د. نزار خليل العاني
هناك منطقة ظليلة في تاريخ العلم ربما لا يستطيع أحد الكشف عن فحواها! وهي تتمثل في سؤال مفاده: متى بدأ الإنسان خطوته العلمية الأولى؟ اقتنيت وقرأت مئات الكتب التي تبحث وتجادل وتستعرض زمن هذه الخطوة وشكلها، لكن كل هذه الكتب عجزت عن كشف الغطاء كاملا عن ذلك. ويبقى لغز الخطوة الأولى غامضا. ويلخص العلامة جورج سارتون هذه الخطوة بتمثيله لنظام العد الذي بدأ عنده هكذا: واحد، اثنان، (كثير). بهذه الجملة انبثق فجر الرياضيات ووصلنا بالعد خلال عشرة آلاف سنة إلى (غوغل) ( رقم واحد متبوعاً بمئة صفر).
وهذه المقالة تقارن وتطرح رؤى حول حاجة الإنسان الكمّية ( من كَمْ؟) للعلم في مسيرته الشاقة والهائلة من مفهوم (كثير) إلى مفهوم (غوغل).
بدايات العلم
عمر تاريخ العلم قصير جداً: لو افترضنا أو تخيلنا أن عمر الإنسان منذ فجر وجوده على الأرض وحتى الآن هو يوم واحد، أي 24 ساعة، ومن ثم فإن كل ما عثرنا عليه من دلائل حتى اليوم يشير إلى أنه بدأ في تدوين تاريخه على الحجر أو الرق أو الأوراق في الدقائق الثلاث الأخيرة تقريباً من هذا اليوم.
إن هذا التقدير الحسابي يكشف عن جهلنا التام لكل مايريده الفكر، وما تشتهيه الفلسفة وأسئلتها المؤرقة: كيف، لماذا، أين، متى؟؟
الأساطير والكتب الهرمسية والصوفية هي التي جازفت وفكرت في الوقائع التي حدثت خلال اليوم الافتراضي المجهول لعمر الإنسان، والذي لا نعرف عنه سوى دقائقه الثلاث الأخيرة.
في الأساطير تبدو قصة «حيّ بن يقظان» للفيلسوف ابن طفيل كافية للكشف عن المواجهة الدرامية بين الإنسان المعزول والوحيد والطبيعة وتعقيداتها، وأن هذه المواجهة استلزمت الاتكاء على السلاح المعرفي للتغلب على المجهول. هنا، في هذه البؤرة تحديداً، تتّقد جمرة العلم.
إن «حي» الذي تربيه ظبية في جزيرة مقطوعة ينازل – بعد أن اشتد عوده – الطبيعة وقسوتها، ويفكر بالحجر والشجر، ويطيل التأمل، ويقهر التحديات، وتتسم مسيرته بضرورة العقل للإنسان، ومن ثم ورطته أن يكون عارفاً وعالماً وقادرا على استخدام الأدوات، وهو إجراء علمي محض، وأجازف وأقول تقانياً. فهو حين يقارن عريه بكسوة الكائنات بالريش والوبر والفراء، يلجأ إلى أوراق الشجر ليكسو عريه. وهي خطوة تكنولوجية بدائية.
الكتب الهرمسية من أغرب الكتب في تاريخ الكتابة. لغز صاحبها هرمس غير قابل للكشف، فهو ذو مسميات عدة في الديانات والشعوب. ما يهمنا في هذا البحث أنه أخذ في تاريخ الشعوب صفات شتى منها شخصية الإله أو النبي أو الطبيب أو الفيلسوف والعالم، ولا تزال شارة الطبابة تعرف باسم صولجان هرمس. وهي عبارة عن صولجان تلتف عليه حيتان في أعلاه جناحان. وقد وجد هرمس في الألف الثالث أو الرابع قبل الميلاد. وفي ذلك التاريخ المُغرق في القدم نقرأ ظلالاً وإن كانت باهتة عن العلم.
