ترجمة: حازم محمود فرج
في الرابع من مايو من عام 2011، أعلن فريق من العلماء عن نتائج عمل بعثة مسبار الجاذبية (Gravity P. B)، التي أكدت اثنين من الآثار التي تنبأت بها نظرية النسبية العامة لآينشتاين، حينما كانت البعثة تكمل أيضاً أحد أطول المشروعات في تاريخ وكالة الفضاء الأمريكية ناسا. استمرت تجربة مسبار الجاذبية مدةً تبلغ نحو خمسة عقود، بدءاً من طرح فكرتها الأولى، وانتهاءً بعمليات التحليل الشاقة لبياناتها العلمية. تطلب المشروع ذاته تطوير تقانات متقدمة جداً، وكان على العلماء أن يتوصلوا إلى معرفة الكيفية التي يتعاملون بها مع إشارات غير متوقعة ظهرت في البيانات. كانت فكرة المشروع واضحة وبسيطة: صوّب محور تدويم كرة سريعة الدوران، مثل جايروسكوب gyroscope – وهو جهاز حفظ توازن الطائرة أو السفينة أو مركبة فضائية، ويمكّن أيضاً من تحديد الاتجاه – إلى نجم بعيد، وراقب الكيفية التي يتغير بها محور دوران الكرة بمرور الزمن بسبب التأثيرات التي تنبأت بها النسبية العامة. أمَّا في واقع التجربة العملية، فقد كان الأمر أصعب بكثير.
تعد النسبية العامة أفضل نظرية لدى العلم لتفسير آلية عمل قوة الثقالة (الجاذبية). لقد اعتقد الباحثون قبل عام 1916 أن المادة تتحرك بصورة غير مؤثرة عبر خلفيتي الزمان والمكان. ثم افترض آينشتاين أن الزمان والمكان يشكلان نسيجاً واحداً (زمكان space-time) بدلاً من الصورة السابقة لهما التي تقدمهما منفصلين. وعبر هذا النسيج تتحرك الكتل المادية، لتغير من بنيته؛ في حين يغير هو من حركتها فيه.
وبالطريقة نفسها التي تحني وتشوه بها كرة بولينغ تقفز على طاولة الترامبولين نسيج قماش الطاولة، فإن جسماً ثقيلاً وكبيراً مثل الأرض يغير ويشوه نسيج الزمكان. يؤثر هذا الانحناء على حركة جسم ما، ولنقل ساتل (قمر صنعي)، يدور حول الكوكب. تأخذنا النسبية العامة إلى نتائج وآثار قابلة للكشف، يستطيع الباحثون اختبارها بوساطة معدات فائقة الحساسية.
تتنبأ نظرية آينشتاين بأن إبرة تتحرك في اتجاه طولها على مسار يتبع السطح المنحني لكوكب الأرض، ستشير في اتجاه يختلف بقدر بسيط عندما تعود إلى نقطة بداية حركتها. يعرف هذا الاختلاف باسم المفعول الجيوديسي geodetic effect. إضافة إلى ذلك، يقوم كوكب الأرض بسحب الزمكان معه بقدر بسيط أثناء دورانه حول محوره، وكأنه يتحرك في بركة عسل. يدعو الفيزيائيون هذا الوصف التنبؤي باسم مفعول سحب الإطار frame-dragging effect وكلا هذين الأثرين هو مقدار ضئيل جداً.
