روبرت شيرر وسارة ويليام شيرر
ترجمة: حازم محمود فرج عن مجلة Astronomy
هل سيتمكن علماء الفلك من رؤية حادثة الانفجار العظيم التي أنتجت الكون؟ سؤال لطالما راود الباحثين والأشخاص العاديين طوال ألوف السنين، فقد شغلت مسائل بداية الحياة والكون فكر العلماء والمفكرين ومعظم بني البشر. ويقول علماء الكون إنه لو تسنت لهم فرصة الحصول على لمحة عن الانفجار العظيم، الذي يعتقد أنه أتى بالكون إلى حيّز الوجود قبل نحو 14 مليار سنة، فإن ذلك قد ينهي جدلاً تاريخياً حول أصل الكون. لكن العوائق الفيزيائية التي تفرضها ذات الجسيمات التي نشأ عنها الكون تحول دون ذلك، كما لو أنها حُجُبٌ طبيعية تمنع محاولات العلم لرؤية لحظة بداية الكون والزمن.
واجه المستكشفون والعلماء على الدوام مثل هذه الحجب أو القيود، على الأرض وفي الكون. فقد مثلت المحيطات حاجزاً حال دون رؤية المستكشفين الأوروبيين العالمَ الجديد (القارة الأمريكية) طوال قرون كثيرة.
وتعكس خريطة العالم التاريخية مابا موندي Mappa Mundi وهي واحدة من خريطتين فقط متبقيتين من خرائط حقبة القرون الوسطى هذا الحاجز المعرفي. وتوجد هذه الخريطة حالياً في كاتدرائية ببلدة هيريفورد الصغيرة في غربي إنكلترا، وهي تظهر لنا «العالم المعروف» حينذاك كدائرة مسطحة تقع مدينة القدس في مركزها، وتنتشر أوروبا وآسيا وإفريقيا في أطرافها.
وتقدم هذه الخريطة قارات الأرض بصورة بعيدة عن الدقة، وتحيا فيها كائنات خيالية. لكن أغرب ما في الخريطة هو أنها تنتهي فجأة عند حافة الدائرة، دون وجودٍ لأي شيء وراءها. لم تختلف نظرتنا إلى الكون كثيراً عن خريطة مابا موندي، فخريطة «الكون المعروف» الحالية تنتهي فجأة عند مسافة لا تزيد كثيراً عن 10 مليارات سنة ضوئية في جميع اتجاهات الرصد، وكأننا نوجد في مركز ستارة كروية متوهجة لا يستطيع علماء الفلك حالياً رؤية ما بعدها. أمَّا علماء المستقبل فربما يتمكنون من استخدام جسيمات دون ذرية، غير معروفة، لاختراق هذه الستارة. لكنهم، بكل بساطة، سيصطدمون بحجبٍ أخرى وراءها؛ حجب يكمن أصلها وسرها في صميم بداية الكون.
توسع نظرة العلماء
وفي سعيهم لتخطي عائقهم، غامر مستكشفو عصر النهضة بالإبحار وراء حدود خريطة مابا موندي، فاكتشفوا كروية الأرض. وفي الوقت ذاته، كان علماء الفلك يوسعون نظرتهم إلى الكون بنحو مماثل أيضاً.
وبدلاً من كون وثير من العصور الوسطى تتوسطه الأرض، فقد اكتشفوا أن الأرض هي التي تدور حول الشمس، التي اتضح لهم لاحقاً أنها مجرد نجم واحد من نجوم أخرى كثيرة.
وحتى بدايات القرن العشرين، كان علماء فلك كثيرون يعتقدون أن نجوم مجرة درب التبانة تكوّن الكون كله، وهي نظرة استمرت حتى وقت متأخر من عشرينيات القرن الماضي، عندما قام إدوين هبل (1889 – 1953) عالم فلك أمريكي اكتشف في عام 1929 ظاهرة ابتعاد المجرات عنا وعن بعضها بسرعات تتناسب مع مسافاتها، وهو ما فُسّرَ بتوسع الكون وأطلق اسمه على منظار هبل الفضائي الشهير) بقياس المسافات إلى المجرات القريبة، ليتمكن الفلكيون بذلك من دفع ستارة جهلهم بعيداً، وليعرفوا أن مجرتنا إنما هي واحدة من مجرات أخرى كثيرة تفصل بينها ملايين السنين الضوئية. هكذا توسعت نظرة العلماء إلى الكون من قدر آلاف السنين الضوئية (المسافة إلى أبعد النجوم المرئية في مجرتنا) إلى قدر ملايين السنين الضوئية (المسافات إلى المجرات الأخرى).
