المعلوماتية والوراثة
د. إيهاب عبد الرحيم علي
يعتبر غريغور ماندل (1822 – 1884)، الأب المؤسس لعلم الوراثة، على الرغم من أنه لم يكن يعرف ذلك. كان مندل بستانياً مع فضول لا يشبع للمعرفة. ربما كانت ملاحظاته بسيطة، لكن استنتاجاته كانت مذهلة. لم يكن هذا الرجل يمتلك وسائل التكنولوجيا الحديثة، فلم يكن لديه حاسوب أو آلة حاسبة الجيب، لكنه تعرّف، بدقة مدهشة، إلى الطريقة المحددة التي تعمل بها الوراثة.
وعلى الرغم من أنَّ الوراثة لم تصبح علماً رسمياً قائماً بذاته، بالمفهوم الحديث حتى نشر ماندل أبحاثه في عام 1865، فإن البشر أدركوا بفطرتهم مفهوم الوراثة قبل ذلك بكثير، ولعلَّ الدليل الأكثر إقناعاً على ذلك يأتي من برامج التهجين التي تعود إلى عصور ما قبل التاريخ، حيث كان يتم استيلاد الحيوانات أو النباتات ذات الصفات المرغوبة بشكل انتقائي. وقد كتب أفلاطون حول توسيع هذه الأفكار لتطبيقها على البشر، كما تمتلئ كتب التاريخ بأمثلة على الأمراض العائلية المعروفة، مثل الهيموفيليا (الناعور).
الوراثة والحاسوب
شهد القرن الحادي والعشرون سَلْسَلَة كامل الجينوم البشري، في عام 2003، والعديد من التطورات اللاحقة في تقنيات السَلْسَلَة الجينية والبروتيومية، والتي يمكننا من خلالها دراسة الحالات الطبية والعمليات البيولوجية حتى مستوى بالغ الدقة. ويتعزز كمّ المعلومات الوراثية من خلال التصوير الطبي الدقيق والتحاليل المختبرية المتقدمة، وكلها تعتمد على المعلوماتية والحواسيب. ومن ناحية أخرى، فقد تطورت نظم الحوسبة حتى صارت قوية جدا. وأدى دمج المزيتين معا إلى إتاحة الفرصة لدراسة وعلاج الأمراض بدعم من نماذج حاسوبية دقيقة، إضافة إلى فرصة لاستكشاف الكيفية التي يمكن بها لمريض بعينه أن يستجيب لعلاج معين.
سَلْسَلَة جينوم الأفراد الأصحاء
استغرقت سَلْسَلَة أول جينوم بشري 15 سنة وكلفت ثلاثة مليارات دولار، أمَّا اليوم فيمكن معرفة سَلْسَلَة الجينوم البشري مقابل نحو 3000 دولار وفي غضون أيام قليلة، ومن المتوقع أن تستمر التكاليف في الانخفاض. وعلى الرغم من أن سَلْسَلَة كامل الجينوم تستخدم حالياً في المقام الأول لأغراض التشخيص والأبحاث السريرية، فإنَّ سَلْسَلَة كامل الجينوم في الأفراد الأصحاء تَعِدُ بتمكينهم من الاضطلاع بقدر أكبر من التحكم في حياتهم، ومن ثم اتخاذ إجراءات للوقاية من الأمراض في مرحلة مبكرة وعلى نحو أكثر فعالية.
وفي المستقبل، قد تزوّد سَلْسَلَة كامل الجينوم الأفراد الأصحاء بالمعلومات المتعلقة بالأمراض الوراثية التي يحملونها في جيناتهم، وذلك لمساعدتهم على اتخاذ القرارات الإنجابية، وتزويدهم بالمعلومات الجينومية – الدوائية التي تساعد الأطباء على كتابة وصفات الأدوية وتحديد جرعاتها الملائمة. وقد تساعد أيضاً على التعرف إلى الأشخاص الذين يبدون بصحة جيدة- لكنهم يحملون متغيرات وراثية نادرة تزيد بشكل كبير خطر الإصابة بالسرطان أو النوبات القلبية، أو مزيج من المتغيرات الوراثية الشائعة التي تزيد بصورة طفيفة من أخطار إصابتهم بالأمراض المعقدة الشائعة، مثل الداء السكري من النوع الثاني، أو الاضطرابات النفسية مثل الاضطراب الثنائي القطب. ومن شأن هذا أن يمكّن الأطباء من التدخل بالأدوية أو الإجراءات الطبية، و/أو تحفيز الأفراد أنفسهم على اتخاذ تغييرات من شأنها تقليل خطر الإصابة بتلك الأمراض، مثل خسارة الوزن، والإقلاع عن التدخين، وتقليل التوتر، وتحسين الالتزام بتناول الأدوية، أو زيادة فحوص التحري. هناك اهتمام تجاري كبير، فضلا عن ذلك الأكاديمي المتعلق بالصحة العامة، بالاستفادة من هذه المزايا المحتملة.
