د. عبدالله بدران
في تقريره السنوي الجديد يتطرق (المنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد)) إلى إشكالية تمويل التنمية المستدامة في الوطن العربي والأخطار التي تتهدد ذلك التمويل، مشفوعا بأرقام وإحصائيات تظهر المبالغ الكبيرة التي تحتاج إليها الدول العربية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، والأخطار التي سببتها الصراعات والكوارث والأزمات التي شهدتها تلك الدول، والمتطلبات الضرورية لتجاوز تداعياتها وآثارها.
وتحت عنوان (تمويل التنمية المستدامة في البلدان العربية) أطلق المنتدى في مؤتمره السنوي ببيروت منتصف نوفمبر الماضي تقريره الجديد الذي يعالج فيه متطلبات التمويل للانتقال إلى النمو المستدام، وتنفيذ أهداف التنمية المستدامة الخاصة بالأمم المتحدة في سياق خطة عام 2030، وتحليل البيانات من مختلف القطاعات حول تمويل التنمية المستدامة في الدول العربية، وتحديد العراقيل والصعوبات في هذا المجال، ودعم الإجراءات والتدابير اللازمة لسد الفجوات في السياسات الحكومية الحالية، وتعزيز الوعي العام.
وهذا التقرير يعد الحادي عشر من سلسلة تقارير المنتدى السنوية التي يعدها نخبة من الأكاديميين والخبراء المتخصصين في البيئة، ويسلط كل منها الضوء على قضية معينة متناولا إياها من أهم زواياها، لتكون تلك التقارير بمنزلة مراجع متميزة يستفيد منها صناع القرار في الدول العربية لوضع السياسات المستقبلية المناسبة ومعالجة المشكلات البيئية المستفحلة.
فجوة تمويلية
أظهر التقرير الذي تكون من عدد من الفصول كتبها متخصصون من الوطن العربي وخارجه أن الدول العربية تحتاج إلى أكثر من 230 بليون دولار أمريكي سنوياً لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، وأن الفجوة التمويلية في تلك الدول التي تعاني العجز قُدِّرت بأكثر من 100 بليون دولار سنوياً، مع مجموع تراكمي مقداره 1.5 تريليون دولار حتى سنة 2030. وتوقع أن ترتفع الكلفة أكثر، نظراً إلى آثار عدم الاستقرار على تنفيذ أهداف التنمية المستدامة، إذ تشير التقديرات إلى أن الخسائر في النشاط الاقتصادي بسبب الحروب والصراعات التي شهدتها المنطقة منذ عام 2011 تجاوزت 900 بليون دولار.
وووفق التقرير فإن مصادر التمويل العامة والخاصة في المنطقة العربية تسهد انحساراً، وهي ليست على مستوى التريليونات اللازمة لتنفيذ أهداف التنمية المستدامة. ومن العقبات الرئيسية التي تحول دون تمويل التنمية المستدامة أن المنطقة العربية مصدّرٌ صافٍ لرأس المال. ففي مقابل كل دولار يدخل المنطقة من طريق تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر، يعاد استثمار نحو 1.8 دولار فعلاً في الخارج، إما بواسطة تدفقات الاستثمار المباشر إلى الخارج، وإما عن طريق تحويل الأرباح التي يحققها المستثمرون الأجانب. وفي الوقت نفسه، تظل المنطقة مقرضة للمصارف الأجنبية، إذ كانت ودائع العملاء العرب لدى المصارف الدولية الرئيسية أعلى باستمرار من القروض المقابلة للعملاء العرب من هذه المصارف. وبين عامي 2011 و2016، أعادت المنطقة في المتوسط 2.8 دولارين إلى مناطق أخرى، في مقابل كل دولار تم تحويله إلى المنطقة العربية.
ومن ثم فإن التريليونات اللازمة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة في الدول العربية تحتاج إلى تعبئة جميع مصادر التمويل. ويأتي إصلاح السياسات المالية في رأس التدابير المطلوبة، وهذا يتضمن إصلاح النظام الضريبي وإعطاء حوافز وتسهيلات لتشجيع استخدام الموارد بكفاءة وتوزيع الثروة على نحو عادل.
التمويل من القطاع الخاص
يركز عدد من فصول التقرير على آليات تمويل التنمية المستدامة، ودور القطاعين العام والخاص في ذلك، مع الجهود التي يجب على حكومات الدول العربية بذلها بهذا الصدد، ولاسيما التشريعات الاقتصادية والمالية المتلائمة مع الثورات الحاصلة في مجالات عدة. ويسلط الضوء على مجموعة متزايدة من حلول التمويل المثيرة للاهتمام في السوق، من السندات الخضراء إلى أدوات التمويل المختلطة. وينبه إلى التحديات التي تواجه العديد من الدول العربية ومنها التدفقات المالية غير المشروعة وغسل الأموال وسرقة الأموال العامة وهدرها، مبينا أن عوائد مكافحة الفساد في الدول العربية ربما تبلغ 100 مليار دولار سنوياً، وهو ما يكفي لسد معظم الفجوة المالية في الاستثمارات اللازمة لتنفيذ أهداف التنمية المستدامة.
