوى من المكيفات المركزية التي تستخدمها معظم المنازل.
ويستحوذ التبريد على جزء كبير من استهلاك الطاقة في كل من التطبيقات السكنية والتجارية. ويمكن للتبريد الإشعاعي السلبي أن يبرد الأسطح دون أي استهلاك للطاقة عن طريق انبعاث الحرارة مباشرة من خلال نوافذ الغلاف الجوي الطيفية الشفافة.
وإذا تجاوز الانبعاث الحراري للسطح عبر نافذة السماء امتصاصه لأشعة الشمس يمكن عندئذ تبريد السطح إلى ما دون درجة الحرارة المحيطة تحت أشعة الشمس المباشرة. ومقارنة بمكيفات الهواء التقليدية التي تستهلك الكهرباء وتنقل الحرارة فقط من داخل المبنى إلى خارجه، فإن التبريد الإشعاعي السلبي لا يوفر الطاقة فحسب بل يحد من تأثير الاحتباس الحراري لأن الحرارة تُفقد مباشرةً في الفضاء.
أضرار مكيفات الهواء
هناك حاليا أكثر من بليون وحدة تكييف للهواء في العالم، بمعدل وحدة واحدة لكل سبعة أشخاص. ويتوقع أن يكون هناك بحلول عام 2050 أكثر من 4.5 بليون وحدة، مما يجعلها موجودة في كل مكان مثل الهاتف المحمول حاليا.
إن الهواء البارد يسهم في ارتفاع حرارة الأرض، فكلما زادت الحرارة استخدمنا مكيف الهواء، وكلما استخدمنا مكيف الهواء زادت الحرارة. ويقدر أن نحو 20 % من إجمالي الكهرباء المستخدمة في المباني حول العالم تذهب إلى مكيفات الهواء والمراوح الكهربائية. وارتفع استهلاك الطاقة العالمي لتبريد المباني من نحو 600 تيراوات في الساعة عام 1990 إلى 2000 تيراوات في الساعة عام 2016. ويشكل التبريد أكثر من 70 % من ذروة الطلب السكني على الطاقة في أجزاء من الولايات المتحدة والشرق الأوسط في أشد الأيام حرارة.
وستؤدي زيادة الطلب على الطاقة الكهربائية إلى زيادة الضغط على الأنظمة الكهربائية مما قد يتطلب عمليات صيانة مكلفة في السنوات المقبلة. إضافة إلى ذلك، ستُولد كميات كبيرة من الطاقة المستخدمة للتكييف عن طريق حرق المزيد من الفحم والنفط التي ينبعث منها الكربون، والتي تنتج بليون طن من ثاني أكسيد الكربون سنوياً، وهي نفس الكمية التي تنتجها الهند ثالث أكبر مصدر للانبعاثات في العالم حاليا.
ويحدث معظم استخدام مكيفات الهواء في الصين والولايات المتحدة واليابان، لكن الطلب عليها آخذ في الازدياد في جميع أنحاء العالم لاسيما المناطق الحارة مثل الهند وإندونيسيا والشرق الأوسط. وعلى سبيل المثال، فإن نسبة مستخدمي مكيفات الهواء بلغت في بعض الدول 8 % من نحو 249 مليون أسرة في مارس 2018، ويتوقع بلوغها 50 % عام 2050 مما يعني زيادة كبيرة في احتياجات الطاقة وكذلك تسرب الانبعاثات الضارة إلى طبقة الأوزون.