نواف الناصر
في الوقت الذي تتوجه فيه أنظار معظم القاطنين في المناطق الريفية إلى المدن القريبة منهم؛ طمعا للعيش فيها، والاستفادة من مظاهر التطور الحضاري في ربوعها، والحصول على فرص التعليم والعمل المناسبة في مؤسساتها، تسعى الدول والمنظمات المعنية إلى تهيئة السبل المثلى لكي يظل أبناء الريف في مناطقهم، ويستفيدوا من الموارد الطبيعية الموجودة فيها، ويوفروا الظروف المناسبة التي تلبي متطلباتهم من التعليم والعمل.
والهجرة من الأرياف إلى المدن مستمرة منذ القدم، لكن آثارها ربما تكون كارثية إذا ازدادت عن حدها وخرجت عن نطاق السيطرة، لذا تلجأ الحكومات والمنظمات المتخصصة إلى وضع الخطط الكفيلة بالخروج من دائرة الجوع والفقر للقاطنين في الأرياف عبر تنشيط الفرص المتنوعة، سواء داخل المزارع أو خارجها، مع توفير التعليم الملائم، والوظائف المناسبة.
وحاليا، يعد تحدي القضاء على الجوع أكثر صعوبة من ذي قبل؛ لأن الضغوط الديمغرافية، وزيادة التحضر، وتغير المناخ، فرضت نفسها على المجتمعات. والنظم الزراعية والغذائية، التي تشمل جميع المراحل من الزراعة إلى تجهيز الأغذية، تتطور بسرعة لمواجهة هذه الضغوط. والتغيير يحدث بالفعل، حتى حيث لا نتوقعه: في المدن الصغيرة والمناطق الريفية، كما يقول تقرير حديث صادر عن منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (فاو).
تحولات ريفية
غير أن هذه التحولات الريفية لم تحدث في كل مكان. فلماذا؟يجيب التقرير الصادر بعنوان ( الاستفادة من النظم الغذائية من أجل تحولات ريفية شاملة) إن جنوب آسيا وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى لم تشهد النمو نفسه الذي شهدته أمريكا اللاتينية وشرق وجنوب شرق آسيا. ثم يتساءل: هل تترك التحولات الريفية التي نشهدها اليوم بعض المجتمعات تتخلف عن الركب؟
ويجيب معدو التقرير : إن الأوان لم يفت بعد لتغيير مسار العمل هذا وضمان أن تكون التحولات الريفية أكثر شمولا. ومن خلال الاستفادة من إمكانات النظم الغذائية والاعتراف بأدوار المدن والبلدات الصغيرة في التخطيط الريفي والحضري المتكامل، ما زالت التحولات الشمولية ممكنة، وستكون حاسمة لتحقيق القضاء على الفقر والجوع.
من الزراعة إلى الصناعة
لقد أدى التقدم الاقتصادي والتحولات من الاقتصاد الزراعي إلى الاقتصادات القائمة على الصناعة والخدمات إلى انتشال ملايين الناس من براثن الفقر منذ تسعينيات القرن الماضي. وخلال العقدين الماضيين، أدت هذه التحولات إلى زيادة عدد الأشخاص الذين يعيشون فوق خط الفقر المعتدل بأكثر من 1.6 بليون نسمة، منهم 750 مليون نسمة من السكان الريفيين الذين ما زالوا يعيشون في المناطق الريفية، مما يؤكد على حقيقة مهمة مفادها أن التنمية الريفية كانت وما زالت تشكل السبيل الرئيسي إلى القضاء على الجوع والفقر.
ويرى التقرير أن تنفيذ خطة عمل عام 2030 يعتمد اعتمادا حاسما على التقدم المحرز في المناطق الريفية، حيث يعيش معظم الفقراء والجوعى.
غير أن التحولات الريفية لم تحدث بشكل متساوٍ. وفي معظم بلدان أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى وجنوب آسيا، فإن وجود مزيج شائك من انخفاض إنتاجية مزارع الكفاف، والفرص المحدودة للتصنيع، والنمو السكاني السريع يعوق التحولات الهيكلية. ولم يتوافق النمو في قطاعي التصنيع والخدمات الحديثة مع وتيرة التحضر في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. ويواجه الأفارقة الريفيون الفقراء الذين ينتقلون إلى المدن خطرا أكبر يتمثل في انضمامهم إلى صفوف فقراء الحضر أكثر من إيجاد طريق للخروج من الفقر. وتُشاهد ديناميكية مماثلة في جنوب آسيا، حيث يرجح أن يفلت فقراء الريف من الفقر بالبقاء في المناطق الريفية أكثر مما لو انتقلوا إلى المدن، كما يضيف التقرير.
بحثا عن حياة أفضل
ويرى التقرير أن العمال الذين يتركون الزراعة ويتعذر عليهم العثور على وظائف في الاقتصاد المحلي غير الزراعي غالبا ما يسعون إلى الهجرة الموسمية أو الدائمة. وبعد أن يتركوا قطع أراضيهم الصغيرة ومحاصيلهم بحثا عن حياة أفضل، ينتقلون إلى وظائف غير رسمية منخفضة الأجر غالبا، وعادة في المناطق الحضرية. ولا يتوقع أن تكون حياتهم أفضل بكثير لأن مواردهم في المدن التي تعاني بالفعل من أعباء مفرطة تزداد اتساعا.
