د. عماد رنكو
لطالما كان موضوع (الموت الرحيم) مثار جدل بين الأطباء والقانونيين والمعنيين بحقوق الإنسان وأولئك المدافعين عن الحريات الشخصية، فمنهم من دافع عنه باعتباره حقا مشروعا للإنسان وتمتعا بحريته الشخصية، في حين وقف آخرون ضده معتبرين إياه جريمة أخلاقية يجب محاربتها وتشديد العقوبات على منتهكيها.
وعلى الرغم من الصراع الشديد المحتدم بين المؤيدين للموت الرحيم والمعارضين له، فإن هناك دولا أيدته وشرَّعت التعامل به، وصارت محجا للراغبين في إنهاء حياتهم، في حين لا تزال هناك مجتمعات كثيرة تعارض ذلك الأمر وتحظره وتسن قوانين صارمة لردع المخالفين.
جدل مستمر
وهذا الجدل المستمر يطفو على المشهد العالمي بين فينة وأخرى، فيظهر فيه المؤيدون الذي يرون أن الإنسان حر في اختيار مصيره، وأن قتل المريض ينهي معاناته ومعاناة أهله، ويوفر للمجتمع الكثير من المال الذي ينفق على علاج الأمراض المستعصية، وأن نزع أعضاء المقتولين يتيح الفرصة لزراعتها لدى مرضى آخرين يحتاجون إليها. لكن هذه الآراء تواجه بشدة من المعارضين الذين يرون أن الحياة هبة من الله تعالى ولا يحق للإنسان التصرف بها، وأن الأعباء الاقتصادية التي يتحملها المجتمع لا تشكل مبررا للقتل الرحيم لأن المريض قدم شبابه وجهده ووقته لمجتمعه وساهم في نموه الاقتصادي، وحقه على المجتمع أن يتحمل هذه الأعباء. أما موضوع توفير الأعضاء فيرون أن هناك طرقا كثيرة بديلة يمكن من خلالها توفير هذه الأعضاء، ومن ثم لا تجوز التضحية بحياة إنسان من أجل حماية حياة إنسان آخر.
ويركز الفريق المعارض على أن كثيرا من الحالات الميؤوس من شفائها قد شفيت، فضلا عن التطور العلمي المستمر الذي يتيح علاجات جديدة بشكل مستمر. ويرى هؤلاء أن منح الطبيب حق إنهاء حياة المريض قد يجر إلى انزلاق ضعاف النفوس لممارسات غير أخلاقية كتجارة الأعضاء وسواها، أو فتح المجال لشركات التأمين الفاسدة للتخلص من المرضى. ويرون أن واجب الطبيب هو تقديم العلاج والرعاية بكل ما هو متاح فحسب، وليس من مهامه إطلاقا قتل المريض أو المساعدة على ذلك.
ويتخوف المعارضون من المنحدر السلبي؛ إذ إن الأمر يبدأ بالحالات الميؤوس منها، ثم يتدرج ليشمل حالات أقل شدة كالمعاقين وهكذا. ويتساءل هؤلاء: ماذا لو أخطأ الطبيب في تشخيص الحالة وتقديرها فقتل المريض، ثم تبين أن التشخيص كان خطأ.
ويرى هؤلاء أن من غير المنطقي القبول بقرار مريض واقع تحت ضغط الألم والكآبة والضغوط الاجتماعية والاقتصادية، أو التسليم لقرار أهله الذين ربما سيستفيدون ماديا كورثة؛ أي إن لهم شبهة مصلحة في التخلص منه. أما فيما يتعلق بمعاناة المريض وأهله فهناك وسائل كثيرة غير القتل للتخفيف منها، كالدعم النفسي والاجتماعي والعلاجات التلطيفية وخدمات الرعاية الاجتماعية والتمريضية.
ويؤكد أنصار هذا الفريق أن نجاح مهنة الطب يعتمد على عوامل كثيرة، منها الثقة المتبادلة بين المريض والطبيب، وأن ممارسة القتل الرحيم ستقوض هذه الثقة، ولن تكون مهنة الطب موضع احترام وتقدير كما هي عليه دائما. والقتل في نظر المعارضين ليس حلا بالمطلق لأي مشكلة طبية مهما صعبت، فضلا عن أن كثيرا من دوافع المريض للمطالبة بالقتل الرحيم هي نفس دوافع الانتحار، وفي مقدمتها الأمراض النفسية، وهي عموما دوافع قابلة للعلاج.
نظرة تاريخية
والموت الرحيم أو القتل الرحيم هو التدخل بنية مسبقة معلنة لإنهاء حياة شخص للحد من معاناته من مرض مؤلم غير قابل للشفاء أو من عجز جسدي، وذلك بناء على طلب المريض أو من ينوب عنه. والمصطلح ذو أصل يوناني (Euthanasia) ويعني الموت الجيد أو الكريم.
والقتل الرحيم ليس مستحدثا؛ ففكرة أفلاطون أن البقاء للأصلح دعت إلى قتل أصحاب العيوب الجسدية والنفسية. وكان سقراط من الداعين إلى الموت الرحيم وسماه اتباعه (التدبير الذاتي للموت بشرف)، ورفض سقراط الهرب من السجن وانتحر بتناول السم أثناء محاكمته مطبقا قناعته على نفسه.