بين العلم والفكر
إن العلم لصيق بفكر البشر، وهو خاصية ذهنية كامنة وثابتة في الدماغ الذي يستعلم ويستنتج ويتكهن، لذا جاء فكر الكتب الهرمسية مشحوناً بالعرفان. وقد انتقل هذا العرفان إلى البابليين والمصريين والإغريق، واكتسى العرفان الديني الفلسفي برؤى علمية أولية، وهي تشكل فجر العلم.وليس غريبا أن نجد الكاهن آنذاك صانع عقاقير وصانع زجاج، وأن قانون الذهن البشري العام الذي تمسك به اليونانيون – أي قانون التحول في الزمان، وهو قاعدة العلم الراسخة – قد انبثق من بين سطور الكتب الهرمسية. بكلمة واحدة: العلم فطرة وغريزة عميقة، وهو مبثوث في ثنايا الأسطورة والسحر والكهانة والتنجيم والخرافة، وأفلح هذا الإرهاص العلمي المبكر في تقديم المساندة لارتقاء الإنسان.
بين توينبي وإنسان بكين
ويعزو المؤرخ أرنولد توينبي في كتابه (تاريخ البشرية) نشأة العلم إلى الشكل التشريحي ليد الإنسان وأصابعه؛ فاليد في اعتقاده آلة متكاملة تمسك وتحبس وتقبض وتفك وترفع وتخفض وتجمع وتفرق وتقطع وتتسلم وتسلم، واليد العبقرية هي مهد الطاقة الأول، وذلك حين أمسكت بحجر الصوان وقدحته بحجر آخر لتوليد النار. من هنا بدأت مسيرة الاختراعات. يتحدث د.دحام إسماعيل العاني في كتابه (موجز تاريخ العلم) عن المكتشفات الأولى لإنسان بكين Pekin man في كهف شوكوتين والعثور على جمجمة بشرية ترجع إلى عصر يعود إلى نصف مليون سنة، وقد وجد إلى جوارها أحجار استخدمت كأدوات أو آلات. وتشير الموجودات إلى أن إنسان بكين كان يستخدم أدوات خشبية، كما أمكن له أن يستفيد من عظام الحيوانات والأحجار لتشكيل بعض الأدوات التي يحتاج إليها، إضافة إلى ذلك فقد عرف كيفية الاستفادة من النار في طهو منتجات صيده وقطافه.
ثورات العلم
لو استعرض قارئ العلوم مسيرة الإنجازات والقفزات والابتكارات العلمية منذ بدء الخليقة إلى اليوم، وأراد سردها وتبويبها، لما وسعته كل الموسوعات المرصوفة في مكتباتنا. سيلٌ عرمرم من العلوم، كشوفات ونظريات واختراعات وطبابة ومعجزات هندسية لا تفسير لروعتها وكمالها، والذي صنعها لم يكن يعرف سوى القنص والصيد، وأدواته فقيرة ومضحكة.
وحتى اليوم لا أحد يعرف الكيفية التي نُقلت بها المسلاّت الفرعونية بأوزانها التي تتجاوز مئات الأطنان من مناجمها إلى أمكنة تموضعها !! أو الكيفية التي أجرى بها الفراعنة عمليات التربنة، أي الجراحة الدقيقة لرؤوس المرضى، إذ تظهر الدراسات المعنية بنمو العظام أن المريض عاش طويلاً بعد الجراحة !!
وما زال تسونامي العلم وتطبيقاته تشكل طوفاناً وتدعو المرء للتساؤل: هل يحتاج المرء فعلاً إلى هذا الفيض من منتوجات العلم؟ وما الأفق النهائي لهذا التطور الثوري الذي لم يتوقف لحظة واحدة؟ للوقوف لوهلة حول السمة الفارقة لعلمنا المعاصر وهي التسارع، فقد صار الإنسان ينتج خلال ثماني دقائق ما كان يحتاج إلى سنة كاملة. وحصانه بعد الترويض لاستخدامه بالتنقل صار صاروخاً وصل إلى القمر. والمشهد التقاني أو التكنولوجي يزداد تعقيدا في كل ثانية، ويمكن القول إن واقع العلم ودينامياته ومفرزاته وأدواته قد تجاوز ما كتب في قصص الخيال العلمي في الأمس!