السندات الخضراء
يذكر التقرير أنه على الصعيد العالمي، حصلت زيادة سنوية مقدارها 14 ضعفاً في إصدار السندات الخضراء، من 11 بليون دولار عام 2013 إلى أكثر من 155 بليون دولار عام 2017. لكنها على الرغم من نموها السريع لا تزال بعيدة عن المساهمة الحاسمة في تمويل كلفة التنمية المستدامة، وبعيدة جداً عن سوق السندات العالمية المقدرة بنحو 100 تريليون دولار. وقال إنه في عام 2013 أصدر بنك التنمية الافريقي سندات صديقة للبيئة استخدمت عوائدها جزئياً لتمويل مشروعين في تونس ومصر. وفي عام 2017، أطلق بنك أبوظبي الوطني أول إصدار لسندات صديقة للبيئة في المنطقة العربية بقيمة 587 مليون دولار تستحق في 2022.
ومن الحلول المناسبة للتمويل أيضا الاستفادة من إمكانات التمويل الإسلامي من خلال الصكوك لتمويل البنية التحتية، ومشروعات الطاقة النظيفة والمتجددة وتغير المناخ، إضافة إلى تصميم المنتجات المالية التي تناسب المغتربين والتي يمكنها تسخير التحويلات في مزيد من الاستثمار الإنمائي.
ويشير التقرير إلى أهمية اعتماد سياسات متكاملة للتنمية المستدامة، واعتبار ذلك أمرأ ضروريأ لاستقطاب التمويل الكافي للنشاطات الكفيلة بتحقيق أهدافها، مع دعم ذلك بمجموعة من التدابير التنظيمية والقائمة على «اقتصاد السوق» لضمان كون السياسات والخطط والبرامج المقترحة عادلة اقتصادياً واجتماعياً ومقبولة بيئياً.
الأخطار البيئية والاستقرار المالي
يتناول التقرير التحديات والأخطار البيئية والمناخية نظرا إلى انعكاساتها على الاستقرار المالي. ويرى أن التحوّل نحو مصادر بديلة للطاقة غير الوقود الأحفوري في المستقبل سيشكل نهاية لبعض أنواع الاستثمارات ويؤثر على تقويم العديد من الأصول. لكن أخطار الامتناع عن التحوّل الاقتصادي لمواكبة المتغيرات تبقى أكبر بكثير على الاستقرار المالي. ويشير إلى برامج طموحة لتنويع الاقتصاد بدأت في الدول العربية النفطية، تواكبها استثمارات ضخمة في الطاقة المتجددة وكفاءة الطاقة.
ويركز على أهمية تطوير فرص إضافية للتمويل الأخضر بما يسمح بإتاحة الموارد المالية للمشروعات الخضراء وتقويم الأصول، وتحليل أوضاع السوق والمخاطر، وتطوير منتجات مالية جديدة يمكن تقديمها على أسس قابلة للمقارنة بمنتجات أخرى. ويدعو الهيئات التنظيمية والرقابية إلى العمل مع المصارف لاعتماد أفضل الممارسات في إدارة المسائل المرتبطة بالبيئة. كما يدعو المؤسسات العامة، المحلية والدولية، إلى المشاركة في تحمل أخطار بعض أنواع التمويل مع المصارف التجارية ومصادر التمويل من القطاع الخاص. فبعض هذه المشروعات ضروري لتحقيق أهداف التنمية، لكن فوائده تظهر على المدى الطويل، في حين ربما لا تكون ذات جدوى تجارية بحتة وفق الممارسات السائدة.
استراتيجيات ملائمة
لتجاوز الصعوبات التي تواجهها الدول العربية فيما يتعلق بتمويل التنمية المستدامة يدعو التقرير تلك الدول إلى تهيئة الاستراتيجيات وخطط العمل الملائمة لتحقيق أجندة التنمية المستدامة لسنة 2030 ومواجهة تحديات التغيّر المناخي. وهذا يستدعي تحديد الأولويات، وتقدير التكاليف المتوقعة، وتحديد مصادر التمويل الممكنة في المدى القريب والمتوسط والبعيد.
ويوصي التقرير الدول العربية المنتجة للنفط بضرورة تنويع الاقتصاد نحو قطاعات منتجة غير بترولية وإعادة النظر في أنظمة دعم الأسعار، باعتبارهما أمرين ضروريين لمواجهة آثار تقلبات الأسعار على الدخل وتحقيق نمو طويل الأمد. أما الدول ذات الدخل المتوسط، فلا بد لها من تعديل الأنظمة الضريبية بحيث ترتفع نسبة الدخل من الضرائب مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي، مع تأمين العدالة وفق شرائح الدخل والثروة. وتنفيذ إصلاحات مالية لتشجيع الاستثمارات ذات البعد الاجتماعي، إلى جانب التدابير المالية القادرة على دعم تنويع الاقتصاد وإدارة الديون والاستقرار البعيد المدى في النمو وتحصيل الواردات.
ويركز التقرير على ضرورة استقطاب التمويل من القطاع الخاص للإسهام في مشروعات التنمية المستدامة، ولاسيما تشجيع استثمار المدخّرات، وجذب الاستثمارات الخارجية المباشرة عن طريق سياسات وحوافز تمنح الثقة للمستثمرين، وتطوير آليات تشجع التمويل المختلط، مثل المشاركات بين القطاعين الخاص والعام، واستخدام القروض من المؤسسات المانحة وصناديق التنمية كضمانات للحصول على قروض إضافية من القطاع الخاص. ويدعو إلى العمل على عكس الاتجاه الراهن في تدمير الموارد الطبيعية، واعتماد سياسات توقف الهدر وتخفف البصمة البيئية، بما يضمن الاستمرار في تأمين خدمات الموارد الطبيعية المطلوبة للأجيال المقبلة ويكفي لتحقيق حاجات التنمية المستدامة.