جسيمات النيوترينو
إن جسيمات النيوترينو هي أشباح عالم الجسيمات دون الذرية؛ إذ يمكنها اختراق كل شيء تقريباً عبر المسافات كلها. تطلق شمسنا عدداً هائلاً من جسيمات النيوترينو؛ وتعبر المليارات منها جسدك في كل ثانية دون أن تشعر بها أو تلحظها.
وقد كافح العلماء منذ عقد الستينيات في القرن العشرين لرؤية جسيمات النيوترينو الشمسية. لكن اكتشافها كان على الدوام أمراً أقرب إلى المستحيلات، لأنها تعبر معظم أجهزة الكشف دون أن تلحظها. ومن أجل اكتشاف بعضها والإمساك به، قام الباحثون بدفن أجهزة رصد وتسجيل ضخمة مصنوعة من معادن نادرة، ومياه، أو سوائل تنظيف، في أعماق المناجم، والأنفاق، وتحت الطرق العامة. وسيكون العلماء محظوظين حقاً حتى بوجود أجهزة الكشف الضخمة هذه إذا استطاعوا التقاط جسيم واحد أو اثنين في اليوم من ملايين المليارات الكثيرة التي تخترق الأرض وتعبرها.
وإضافة إلى جسيمات النيوترينو الشمسية هذه، يمتلئ الفضاء أيضاً بسحب من جسيمات نيوترينو أخرى تبقت من حادثة الانفجار العظيم، وهي تنهمر على الأرض باستمرار. ولأنها قادرة على اختراق المادة بسهولة بالغة، فهي تستطيع اختراق ستارة الـ 3000 درجة كلفن الحاجبة للضوء العادي. وفي واقع الأمر، فإن جسيمات النيوترينو الكونية تصل إلى الأرض من مسافة بعيدة خلف الستارة الأولى تلك. إن طاقة جسيمات النيوترينو الكونية تقل كثيراً عن طاقة جسيمات النيوترينو الشمسية (أقل من جزء من مليار من طاقة جسيم النيوترينو الشمسي) ولدرجة تجعل رصدها أمراً لا يمكن الدنو منه. وليس لدينا جهاز كشف يستطيع حتى مجرد الاقتراب من هذا الهدف. ولكن مثلما أن المقاريب الحالية كانت ستذهل غاليليو لو رآها، فربما يحقق علماء المستقبل ما يبدو مستحيلاً حالياً، ويتمكنون من بناء مقراب (تلسكوب) قوي بما يكفي لمشاهدة جسيمات النيوترينو الكونية المتبقية من حقبة الكون البدائي.
المقراب القوي
ترى أي مشهد كوني مختلف سيقدمه هذا المقراب؟ بدلاً من رؤية مجرات ونجوم، لا بد أنه سيرى كوناً ممتلئاً بغاز ناعم من الأيونات والإلكترونات. وبينما تصنع معظم العناصر الكيميائية التي نعرفها حالياً في النجوم، فإن مادة الكون البدائي كانت تتكون من عناصر بسيطة، مثل الهدروجين والهليوم والليثيوم، وهي مادة لا يمكن رؤيتها بسهولة، لأن حزماً من طاقة إشعاعية، تدعى بالفوتونات، كانت أكثر كثافة منها وحجبتها.
في وقت مبكر من تاريخ الكون، عندما كان بعمر عدة دقائق فقط، كانت حرارته تبلغ مليارات درجات الكلفن، وأدت إلى تحطيم ذرات مادته إلى عناصرها المكونة الرئيسية البروتونات والنيوترونات والإلكترونات. اندمجت هذه المكونات معاً لتصنع الهدروجين الثقيل من البروتونات والنيوترونات، ثم الهليوم من الهدروجين الثقيل، ثم الليثيوم في النهاية. وفي وقت أكثر قدماً، بقدر يقرب من ثانية واحدة بعد الانفجار العظيم، بلغت الحرارة حداً هائلاً قدره 10 مليارات درجة كلفن. قبل ذلك الوقت، كان ممكناً للبروتونات والنيوترونات أن تتبادل هوياتها من خلال تبادل جسيمات النيوترينو بينها. لكن بعد تلك الثانية الأولى توقفت التبادلات، وتركت بعدها بحراً من جسيمات النيوترينو التي فرضت حاجزاً ثانياً. يمنع هذا الحاجز العلماء من أن يعرفوا يقيناً أي شيء وراءه. لكنهم يعتقدون أن أموراً غريبة كثيرة حدثت في الجزء الأول من عشرة آلاف جزء من الثانية الأولى من عمر الكون. ولما كانت حرارة الكون حينها تفوق درجة تريليون كلفن، فقد كانت البروتونات والنيوترونات مفككة إلى جسيمات دون ذرية تدعى بالكواركات quarks، وهي جسيمات حدد العلماء ستة أنواع منها تتحد مع بعضها بطرق مختلفة لتكوّن البروتونات والنيوترونات وجسيمات أخرى.