بؤس التكنولوجيا وسقوطها
يكتب الشاعر والفيلسوف الألماني فريدريش يونيغر: ( ثمة اتجاه هدام في الأساليب التكنولوجية للقضاء على منظومة الحياة.. وتجتاح مملكة الحياة كائنات غريبة كالأوتوماتونات، وتذوي الطبيعة وتفسد مناهل التقوى والصلاح، أما الإنسان فملفوظ على نواصي المدن الحديثة، يمشي متثاقلاً جاراً قدميه حتى لكأنه في عالم من الدمى.. هناك من يؤمن بأننا نعيش اليوم عصر انحطاط الإنسان ).
وقد قضى كاتب هذه المقالة ردحاً من الزمن في المختبرات، وغنم معرفة عميقة بوسائل البحث الحديثة، وعمل في التعليم الأكاديمي الجامعي، لكنه أحد أولئك الذين يشهدون بوضوح عصر انحطاط الإنسان !
التكنولوجيا أنقذت الإنسان من طوره البهيمي، وأخرجته من مغارته ليرتقي أعالي الأشجار للدفاع عن حياته، وساعدته حجارة الصوان كأداة تقانية كما يقول توينبي في الصيد والشبع وقدح النار. نعترف بأنه لا يقف ضد تاريخ التكنولوجيا المشرّف سوى ناكر المعرفة، لكن أن تتحول الحياة كلها إلى حلقة محكمة بيد التكنولوجيا، فهذا يجرد الإنسان من خصائصه الفطرية، ويصادر حريته وعزيمته وقدرته على التحدي، والذي يعزى إليه وفق نظرية توينبي بناء الحضارة.
النار والعجلة والبخار والتعدين مهدت لقيام الصناعة، وبعد التفوق الصناعي الباهر دخلنا الطور التكنولوجي، وابتكرنا الأدوية العبقرية وغزونا الفضاء وتكاد تتحقق الجراحة الروبوتية عن بعد. وملامح الفيزياء لنهاية هذا القرن واعدة بفتوحات جديدة ينجزها علم النانوتكنولوجي، والحلم بقهر الأمراض والشيخوخة، والتعديل المفتوح لمورفولوجيا وبنية الإنسان بوساطة طب الجينات.
كل هذه الصورة المشرقة والواثقة للتكنولوجيا، يوازيها اندفاعات حمقاء نحو الحروب وإنتاج أسلحة دمار شامل، وتزايد أعداد السجون والعيادات النفسية والمخدرات والجنوح نحو العنف والتفكك الأسري والاجتماعي.
إن الدعوة إلى الحد من سطوة التكنولوجيا ليست جديدة. ولعل جان جاك روسو كان أحد الفلاسفة الذين طالبوا منذ وقت مبكر بوجود نظام تربوي وتعليمي يضع الفطرة والطبيعة البشرية بعين الاعتبار، وخصوصا ميول الأطفال الغريزية. ومثل هذه النظرة غائبة اليوم في عصر التكنولوجيا.
الطموح والأمل
إن الطموح بفتوحات تكنولوجية جديدة لا يقف عند حد. والعجلة تدور ولن تتوقف. فيزياء الطاقة تخطط لاستخدام المادة المضادة «Antimatter» في الوصول إلى المريخ، إذ تكفي أربعة غرامات منها كوقود لوصول مركبة إلى المريخ والعودة إلى الأرض!
هذا النشاط البشري الخيالي العنيد يجعل من البشر عبيداً في إمبراطورية التكنولوجيا التي يقودها العباقرة والموهوبون، وليس في هذه الإمبراطورية سوى جيش من المعدمين البائسين الباحثين عن سعادة مُصادرة وعن فرح مستحيل.
لا يطالب المقال برفض التكنولوجيا، لكن يريد التخفيف من وطأة الاندفاع الأعمى وراء غزوها الفاضح لروح الإنسان، وأذكر هنا ماحدث في فرنسا في ثمانينيات القرن الماضي، إذ تداعى مئات العلماء والأساتذة والمفكرين والباحثين إلى العودة إلى الطبيعة وفك حصار التكنولوجيا لحيواتهم. وفعلا، ترك هؤلاء أعمالهم وتجمعوا في منطقة ريفية بعيدة عن الضجيج والأضواء والأدوات، وأعلنوا العصيان ضد التكنولوجيا لفترة من الزمن، وتعاطفوا مع فلسفة روسو في إعلائها لقيمة فطرة الإنسان وللطبيعة.