الانطلاق من رؤية يمكن لضجيج الخلفية الكونية
Background noise (أو CMB): حقل إشعاعي دقيق الموجة ينتشر بتجانس عبر أنحاء الكون، تبلغ درجة حرارته 2.7 كلفن، ويعتقد العلماء أنه من مخلفات الانفجار الكوني العظيم- أن يغطي بسهولة أي إشارة دالة صادرة عن أي من التأثيرين الجيوديسي وسحب الإطار، وهو ما يجعل رصد آثار مفعولهما أمراً صعباً. لقد احتاج العلماء إلى طريقة دقيقة لكشف التأثيرات الضئيلة المنشودة. في أواخر عام 1959 وبداية عام 1960، وبفاصل أشهر قليلة بينهما، اقترح عالما فيزياء هما جورج باف من معهد ماساتشوستس للتقانة MIT في كامبريدج، وليوناردو شيف من جامعة ستانفورد في بالو آلتو بولاية كاليفورنيا، استخدام جايروسكوبات موضوعة في مدار حول الأرض لاختبار تنبؤات النسبية العامة. يسمح وضع هذه الأجسام في الفضاء بتخليصها من اضطرابات الغلاف الجوي للأرض؛ ويعني أيضاً أن هذه التجربة لن يكون عليها مغالبة قوة ثقالة الأرض. نشر شيف بحثاً أكثر إفاضة عن الفكرة في أواخر عام 1960 بعد مناقشة أحدث تقانة جايروسكوب مع عالمي الفيزياء ويليام فيربانك وروبرت كانون، اللذين تعمقا في دراسة خصائص المواد عند درجات الحرارة المنخفضة. وفي عام 1962، جاء فرانسيس إيفريت إلى جامعة ستانفورد وانضم إلى الفريق (سيكون لاحقاً هو المحقق الرئيسي للتجربة وسيتابع المشروع طوال خمسة عقود تقريباً). وفي السنة ذاتها، قدم الفريق اقتراحاً إلى ناسا لتمويله، وهو ما حصلوا عليه في شهر مارس من عام 1964. واستغرق مشروع مسبار الجاذبية عقوداً بسبب تحديات الإدارة وصناعة المعدات والأجهزة؛ لم تكن التقانة اللازمة موجودة في الوقت الذي تقدم فيه شيف وزملاؤه بفكرة البعثة. وبعد إطلاقها أخيراً في عام 2004، طوّر الباحثون أكثر من عشر تقانات جديدة، بما فيها جايروسكوبات عالية الدقة، ووسيلة لقياس حركاتها، وتطويرات لنظام تحديد المواقع العالمي GPS. كما أفادت بعثات أخرى من ناسا، مثل ساتل الأشعة تحت الحمراء الفلكي (IAS) ومستكشف إشعاع الخلفية الكونية (COBE)، من بعض تقانات التبريد الخاصة بمسبار الجاذبية.
صعوبات البعثة
في شهر يونيو 1977، وبعد أن تحقق كمٌ كبير من التقانات اللازمة للبعثة، انتقلت خطة بعثة مسبار الجاذبية من مرحلة «البحث التمهيدي» إلى مرحلة «تطوير التقانات». وفيما بدا كل شيء يسير بصورة حسنة، خلصت دراسة معمقة في عام 1982 إلى أن المركبة ستكون كبيرة الحجم جداً، وسيكون المشروع مكلفاً جداً أيضاً. لذا كان على الفريق إجراء مراجعة شاملة لتصميم التجربة بدءاً من عام 1983. في عام 1994 أي بعد 30 عاماً من الوقت الذي نال فيه الفريق التمويل الأولي وقّع الفريق العلمي القائم على بعثة مسبار الجاذبية ووكالة ناسا اتفاقية تجعل التجربة بعثة رسمية لناسا. ثم وضعوا تاريخاً محدداً لإطلاقها في شهر أكتوبر 2000. لكن، لسوء الحظ، ظهرت مشكلات تقنية غير متوقعة. كان أبرز هذه المشكلات هو ما حدث في عام 1998 في أثناء اختبار وعاء ديوار dewar (الذي هو بصورة أساسية جهاز ثيرموس بداخله 645 غالوناً من الهليوم السائل) والمسبار (الذي يضم المعدات العلمية كلها)، عندما اكتشف العلماء مشكلة تتعلق بعمل الوصلة الحرارية. يوجد في داخل المسبار أربع نوافذ صممت كي تعكس وتمتص الأشعة تحت الحمراء وتسمح بنفاذ الضوء المرئي عبر المنظار (التلسكوب). بعد وضع الجايروسكوبات في المسبار، وجد الفريق أن كل نافذة من النوافذ الأربع كانت تسجل قراءة حرارة مرتفعة جداً. وكان أمامهم خياران لمعالجة المشكلة: إما إعادة فك الآلة بكاملها وترك الموعد المحدد للإطلاق يمضي إلى ما بعد سنتين أخريين، أو أن يقوموا بحفر ثقوب ويضعوا مسامير ملامسة عبر السطح الخارجي لتصل إلى كل واحدة من الحلقات التي تثبت النوافذ الأربع. اختار الفريق الحل الثاني، وهو ما أخذ منهم سبعة أشهر من العمل. كانت البراعة تكمن في إنجاز هذا الأمر دون التسبب في إحداث فراغ تتسرب من خلاله كمية كبيرة من فتات الثقب وتسقط داخلاً لتصل إلى الجايروسكوبات أثناء معالجة المشكلة. وهذا مثال آخر على التفكير الإبداعي الذي احتاج إليه العمل على مشروع مسبار الجاذبية.