وكانت مساعدة المرضى ذوي الأمراض أو الجراح الخطرة على إنهاء حياتهم مسموحة عند الإغريقيين. أما في المدن اليونانية القديمة فكان مصير أصحاب البنية الجسدية الضعيفة القتل؛ لأنهم يشكلون عبئا ثقيلا في الحروب.
ورفض أبوقراط (أبو الطب – 400 قبل الميلاد) فكرة الانتحار، ومن أقواله المشهورة في هذا المجال: « لن أصف أبدا دواء قاتلا لمن يطلبه، ولن أقترحه على أحد أو أشير به». ودأبت الشعوب البدائية على قتل الكسيحين حتى لا يعوقوا حركة تنقلهم، كما كانوا يدفنون أصحاب الأمراض المعدية وهم أحياء حتى لا تنتشر العدوى.
أنواع الموت الرحيم ووسائله
صنف الموت الرحيم إلى ثلاثة أنواع، تبعا للمسؤول عن اتخاذ قرار الموت:
< الموت الرحيم الطوعي: أكثر الأنواع شيوعا، حيث يتخذ المريض قرار موته بملء إرادته،
ويكون ذلك غالبا قبل خضوع المريض لعمل جراحي معقد أو عندما يغلب احتمال دخول المريض في غيبوبة.
< الموت الرحيم غير الطوعي: حين يتخذ أحد أقرباء المريض من الدرجة الأولى قرار الموت. ويغلب ذلك عندما يكون المريض طفلا أو عندما تكون إصابة المريض مفاجئة وغير متوقعة.
< الموت الرحيم القسري: حين يتخذ الطبيب قرار الموت الرحيم، وغالبا ما يكون هذا الأمر عندما يكون المريض مجهول الهوية.
أما وسائل الموت الرحيم، فهي:
< القتل المباشر: وذلك بإعطاء المريض جرعة فورية قاتلة من أدوية معينة.
< القتل غير المباشر: وذلك بإعطاء المريض أدوية علاجية يكون من نتائجها مثلا توقف التنفس أو توقف القلب.
< القتل السلبي: يكون بإهمال المريض أو إيقاف التدابير العلاجية التي تقود في النهاية إلى موت المريض كإيقاف أجهزة التنفس الصناعي مثلا.
وقد يمارس الطبيب القتل الرحيم بنفسه، كأن يحقن المريضَ دواء قاتلا، أو يمارسه عن طريق المريض من خلال إرشاده إلى وسائل الانتحار وطرقه.
وجهات نظر قانونية
حرمت الشرائع السماوية الثلاث القتل الرحيم بشكل مطلق. ولايزال ذلك القتل يصنف في معظم بلدان العالم على أنه جريمة قتل جنائية، حتى لو كان الشخص على وشك الموت. ففي بريطانيا مثلا تكون مساعدة أي شخص على قتل نفسه جريمة عقوبتها الحبس 14 عاما. وعلى الرغم من أن بعض الحكومات شرَّعت قوانين تسمح بالقتل الرحيم فإنها لاتزال تعتبره قتلا، إلا أن فاعله لا يعاقب ولا يلاحق لأنه مستثنى بموجب القانون.
وأول بلد أجاز القتل الرحيم هو هولندا عام 2001، ثم بلجيكا عام 2002. وهو مشرَّع حاليا في سويسرا ولوكسمبورغ وولايات أوريغون وواشنطن وفيرمنت ومونتانا وكاليفورنيا ونيومكسيكو في الولايات المتحدة الأمريكية، إضافة إلى الدنمارك و فنلندا وفرنسا والهند وإيرلندا وإيطاليا وكولومبيا والمكسيك.
والبلدان التي أجازته لم تجزه على إطلاقه، بل قيدته بقيود دقيقة وصارمة؛ ففي هولندا
وضعت درجات لمبررات الموت الرحيم منها الغيبوبة الكاملة، والغيبوبة الجزئية المتكررة أو الإصابة بمرض مستعص لا يستطيع المريض معه أداء أي أمر مهما كان بسيطا. وفي سويسرا لا يعاقب القانون على القتل الرحيم غير المباشر، كحقن المريض كميات كبيرة من المورفين، كما لايعاقب على وضع حد للعلاج الذي يؤدي إلى الوفاة، ويسمح بمرافقة المريض للانتحار على أن يقوم المريض نفسه بالخطوة الأخيرة.
بلد القتل الرحيم
تعد سويسرا الدولة الوحيدة التي تقبل بمساعدة غير المقيمين فيها على الانتحار. وقد أنشئت فيها جمعيات تؤمن المساعدة على الانتحار وهو ما جعلها مقصدا للراغبين في الانتحار. وفي لوكمسبورغ تتطلب الموافقة على طلب المريض موافقة طبيبين معتمدين ولجنة من الخبراء. أما القتل الرحيم في البلاد العربية فهو محظور مهما كانت دوافعه.
وتعد قضية الطبيب الأمريكي جاك كيفوركيان من أشهر قضايا القتل الرحيم، إذ سجن مدة ثماني سنوات بتهمة القتل لمساعدته 130 مريضا على إنهاء حياتهم.
وفي الوقت الذي حسمت فيه الأديان السماوية موقفها من الموت الرحيم، ترى معظم قوانين الدول أن القتل الرحيم هو جريمة كيفما وقعت، في حين أخذت قوانين بعض الدول دافع الشفقة بالاعتبار فخففت العقوبة ، فيما شرعته دول قليلة بقيود دون أن تتفي عن الفعل صفة القتل.