د/ وحيد محمد مفضل
خبير بالمنظمة الإقليمية لحماية البيئة البحرية (روبمي)، الكويت
تطل دول مجلس التعاون الخليجي وكما هو معلوم على ثلاثة بحار مختلفة، وهي الخليج العربي في الشمال، ثم خليج عمان، وأخيرا بحر العرب في الجنوب. وهذه البحار يصل طول شواطئها مجتمعة إلى حوالي 7000 كم، وتعتبر في مجملها امتدادا طبيعيا وجغرافيا للمحيط الهندي. وعلى الرغم من اتصال هذه البحار وتشكيلها لكتلة مائية واحدة غير منفصلة، فإن لكل منها طبيعة خاصة ونظام بيئي مختلف عن الآخر وهذا بسبب التباين النسبي في خصائص كل منها الفيزيائية والكيمائية والبيولوجية، وإن اشتركت جميعا في بعض السمات الأساسية، مثل قلة عدد الأنهار والروافد التي تصب فيها وضعف تساقطات الأمطار السنوية، وضحالة مناسيب الأعماق، فضلا عن وقوعها ضمن المنطقة شبه الاستوائية، وتعرضها من ثم لدرجة حرارة مرتفعة ودرجة بخر عالية للغاية.
لكن الخليج العربي يتميز عن كل من بحر عمان والجزء الشمالي الغربي من بحر العرب المطلة عليه السواحل الجنوبية لسلطنة عمان، بسمات خاصة وصفات فريدة، تتمثل في كونه البحر الوحيد دونهما الشبه مغلق، فضلا عن كونه الأعلى من حيث درجة الملوحة، والأكثر عرضة للأنشطة الملاحية والبشرية بشكل عام، والأكثر ثراء رغم ذلك بالشعاب المرجانية وبقية الموائل الساحلية القاعية.
خصائص وسمات بحرية
تنبع أهمية ومكانة بيئة الخليج العربي من تفرده في الشكل والموقع الجغرافي بل والخصائص البحرية. فمن حيث الشكل فهو يمتد على هيئة ذراع منحني لأعلى، بإجمالي طول وقدره 1100 كيلومتر تقريبا، وإجمالي مساحة مائية تبلغ نحو 235 ألف كيلومتر، علما بأن أقصى عرض للخليج يبلغ حوالي 370 كم وهذا في المنطقة الواقعة بين خور دويهن بالقرب من الحدود الإمارتية السعودية الساحلية، وبندر مقام على الساحل الإيراني، في حين يتقلص هذا العرض لأقل من 100 كيلومتر وهذا عند مضيق هرمز.
ومن حيث الموقع فإن الخليج يقع في المنطقة شبه المدارية الجافة بين خطي عرض 24 و30 شمالا وخطي طول 48 و57 شرقا، وتخضع البيئة البحرية وبقية الأنظمة الأيكولوجية فيه من ثم لظروف متفاوتة من حيث متوسطات درجة الحرارة السائدة وعوامل الطقس وبقية الظروف الجوية السائدة في الأجزاء الشمالية عن تلك السائدة في أقصى الجنوب على سبيل المثال.
أما فيما يخص طبيعته البحرية، فإن الخليج العربي يعتبر من البحار الضحلة، ذلك أن متوسط عمق المياه فيه يبلغ 36 مترا، وإن زاد هذا العمق استثنائيا عند مضيق هرمز إلى حوالي 100 مترا. ونظرا لكون الخليج منطقة بحرية شبه مغلقة، فإنه يحتاج من 3 إلى 5 سنوات لتجديد مياهه القادمة من المحيط الهندي عن طريق مضيق هرمز. وبسبب هذا تزيد درجة ملوحة المياه فيه بشكل واضح مقارنة بالبحار الإقليمية الأخرى، إذ تبلغ في المتوسط حوالي 45 جزء في الألف، ترتفع في بعض المناطق الساحلية الضحلة والخلجان البحرية الضيقة إلى حوالي 70 جزء في الألف، كما في حالة خليج سلوى الواقع بين قطر والبحرين والسعودية.