انطلاق التجربة
بعد 40 سنة من تطوير التقانات والاختبارات، أطلق مسبار الجاذبية في 20 إبريل 2004، على متن صاروخ دلتا 2 الذي صنعته شركة بوينغ، من قاعدة فاندنبرغ الجوية خارج لومبوك بولاية كاليفورنيا. دخلت المركبة المدارية الفضائية مداراً دائرياً على ارتفاع 642 كم فوق قطبي الأرض، لتكمل دورة واحدة كل 97.5 دقيقة. وفي مرحلة جمع المعلومات من بعثتها التي دامت 50 أسبوعاً أنجزت بعثة المسبار أكثر من خمسة آلاف دورة مدارية. وعندما وصلت المركبة إلى مدارها القطبي، ثبت العلماء منظار المسبار صوب النجم الدليل IM Pegasi، ثم بدأوا العملية التي استغرقت وقتاً أكثر من المتوقع للوصول بالأجزاء الدوّارة (الكرات) في الجايروسكوبات إلى معدلات تدويمها المطلوبة. استغرق الأمر أكثر من شهر للوصول بها إلى سرعة دورانها النهائية يدور كل منها أربعة آلاف دورة في الدقيقة تقريباً؛ اثنان يدوران بجهة دوران عقارب الساعة، والآخران بالعكس. وفي وقت تال، كان على العلماء أن يضبطوا اتجاه محاور تدويم الجايروسكوبات على استقامة مع اتجاه المنظار. واستغرقت عمليات الضبط هذه 129 يوماً، وهو ضعف الوقت المتوقع. ومن أجل التقاط أثر تنبؤات النسبية العامة في معطيات المسبار، وجب على العلماء أن يحدّوا من الضجيج الذي يحجبها. لذا فقد كان على التصميم الميكانيكي للمسبار أن يلبي سبعة عوامل تجريبية يجب على الباحثين ضبطها جيداً لعدم حجب البيانات، ثلاثة منها تتعلق بالجايروسكوبات، وأربعة بالبيئة المختبرية التي أوجدت في داخل المركبة.
قريبٌ من الكمال
من أجل قياس التغيرات الضئيلة على سطح الأرض التي تدل على تأثيرات النسبية العامة، يجب أن تكون كل كرة دوّارة rotor صقيلة بدرجة جزء واحد إلى 1017 جزء. سيعني أي انتفاخ أو نتوء عليها أن الثقالة ستمارس فعل جذب على أجزاء مختلفة من الكرة أكبر منه على أجزاء أخرى. وسيؤثر اختلاف الجذب هذا على حركة الجايروسكوب، وبذا ستختفي تماماً الآثار الخفيفة للنسبية العامة بين هذه الإشارات الأخرى.
أما وضع جايروسكوب في الفضاء بدلاً من الأرض فسيؤدي إلى تقليص شدة القوى المؤثرة عليه بقدر 1011 لذا فمن أجل معادلة جزء واحد في 1017 جزء، يجب أن تصنع كل كرة دوارة بدرجة صقل تبلغ جزءاً واحداً في المليون (106). ومن أجل تحقيق هذا الشرط، صنع العلماء كرات دوارة هي أكثر الأجسام كروية وصقلاً التي أمكن للإنسان أن يصنعها. ومن أجل تقريب درجة كروية وصقل هذه الكرات إلى تصورنا، لنتخيل فقط لو أن كرة الكوارتز المنصهر هذه، التي يبلغ قطرها 38 مم، ضخّمت إلى حجم كوكب الأرض، لبلغ ارتفاع أعلى جبالها أو أخفض محيط فيها 2.4 متر فقط.
وضعت كل كرة دوارة داخل وعاء من النَيوبيوم (وهي مادة فائقة الموصلية)، ثم علّقَت كهربائياً في وعائها، ليقوم تيار من الهليوم السائل يمرر عبر ثقب في الوعاء بتسريع دوران الكرة الدوارة. وبسبب تأثير مادة النيوبيوم المحيطة بها، صارت هذه الكرات أشبه بموصلات فائقة تقوم بتوليد حركة مغنطيسية تتراكب باستقامة دائماً مع محور الدوران. وبذلك يستطيع العلماء متابعة محاور دورانها من خلال متابعتهم الحركة المغنطيسية للجايروسكوبات الأربعة.