وبالدنو أكثر من لحظة الانفجار العظيم، سنرى قوى الطبيعة – مثل الكهرمغنطيسية والقوى التي تمسك بالبروتونات والنيوترونات معاً في نوى الذرات – وقد انبثقت وتطورت وفق آليات دقيقة وحرجة جداً. في الأزمنة السحيقة القدم تلك، كانت هذه القوى منتظمة في قوة واحدة مفردة، تمايزت لاحقاً إلى قوى منفصلة وتغيرت شدة قواها النسبية. في ذلك الزمن السحيق، ربما نشأت المادة ذاتها عن طاقة الانفجار العظيم وفق عملية لم يدركها العلم بنحو كامل بعد.
ومن أجل رؤية زمن بهذا القدم، يجب على العلماء اكتشاف جسيم يحظى بقدرة اختراق تفوق قدرة جسيمات النيوترينو. ومن المفارقة أن يرتبط هذا الجسيم الخارق القوة بأضعف قوى الكون: قوة الثقالة gravity force. ومع أن الثقالة (الجاذبية) قوية بما يكفي لتمسك بنا بثبات على الأرض، فإنها في واقع الأمر أضعف بكثير من القوى دون الذرية التي تمسك بقوام الذرات ونواها معاً.
ويعتقد الباحثون أن جسيماً كهذا موجود فعلاً. إنه الغرافيتون Graviton الذي يفترض العلماء أنه يبث قوة الثقالة بين أجزاء المادة. وعلى الرغم من عدم رؤية أي شخص للغرافيتون، فإن العلماء يعتقدون بوجوده لأن نظرية آينشتاين في النسبية العامة تتنبأ بأن الكتل المادية المتحركة يجب أن تطلق جسيمات الغرافيتون مثلما تطلق الشحنات المتحركة فوتونات الأشعة الكهرمغنطيسية. لكن كشف جسيمات الغرافيتون المتبقية من حقبة الكون البدائي هو أمر أكثر صعوبة بكثير من اكتشاف جسيمات النيوترينو. لذا يبدو واضحاً أن هذا العمل سيكون منوطاً بعلماء الفلك في المستقبل البعيد جداً، الذين سيكون بوسعهم إذا استطاعوا بناء جهاز كشف قوي بما يكفي لرؤية جسيمات الغرافيتون أن يقتربوا كثيراً من رؤية لحظة ولادة الكون ذاته.
لكن علماء الفلك في ذلك المستقبل البعيد جداً سيصطدمون بجدار آخر عند نقطة كان الكون فيها بعمر لا يتجاوز جزءا لا يذكر من الثانية الأولى من تاريخه؛ وكانت حرارته حينها تبلغ مئة مليون تريليون تريليون درجة كلفن. إن ظروف الحرارة والكثافة الخارقة التي كان فيها ذلك الكون الوليد حجبت حتى جسيمات الغرافيتون. وهذه حالٌ لا يعرف العلماء معها ماذا كان الكون الوليد يشبه خلف ذلك الحاجز، لأن أفضل أسلحتهم النظرية (النسبية العامة وميكانيك الكم) تسقط عاجزة أمام عتبة حرارة هائلة مثل هذه، ولا تقدم سوى تنبؤات هزيلة، من قبيل انهيار موجات الضوء إلى ثقوب سوداء ميكروية. لذا فإنه حتى لو نجح العلماء في رؤية جسيمات النيوترينو والغرافيتون، فسيمنعهم حاجز أخير في أعماق الزمن من رؤية لحظة ولادة الكون.
ختاماً
هل ستكون هذه الستارة هي الأخيرة فعلاً؟ أم سيتمكن العلماء في نهاية الأمر من التغلب على هذا الحاجز ورؤية ما وراءه؟ سيحتاجون عندها إلى إيجاد جسيم ما، له قدرة اختراق أعلى من كل ما سبقه من الجسيمات وأكثر مراوغة وتفلتاً حتى من جسيمات النيوترينو والغرافيتون.
لكن نظرياتنا الحالية ليس لديها شيء تقوله عن جسيم أكثر قدرة على الاختراق من جسيم الغرافيتون. وإذا كانت هذه النظريات صحيحة، فسيكون عندها هذا الحاجز هو الحجاب الأخير الذي سيمنع فعلاً علماء الفلك من أي رؤية إلى ما وراءه وصولاً إلى لحظة بداية الخلق. وستنتهي حدود خريطتنا للكون المعروف عندها فجأة كما انتهت حدود خريطة مابا موندي.