وتتميز سواحل الخليج الغربية بتكرار ظهور البحيرات الساحلية وبكونها منبسطة ومكونة من أراض سهلية في الغالب وهذا باستثناء بعض المناطق، خاصة السواحل المطلة على مضيق هرمز وشبه جزيرة مسندم. وعلى الجهة المقابلة تتميز السواحل الشرقية الواقعة ضمن حدود إيران بوعورة أراضيها وكثرة الوديان المنحدرات الجافة، نتيجة وجود مناطق جبلية وامتداد جبال زاجروس على مشارف سواحلها.
ثروات وموارد بيئية
على الرغم من تطرف الظروف المناخية وقسوة الأحوال البيئية السائدة، فإن الخليج العربي يحظى مع ذلك بتنوع كبير في المواطن البيئية والموائل البيولوجية القاعية، خاصة الشعاب المرجانية وتجمعات نبات القرم ومهاد الحشائش البحرية التي تتواجد وتنشر بكثافة في أكثر من مكان بطول شواطئ المنطقة.
وبلغة الأرقام يحظى الخليج بتواجد حوالي 200 نوعا من الأسماك، ومثلها من المرجانيات، و60 نوعا من الطيور البحرية، وخمسة أنواع من السلاحف البحرية، وهذا فضلا عن كونه أحد أهم مناطق تواجد وتوالد حيوان الأطوم (بقر البحر) على مستوى العالم، حيث يتواجد قطعان هذا الحيوان بكثافة في المناطق الضحلة بين السواحل الممتدة ما بين أبو ظبي بدولة الامارات العربية المتحدة وسواحل قطر الشرقية وكذلك في خليج البحرين وخليج سلوى بين كل من قطر والبحرين والسعودية. وتشكل قطعان بقر البحر التي تعيش قبالة سواحل دولة الإمارات ثاني أكبر تجمع لهذا الحيوان على مستوى العالم.
كما تحظى سواحل المنطقة والمسطحات الطينية المنتشرة على طولها بتجمعات ثرية من نباتات القرم (المانجروف) المقاوم للملوحة، حيث يصل اجمالي مساحتها على مستوى المنطقة إلى حوالي 300 كيلو متر مربع، وإن اقتصر تواجده على نوع واحد فقط هو Avicennia marina، وهذا بسبب الظروف البيئية القاسية السائدة. ويتواجد هذا النوع وينتشر بكثافة في أكثر من موقع بطول سواحل المنطقة، حيث تعد السواحل الإيرانية قرب بندر عباس ومحيط جزيرة قشم وجابهار الأكثر ثراء بهذا النبات على مستوى المنطقة، يليها سواحل دولة الإمارات في أبو ظبي وأم القيوين ورأس الخيمة وكلباء. كما تتواجد أيكات كثيفة من هذا النبات على شواطئ محمية الجبيل وسيهات والدمام وخليج تاروت بالمملكة العربية السعودية، والخور بدولة قطر، فضلا عن حي القرم شرق العاصمة مسقط بسلطنة عمان.
ويمثل نمو ووجود أكثر من نوع من الشعاب المرجانية في الخليج مثالاً فريدا لتكيف الأحياء البحرية مع التباين الكبير في درجة الحرارة والملوحة والظروف البيئية المتطرفة السائدة. وتنتشر الشعاب المرجانية بكثافة في أكثر من موقع خاصة الجزر المعزولة المنتشرة بطول الخليج، مثل جزر قاروه وكبر وأم المرادم في الكويت، وجزر قشم وفارور وخرج في إيران، وفشت العظم وفشت الجارم في مملكة البحرين وجزيرة حالول وفشت الديبال في دولة قطر، وجزيرة صير بونعير وسواحل أبوظبي وجبل علي بدبي في دولة الإمارات. وتحظى الإمارات بحوالي 34 نوعا من الشعاب، فيما تحظى مملكة البحرين بحوالي 31 نوعا والكويت 26 نوعا وقطر بحوالي 9 أنواع، وإيران 19 نوعا، وسلطنة عمان 91 نوعا، وإن وجد معظمها ببحر عمان وبحر العرب، وليس الخليج العربي.