تحليل المتواليات الجينية
إلى جانب أنها مكّنت ألفريد سانغر من الفوز بجائزة نوبل للمرة الأولى، فقد استهلت سَلْسَلَة الأنسولين العصر الحديث لعلم البيولوجيا الجزيئية والبنيوية. وفي أوائل ستينيات القرن العشرين، تراكمت متواليات البروتينات المعروفة ببطء، وربما كان ذلك بمثابة نعمة خفية، بالنظر إلى أن الحواسيب القادرة على تحليلها لم تكن قد اختُرعت بعد!
وفي عصر ما قبل الحاسوب هذا، من وجهة نظرنا الحالية على الأقل؛ كان يتم تجميع المتواليات، وتحليلها، ومقارنتها يدوياً عن طريق كتابتها على قطع من الورق، ولصقها جنباً إلى جنب على جدران المختبر، و/أو تغيير مواقعها حتى الوصول إلى المحاذاة المثلى، وهي التقنية التي تسمى الآن مطابقة النمط.
وبمجرد أن توافرت الحواسيب المبكرة، والتي كانت بنفس ضخامة قاطرات السكك الحديدية وبنفس سرعتها، ومع ذاكرة للوصول العشوائي RAM لا تزيد عن 8 كيلوبايت!؛ بدأ أول علماء البيولوجيا الحسابية إدخال هذه الخوارزميات اليدوية في بنوك الذاكرة. كانت هذه الممارسة جديدة تماماً، فلم يكن أحد قبلهم مضطراً لمعالجة وتحليل المتواليات الجزيئية باعتبارها نصوصاً. واضطر الباحثون لاختراع معظم هذه الأساليب من نقطة الصفر، مما أفضى بدوره لمولد مجال بحثي جديد تماماً، وهو تحليل المتواليات البروتينية باستخدام الحواسيب. وكانت هذه هي نشأة المعلوماتية الحيوية.
تحليل متواليات الدنا
خلال خمسينيات القرن العشرين، وبينما كان علماء مثل كندرو وبيروتز لا يزالون يكافحون من أجل التوصل إلى أول الهياكل الثلاثية الأبعاد للبروتينات، كان علماء البيولوجيا الآخرون قد حصلوا بالفعل على كثير من الأدلة غير المباشرة، عن طريق إجراء تجارب وراثية ذكية جدا، أن الحمض النووي الريبي المنزوع الأكسجين (الدنا: DNA) هو المادة التي تشكل جيناتنا، وكان بدوره جزيئاً ماكروياً macromolecule ضخماً؛ كان جزيئاً طويلاً ملتوياً يشبه السلسلة، وملتف على هيئة حلزون مزدوج، وكانت كل وصلة في السلسلة عبارة عن اقتران بين اثنين من أصل أربعة مكونات تسمى النيوكليوتيدات. والنيوكليوتيد يتكون من مجموعة فوسفات واحدة مرتبطة بسكر البنتوز، والذي يرتبط بدوره بواحد من أربعة أنواع من القواعد النيتروجينية العضوية التي يرمز إليها بالأحرف الأربعة A ،C ،G ،T.
وعلى أي حال، فقد كان على علماء البيولوجيا الجزيئية الانتظار إلى ما بعد ذلك بكثير، وبالتحديد حتى سبعينيات القرن العشرين، قبل أن يتمكنوا من التعرف إلى تسلسل جزيئات الدنا والحصول على إمكانية الوصول المباشر إلى متواليات النيوكليوتيدات الخاصة بالجينات. كانت هذه بمثابة ثورة، كما ساعدت ألفريد سانغر على الفوز بجائزة نوبل للمرة الثانية. لأن الأبجدية الصغيرة لمتوالية الدنا، وهي أربعة نيوكليوتيدات مقارنة بعشرين حمضاً أمينياً، سمحت بقراءة أبسط وأسرع بكثير، سرعان ما صارت تتم بصورة مؤتمتة بالكامل، باستخدام حواسيب خاصة. وفي الوقت الحالي، فإنَّ السرعة التي يتم بها تحديد متوالية الدنا في جميع أنحاء العالم تتسم بكونها أسرع من حيث الحجم من معدل سَلْسَلَة البروتينات.