ويكتسي هذا التحدي أهمية خاصة، إذ إن من المتوقع أن يزداد عدد السكان في أفريقيا وآسيا في الفترة ما بين عامي 2015 و2030 من 5.6 بليون نسمة إلى أكثر من 6.6 بليون نسمة.
ومن المتوقع، في الفترة نفسها، أن يزداد عدد الشباب الذين تراوح أعمارهم بين 15 و24 سنة نحو 100 مليون نسمة ليبلغ 1.3 بليون نسمة في جميع أنحاء العالم. ويعد توفير فرص العمل اللائق لملايين الشباب الذين يدخلون سوق العمل أحد التحديات التي لا بد للعالم من أن يواجهها.
تسخير الطلب المتزايد
يتطرق الجزء الثالث من التقرير إلى الطلب المتزايد من قبل أسواق الأغذية الحضرية، وهو الذي سيشكل قوة رئيسية وراء التحولات الريفية. وستؤدي تلبية هذا الطلب إلى خلق فرص عمل جديدة في الاقتصادات الريفية. غير أن هذه “الفرصة الذهبية” في حد ذاتها ليست مضمونة للنهوض بجميع قطاعات المجتمع؛ فلن يكون جميع صغار المزارعين مستعدين للتحدي على سبيل المثال.
ولضمان أن تفيد هذه الفرصة الفئات الأكثر ضعفا، من الأهمية بمكان أن يفهم واضعو السياسات والحكومات الدينامية الاجتماعية والاقتصادية بين المدن، والبلدات، والمناطق الريفية، والأدوار المختلفة التي تؤديها في النظام الغذائي. وسيكون التحضر محركا مهما للتغيير، ولكن لا يمكن اعتباره الحل الوحيد للتحديات التي يطرحها الفقر وانعدام الأمن الغذائي.
إمكانات المدن والبلدات الصغيرة
في الجزء المخصص للحديث عن إمكانات المدن والبلدات الصغيرة، يقول التقرير إنه في البلدان النامية يعيش نحو 1.5 بليون نسمة في مدن وبلدات صغيرة يقل عدد سكانها عن 000 500 نسمة. ففي شرق أفريقيا، تقوم المدن الصغيرة بسرعة بتنويع اقتصاداتها وتشكيل روابط قوية مع المناطق الريفية. كما شهدت أمريكا اللاتينية وآسيا نموا هائلا في المدن التي ترتبط اقتصاديا بكل من المناطق الريفية المحيطة بها والمراكز الحضرية الأكبر حجما. ويأتي %60 من الطلب على الأغذية في المناطق الحضرية من هذه المدن والبلدات الصغيرة. غير أن واضعي السياسات والخطط كثيرا ما يتجاهلون هذه المراكز .
سياسات داعمة
ويتطرق التقرير إلى السياسات الداعمة التي يمكن اتخاذها لتحسين الحياة في الريف والاستفادة من النظم الغذائية لتطوير المعيشة في المناطق الريفية. ومن تلك السياسات تمكين المزارعين أصحاب الحيازات الصغيرة. وعلى الرغم من أن هذه الفرص الجديدة تنطوي على إمكانات هائلة، فإن تركيز التنمية الريفية فقط على تغيير النظم الغذائية، والطلب المتزايد على الأغذية، يعني أن التحولات ستحدث على حساب المزارعين والمنتجين من أصحاب الحيازات الصغيرة. ويمكن لهذا الطلب المتزايد أن يحفز المزارع التجارية الكبيرة وسلاسل القيمة التي يسيطر عليها كبار المصنعين وتجار التجزئة للاستفادة من هذه الأسواق المربحة المحتملة. فنحو %85 من المزارعين في العالم، الذين يمتلكون في العادة أقل من هكتارين من الأراضي، سيواجهون صعوبة في المنافسة، إذ إنهم لا يتمتعون بنفس القدرات التقنية أو فرص الحصول على الموارد، مثل التكنولوجيات الجديدة. ومن شأن هذه المنافسة الشديدة في الأسواق الدولية أن تؤدي في نهاية المطاف إلى استبعاد المزارعين أصحاب الحيازات الصغيرة.
والتحولات الناجحة تتطلب التخطيط للتنمية الريفية الذي يركز على دمج الأقاليم، ويعزز الروابط المادية، والاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية بين المراكز الحضرية الصغيرة والمناطق الريفية المحيطة بها.
ويخلص التقرير إلى أن المناطق الريفية والمدن والبلدات الصغيرة تمتلك مفتاح التحولات الشاملة. وأن الاقتصادات الريفية المزدهرة توفر بدائل لسكان الريف الذين يرون الهجرة هي فرصتهم الوحيدة في الهرب من الفقر والجوع. حيث تعطي لهم خيارات أخرى. ولا ريب في أن تحقيق عالم خال من الجوع والفقر سيتوقف على كيفية تطور المناطق الريفية في السنوات المقبلة، والكيفية التي نؤيد بها هذا التحول في الفكر والموارد.