أما فيما يخص الحشائش البحرية التي تعرف أيضا باسم “مروج البحر”، فيقتصر تواجدها في الخليج والمنطقة على ثلاث أنواع فقط هيHalodule uninervis ،Halophila stipulacea ، Halophila ovalis. وتعتبر المناطق الضحلة والشواطئ الواقعة قبالة أبو ظبي ومحيط جون الكويت، والجبيل وسواحل مملكة البحرية الشمالية وسواحل قطر الشمالية والغربية ورأس الحد في سلطنة عمان وبوشهر في إيران هي أكثر المناطق ثراء بهذه النوعية من النباتات على مستوى الخليج.
كما يحظى الخليج العربي بمساحات شاسعة ومترامية من السبخات والمستنقعات الملحية والسهول الساحلية ونطاقات المد الطينية والرملية التي تعتبر بيئة مناسبة للغاية لتعشيش وتواجد أنواعا عديدة من الطيور المهاجرة والمستوطنة وهذا بما يتوفر فيها من قشريات وقواقع وديدان وغيرها مما يشكل غذاء رئيسيا لهذه الطيور وغيرها من الكائنات البحرية.
مشاكل وتحديات
يعتبر الخليج العربي وكما نعرف هو المتنفس البحري بل المائي الوحيد في واحدة من أكثر المناطق جفافا على مستوى العالم، لأكثر من عاصمة عربية ومدينة عالمية مطلة عليه، ومن هنا تم استهداف معظم شواطئ وسواحل الخليج بكافة أشكال التنمية العمرانية والسياحية والاقتصادية، من إنشاء موانئ ومصافي نفط إلى مناطق عمرانية ومنتجعات سياحية وشاليهات وغير ذلك من أعمال التنمية. وقد أدى هذا إلى تحول قطاعات كبيرة من هذه السواحل من حالتها البكر الطبيعية التي كانت عليها إلى كتل خرسانية صماء، كما أدي بالتبعية إلى ردم أجزاء كبيرة من شواطئها، وتدمير مساحات شاسعة من الموائل البيولوجية المنتجة بشكل كامل.
كما أدى تركيز النشاط البشري على طول سواحل المنطقة إلى زيادة الضغوط الواقعة على البيئة الساحلية وما فيها من كائنات وموائل طبيعية، وهذا بسبب التعديات والممارسات السلبية التي تتعرض لها بشكل يومي، وبسبب أيضا الكميات الهائلة من مياه المجارير والنفايات الصناعية السائلة التي يتم صرفها بشكل يومي في المناطق الساحلية الضحلة بدون معالجة في معظم الأحيان.
لذا فإن مصادر الصرف الأرضية تشكل على وجه خاص مشكلة كبيرة بالنسبة لسواحل الخليج والبيئة البحرية عموما في المنطقة، نظرا لسهولة تأثر المياه الساحلية والموائل البيولوجية القاعية المتاحة بها بالملوثات والنفايات الصلبة والسائلة، وتلوث من ثم المياه الساحلية وما بها من كائنات بحرية بالعناصر المعدنية السامة والمواد الكيمائية والدوائية الضارة وغير ذلك مما قد يجد في النهاية طريقها إلى جسم الإنسان بشكل أو آخر.
وفضلا عن ذلك فإن صرف مياه الصرف الصحي وخاصة المخلفات العضوية في المياه الساحلية يؤدي إلى زيادة نسب الأسمدة والمغذيات الصناعية في المناطق الساحلية عموما، مما قد يؤدي بدوره إلي نمو وازدهار الطحالب الدقيقة والعوالق النباتية البحرية بشكل فائق وتكرار من ثم حدوث ظاهرة المد الطحلبي الضار أو (المد الأحمر)، التي قد يصاحبها نفوق جماعي للأسماك وأضرار بالغة للثروة السمكية، كما حدث في دولة الكويت في صيف عام 2001، وأدى إلى نفوق ما يقدر بحوالي 3000 طن من الأسماك حينها.
من جهة أخرى فقد أدى اكتشاف احتياطيات ضخمة من النفط في ربوع المنطقة واستخراجه منها بكميات كبيرة، تقدر بربع الإنتاج العالمي، أدى هذا إلى زيادة عدد حقول النفط وحركة سفن الشحن العملاقة عبر المنطقة البحرية للمنظمة، وإلى تحول الخليج إلى ممر ملاحي نشط للغاية، يمر عبره حوالي 50 ألف ناقلة نفط سنويا. وقد أدى هذا بدوره إلى زيادة حالات تلوث البيئة البحرية بكافة أنواع المشتقات البترولية والكيمائية نتيجة تسرب النفط من السفن العابرة والحوادث الأخرى العارضة. وفي هذا تقدر إحدى الدراسات الصادرة عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP) كمية النفط المتسرب إلى الخليج العربي وبحر عمان بحوالي 2 مليون برميل سنويا، وهي كمية هائلة لا يمكن لأي نظام بيئي أن يتحملها.
