صحة المتقاعدين
د. قاسم السارة
الحديث عن التقاعد والمتقاعدين يقود معظم الناس إلى التفكير بآبائهم وإخوتهم الذين تقدموا بالسن أولاً وأعتقهم المجتمع من أداء واجبات تميَّزوا بالقيام بها سنوات طويلة، لكنَّ الأهمية الحاسمة للتقاعد تتمثل في أنها فترة يتاح فيها للمرء التفرغ لمراجعة المراحل السابقة في حياته، وتصحيح مسارها، وللعمل على الوصول للشيخوخة بصحة بدنية وروحية واجتماعية.
وإذا كان التقدم في السن وما يرافقه من ضعف وشيبة سنة من سنن الحياة، فإن التقاعد هو الفرصة الذهبية التي يمكن، إذا ما أُحْسِن استغلالها، أن تخفِّف من وطأة الضعف وتضفي على الشيبة الجمال والمتعة، وهو محطة مهمة في مسار صحة الإنسان، عليه أن يستفيد منها ليستمتع بشيخوخة مفعمة بالصحة والنشاط.
إن القدرة الوظيفية للنظام البيولوجي لدى الإنسان تتزايد في السنوات الأولى من العمر، وتبلغ ذروتها في مرحلة الشباب، ثم تبدأ بالانخفاض. وتعتمد وتيرة الانخفاض على السلوكيات التي يتبعها كل إنسان، وعلى مدى تعرّضه لعوامل تزيد من احتمال وقوعه ضحية للأخطار الصحية، وهي ما يتداوله الناس باسم «عوامل الخطر»، ومن أهمها أنواع وكمية المأكولات، ومدة وشدة واستدامة النشاط البدني، أو في المقابل مدى التهاون في ذلك والركون إلى الخمول وتعاطي التدخين أو الكحول أو المواد السامّة الأخرى، والتعرض للأزمات النفسية والجسدية.
ويختلف سن التقاعد بين منطقة وأخرى، وبين نظام وآخر من نظم العمل، فيراوح بين الخمسين والسبعين عاماً، كما يختلف تعريف التقدم في العمر أيضاً من سياق لآخر، فهو عند بعض الناس بعد الأربعين بقليل، وعند غيرهم يتجاوز السبعين.
مؤشر إلى الصحة
نظر العلماء إلى زيادة أعمار السكان على أنه مؤشّر إلى تحسّن الصحة في العالم، فخلال قرن واحد زاد مأمول الحياة المتوقع في كثير من بلدان العالم ليصل إلى بضعة وثمانين عاماً بعد أن كان بضعة وثلاثين عاماً فقط في مطلع القرن الماضي.
بل إن عدد سكان العالم الذين تزيد أعمارهم عن ستين عاماً زاد حاليا بنسبة تفوق ضعف ما كان عليه عام 1980، حتى تجاوز عدد الأطفال دون سن الخامسة، ومن المتوقع أنه سيتجاوز بحلول عام 2050 الملياري نسمة، فيتجاوز بذلك عدد الأطفال دون سن الرابعة عشرة. وهكذا سيتاح لمزيد من الأطفال ومن البالغين رؤية أجدادهم وحتى آباء أجدادهم وأمهات جداتهم، ذلك أنّ النساء يعشن في المتوسط ستة إلى ثمانية أعوام أكثر من الرجال.
غير أنّ هناك، إلى جانب هذه الفوائد، مشكلات صحية ترافق التقدم في السن، لعل أهمها ازدياد الحاجات الصحية للمسنين، ولاسيما في مجال الأمراض المزمنة والرعاية الطويلة الأجل والرعاية الملطّفة، وهي في مجملها أمراض أو أعراض تكبل النشاط وتقلل من فرص الاستمتاع بالحياة.
وينطبق ذلك على ضعف البصر وثقل السمع والتهاب المفاصل واهترائها، وأمراض خطرة تزداد احتمالات الإصابة بها مع تقدم العمر، مثل تصلب الشرايين والأورام والسكري وهشاشة العظام، وعوامل خطر تعرض المسنين والمسنات أكثر من غيرهم للأخطار ولاسيما لخطر السقوط والكسور، مثل تيبس المفاصل وارتعاش الأيدي والأرجل، ثم التبدلات التي تطرأ على الذاكرة والوعي بالمحيط القريب والبعيد ونقص التفاعل مع ما يعج به من أحداث ومتغيرات، وما يؤدي إليه ذلك من تضاؤل فرص التوافق بين أولويات المتقاعد وأولويات من حوله إذا ما تعارضت أو تداخلت في ما بينها.
وكثيراً ما يضطر المتقدمون في السن، ولاسيما المتقاعدون منهم، إلى تناول أعداد متزايدة من الأدوية والتعرض لآثارها الجانبية وغير المرغوب فيها ولنتائج التفاعلات فيما بينها، مما يؤدي إلى ازدياد تكاليف الرعاية الصحية على الرغم من تناقص الموارد المالية، وكل ذلك يزيد من احتمال الإصابة بالاكتئاب والاضطرابات النفسية والجسدية.