صمم مسبار الجاذبية GP-B كساتل «عديم الاحتكاك»، وهو ما يعني أن المركبة تدور حول الأرض في حالة سقوط حر دائم. لذا فقد عامت الجايروسكوبات الأربعة في الجهاز في حالة انعدام وزن، وبذا فهي لن تتأثر إلا بالآثار التي تحدثت عنها النسبية العامة. كانت الفكرة من ذلك هي منع قوى الاحتكاك المختلفة، من غلاف الأرض الجوي أو ضغط إشعاع الشمس، من التأثير على الجايروسكوبات.
لكن كيف أنجز المهندسون هذا؟
قامت محسات sensors بمراقبة واحد من الجايروسكوبات ووعائه: إذا تحرك الجايروسكوب نحو أي محس، يجري تشغيل معززات الدفع على مسبار GP-B لتحرّك كامل الجهاز كي يعيد وضع الجايروسكوب في المركز. وبصورة أساسية، فقد تبع المسبار حركة الجايروسكوب في المدار.
إضافة إلى ما سبق، كان مسبار الجاذبية هو أول مركبة تحظى بحرية حركة قدرها 6 درجات: فهي يمكن أن تميل إلى الأعلى والأسفل (ذروة)، وتستدير يساراً ويميناً (انعراج)، وتنحرف من جانب إلى جانب (ترنح)، هذا عدا تحركها أعلى وأسفل، يساراً ويميناً، وأماماً وخلفاً. ومن أجل معادلة أي تأثير حراري إضافي على الجايروسكوبات، فقد كانت المركبة تنجز أيضاً دورة حول محورها الأطول كل 77.5 ثانية.
النتائج الأولى
بدأت عمليات جمع النتائج العلمية رسمياً في تاريخ 27 أغسطس 2004، واستمرت مدة 50 أسبوعاً. ولأنَّ أحداً لم يكن يعلم يقيناً المدة التي سيدوم بها عمل الهليوم السائل، فقد توقف الفريق عن جمع البيانات في 14 أغسطس 2005، وانتقل إلى عمليات الضبط العلمية التالية. وبعد 46 يوماً نفد سائل التبريد، وبدأ العلماء بعمليات التحليل الموسعة للبيانات.
قدمت عدادات القراءة الإلكترونية قياسات الجايروسكوبات بدقة تبلغ 0.1 مليثانية (جزء واحد من ألف جزء من الثانية) وبذا أمكن للعلماء متابعة حركة الكرات الدوارة فيها باستمرار. وفي واقع الأمر، فقد رأوا دليلاً يشير إلى تأثير المفعول الجيوديسي حتى قبل معالجة بيانات التجربة.
وأعلن فريق المسبار GP-B اكتشافاته بشأن التأثير الجيوديسي في شهر يونيو من عام 2007 بعد انتهاء المشروع بوقت قصير. تتنبأ النسبية العامة بأن التأثير الجيوديسي سيحرف محور الجايروسكوب بقدر 6.606 مليثانية قوسية في العام الواحد؛ وقد بلغ معدل انحراف محاور جايروسكوبات المسبار GP-B قدر 6.602 مليثانية قوسية (مع ارتياب يبلغ %0.5) نسبة إلى النجم الدليل. أما كشف الدليل على مفعول سحب الإطار فقد استغرق وقتاً أطول وتطلب كثيراً من العمل البحثي.
تتنبأ النسبية العامة بانحراف قدره 39.2 مليثانية قوسية في السنة، وهو ما يجعل التخلص من الضجيج أمراً أكثر أهمية. وفيما أمل علماء فريق مسبار الجاذبية GP-B بقياس مفعول سحب الإطار إلى درجة ارتياب قدرها %1 فقط، ليأخذوا بذلك أدق قياس لهذه النتيجة التي تنبأت بها النسبية العامة، فسيكون عليهم الاتفاق وإيجاد حل لنسبة ارتياب تبلغ %19 تقريباً. وقد رصد الفريق انحرافاً بلغ 37.2 مليثانية قوسية (بهامش خطأ قدره ±7.2 مليثانية قوسية). وذكرت تجارب أخرى أنهم رصدوا مفعول سحب الإطار بدرجة ارتياب تقل عن %10.
ولسوء الحظ، ففيما كانت جايروسكوبات المسبار GP-B كروية من الناحية الميكانيكية، فقد كانت بعيدة عنها من الناحية الكهربائية, وكان تأثير هذا التضارب أكبر بكثير من المتوقع. يقول إيفريت: «لقد فكرنا في هذه النقطة قبل إطلاق المسبار، لكننا لم نفكر بصورة صحيحة».