وليست هذه هي المشكلة الوحيدة المقترنة بزيادة حركة السفن والملاحة البحرية ونقل النفط عبر الخليج، بل هناك مشاكل أخرى مثل صرف مياه الصابورة (مياه توازن السفن) في المياه البحرية، مما يؤدي في النهاية إلى غزو أنواع دخيلة من الكائنات البحرية للمواطن والبيئة المعيشية الخاصة بالأنواع المستوطنة، والإخلال من ثم بالتوازن البيئي الطبيعي وتركيبة الأنواع البيولوجية القائمة. ناهيك أيضا عن تكرار حوادث اصطدام السفن بالشعاب المرجانية وترسب النفط المتسرب على ضفاف الشواطئ وأماكن تواجد غابات القرم والموائل القاعية الأخرى، ودور هذه الحوادث في تدمير قطاعات كبيرة ومنتجة من تلك الموائل.
كما تمثل تأثيرات ظاهرة التغير المناخي -سواء كان سببها الأنشطة البشرية أو نشاط شمسي زائد أو دورات طبيعية أو خلافه- مشكلة حقيقية بالنسبة لبيئة الخليج العربي وبقية البحار والمحيطات عبر العالم، وهذا نظرا لامتداد هذه التأثيرات لأكثر من جانب، سواء كان يتعلق بخصائص المياه الكيمائية والفيزيائية أو درجة التنوع الأحيائي للموائل والكائنات الساحلية والبحرية، أو منسوب مستوى سطح البحر أو غيره. وبشكل عام تتضمن تأثيرات مشكلة التغير المناخي على البيئة البحرية ارتفاع حموضة المياه إلى الحد الذي قد يعوق قدرة بعض الكائنات على بناء أصدافها وهياكلها الجيرية، وانخفاض نسبة الأكسجين المذاب في المياه مما قد يعرض بعض الكائنات لخطر الاختناق والهلاك. كذلك يتوقع أن يؤدي ارتفاع درجة الحرارة إلى زيادة معدلات البخر ومن ثم زيادة درجة الملوحة في بعض المناطق وتغير بالتالي طبيعة التيارات البحرية، التي تعتبر الأساس في تشكل الرياح والظروف الجوية. كما ينتظر أن يؤدي أيضا ارتفاع درجة الحرارة إلى ذوبان مزيد من الكتل الجليدية ومن ثم ارتفاع منسوب سطح البحر، ما يهدد بالتالي مساحات شاسعة من المناطق الساحلية المنخفضة بخطر الغمر والغرق.
إن الحفاظ على موارد الخليج العربي البحرية وعلى الموائل المنتجة فيه، يتطلب منا مواجهة كل التحديات والمشكلات البيئية المذكورة آنفا بجدية شديدة وباهتمام بالغ، وهذا كي لا تتفاقم وتتوسع تأثيراتها أو تصبح عصية على الحل.
وبديهي أن حل هذه المشكلات أو تحييد آثارها لن يتأتى إلا باتباع سبل الإدارة البيئية الرشيدة وتطبيق مبادئ الحفاظ على البيئة ومفاهيم التنمية المستدامة والتوسع في إقامة المناطق البحرية المحمية وتشديد الرقابة البيئية وتجريم المخالفات البيئية وأخذ السبل اللازمة نحو التحكم في مصادر التلوث المختلفة سواء كان مصدرها البر أو كان البحر أو على أقل تقدير معالجة ما يلقى قبل صرفه في البحر.
وعلى هذا النحو هناك سبل كثيرة يمكن بها مواجهة كل تلك المشاكل وهناك طرق وإجراءات كثر ناجعة للحد منها، بيد أنه لا يتبقى سوى شحذ العزيمة وأخذ الأمور بجدية والتنبه لمخاطر المستقبل وحق الأجيال القادمة في التمتع والاستفادة بما تبدده أيادينا.