وتشير الدراسات إلى أن هناك أمراضاً وأوراماً تزداد احتمالات وقوعها مع تقدم العمر، مثل أورام الثدي وعنق الرحم والرحم والمبيض لدى السيدات، وأورام البروستاته والقولون لدى الرجال.
دور المجتمع
كلّما عجّلت المجتمعات في اتخاذ الإجراءات اللازمة لضمان صحة الإنسان في شيخوخته، زادت عوائدها وفوائدها التي تعمّ المجتمع بأسره. فالرعاية الجيدة لصحة الإنسان في مطلع حياته وفي كهولته ستحقق للمجتمعات شيخوخة مفعمة بالصحة، فيكون بإمكان %70 ممن تجاوزوا سن السبعين أن يعيشوا حياة معا، يخدمون أنفسهم، يصعدون الأدراج والسلالم من دون الحاجة إلى مساعدة، وسيعيش %80 ممن تجاوزوا 85 عاماً في منازلهم بين أولادهم وأحفادهم وأزواجهم، بعيداً عن المستشفيات وعن الإقامة في بيوت الخدمات الصحية، وسيتمتع معظمهم بقواهم العقلية التي تمكنهم من التحرك الفاعل في المجتمع، وفي الحصيلة النهائية سيتمتعون بحياة عائلية وجنسية سوية.
وفي المقابل إذا أهملت المجتمعات صحة الإنسان، فإنه سيصل إلى مرحلة الشيخوخة وهو يعاني أمراضاً تعوق حرية حركته، وتجعله رهيناً للرعاية الطويلة الأمد، فتنتقل أحواله بين التمريض المنزلي والحاجة إلى المساعدة في شؤون الحياة اليومية، والإقامة في مراكز الرعاية وفي المستشفيات لمدد طويلة.
ويمكن أن تتبين المجتمعات الإجراءات التي يتعين عليها القيام بها لإيصال أبنائها إلى شيخوخة مفعمة بالصحة والحيوية، من التعرف إلى طبيعة وعمق المشكلات التي يعانيها المتقدمون بالسن على وجه العموم، والمتقاعدون منهم خاصة.
ثم إن للمجتمع دوره الإيجابي في تشجيع المتقاعدين على الإسهام في التنمية، وتقدير جهودهم، بل وإسناد وظائف مهمة لهم، تساعد على حفظ المجتمع وتماسكه، فالمتقاعدون حلقة الوصل بين الأجيال المتعاقبة وذاكرة المجتمع.
ومن هنا كان على المجتمع أن يغيّر الكثير من البنى التنظيمية لاحتواء المشكلات التي تسببها زيادة أعداد المتقاعدين والمتقدمين في السن، وتوفير المستلزمات الضرورية لاستبقائهم في خدمته واستمرار استفادتهم بالمقابل من خدماته.
للمتقاعد دوره
ولكي يستفيد المتقاعد من فترة التقاعد ويستمتع بشيخوخة مفعمة بالصحة والنشاط، لابد له أن يتقبَّل تقاعده قبولاً حسناً، ويستبق موعده بالتخطيط لنمط حياة أكثر صحة مما كانت عليه قبل التقاعد، حينما كانت الأوقات ممتلئة بالمشاغل التي تصرفه عن العناية بصحته.
ويتضمن الاستعداد لاستقبال الشيخوخة وضع مخطط زمني تفصيلي لإجراء الفحوص الدورية، ولاكتشاف عوامل الخطر والتعامل معها بجدية وصرامة، وتخصيص المزيد من الوقت لاكتساب التثقيف الصحي والاجتماعي الموجَّه نحو المشكلات الصحية في مرحلة الشيخوخة، ولعل ذلك يشبه كثيراً ما كنتَ تقوم به عندما كنتَ تتهيأ لاستقبال مولود، فتسارع للاطلاع على كل ما تظنه مفيداً في ذلك.
ومن الموضوعات التي يجدر بالمتقاعد العناية بها بالتفصيل: مسائل اندماجه في المجتمع، وفرص تقديمه للخبرات التي اكتسبها في حياته المهنية والاجتماعية لمصلحة المجتمع والأسرة، ثم أنماط الحياة التي تساعد على حفظ الوظائف الحيوية للأعضاء وتنمية المهارات الذهنية، والتغذية المراعية للسن، والنشاط البدني المراعي للسن، والخدمات الاجتماعية الصديقة للمسنِّين.
درهم وقاية
وينطبق على المتقاعدين ما ينطبق على غيرهم من أهمية الوقاية واستباق الأخطار بالعمل الجاد على ممارسة التمارين الرياضية المناسبة للسن وللحالة الصحية والمحافظة على اللياقة البدنيَّة، ووزن الجسم وضبطه ضمن الحدود السوية، والقياس المنتظم لضغط الدم، والنوم الصحي، والوقاية من التعثر ومن السقوط، وتناول النظام الغذائي الصحي، ومراقبة علامات وأعراض تَصَلُّب الشرايين والحفاظ على مستوى الكوليسترول وثلاثيَّاتُ الغليسريد، والفحص الذاتي للثدي، والابتعاد عن التدخين وعن تعاطي المواد المسببة للإدمان والمشروبات الكحولية.