تحليل متواليات الرنا
إن الدنا هو العضو الأكثر أهمية في عائلة الأحماض الأمينية من الجزيئات. وتتمثل مهمته الوحيدة والفريدة في التأكد – إلى الأبد – من حفظ المعلومات الوراثية للكائن الحي الذي تنتمي إليه، وهو بالتالي مستقر ومقاوم، ويوجد في موضع محمي جيداً في نواة كل خلية. أما الحمض النووي الريبي (الرنا RNA) فهو عضو أكثر نشاطاً في عائلة الأحماض الأمينية؛ إذ يتم تصنيعه والتخلص منه باستمرار أثناء قيامه بجعل نسخ الجينات المتاحة لمصنع الخلية. وفي سياق المعلوماتية الحيوية، لا يوجد سوى اختلافين رئيسيين بين الرنا والدنا: يختلف الرنا عن الدنا في نيوكليوتيد واحد. يأتي الرنا في ضفيرة واحدة، وليس على هيئة حلزون مزدوج.
الشفرة الوراثية
عندما نتعرف إلى متوالية الدنا، باستخدام برامج حاسوبية متخصصة، يمكن للباحثين ترجمتها إلى متوالية البروتين المقابلة باستخدام الشفرة الوراثية، وبنفس الطريقة التي تقوم بها الخلية بتوليد متوالية أحد البروتينات. تتسم الشفرة الوراثية بشموليتها مع بعض الاستثناءات وإلا لكانت الحياة بسيطة جدا، وهذا هو الحل الطبيعي للمشكلة المتعلقة بالكيفية التي يمكن بها للمرء أن يربط على نحو فريد بين متوالية من أربعة نيوكليوتيدات(A, T, G, C) وبين مجموعة مكونة من 20 حمضاً أمينياً؛ فنحن نستخدم الرموز هنا، وليس مركبات كيميائية فعلية، لفعل الشيء نفسه. مثّل فهم كيفية قيام الخلية بذلك واحداً من أهم إنجازات البيولوجيا في ستينيات القرن العشرين.
استكشاف الجينوم البشري
في معظم الخلايا المكوّنة للكائن الحي، هناك مجموعة مماثلة من الشفرات التي تنظم وظيفة الخلية. ويتم ترميز هذه في صورة واحد أو أكثر من ضفائر جزيء الدنا. ويعرف الطقم الكامل لجزيئات الدنا في كل كائن حي باسم الجينوم. وتتمثل الوظيفة العامة للجينوم في توجيه إنتاج الجزيئات، البروتينية في الغالب، التي تنظم عملية الاستقلاب في الخلية واستجابتها للبيئة المحيطة بها.
يكون الجينوم متماثلاً في كل خلية تقريباً في الجسم البشري. وعلى سبيل المثال، فإن الخلايا الكبدية وخلايا الدماغ لديها نفس محتوى الدنا ونفس التعليمات البرمجية في النواة. بيد أن ما يميز خلايا أحد أجهزة أو أنسجة الجسم عن بعضها بعضا هو تفعيل أجزاء مختلفة من الدنا فيها في الوقت نفسه.
تمثل سَلْسَلَة الجينوم البشري على الأرجح واحدا من أعظم الإنجازات العلمية في العصر الحديث. ففي وجود ثلاثة آلاف مليون نيوكليوتيد موزعة على 23 صبغيا (كروموسوما)، يمثل هذا الجينوم بالتأكيد كائناً معقداً يصعب التعامل معه. وتتمثل المهمة الرئيسية التي تنتظر المعلوماتية الحيوية في دمج كل المعلومات المتعلقة بالماضي، والحاضر، والمستقبل، والمتضمنة في الجينات البشرية في صورة مصدر يمكن حفظه ويسهل استخدامه.
وإذا أردنا أخذ فكرة عن حجم البيانات البشرية، علينا امتلاك معلومات واضحة عن الحالة الراهنة للبيانات: إن المتوالية الكاملة للنيوكليوتيدات المتضمنة في الجينوم البشري هي الآن في متناول اليد، باستثناء بضعة آلاف من الثغرات التي لا يزال الباحثون يسعون لسدها. ولهذا السبب يتم نشر «إصدارات» جديدة من الجينوم البشري بصفة دورية. وتنطبق هذه الحالة المتغيرة أيضا على كل جينومات الحيوانات الكبيرة.
إضافة إلى ذلك، فقد حصلنا على هذا المتوالية في شكلها الخام، وبالتالي فإن التحدي المقبل هو تفسير هذه البيانات الخام، من خلال وضع جدول مفصل ودقيق لخصائص الجينوم البشري. وفي جميع أنحاء العالم، يتم يومياً إنتاج معلومات جديدة حول خصائص ووظائف الجينات البشرية، وذلك باستخدام مجموعة واسعة من التقنيات المعتمدة على المعلوماتية الحيوية. وفي عالم مثالي، يجب أن يقوم شخص ما بتجميع كل تلك المعلومات، وتوليفها على نحو جيد، ومن ثم يقدمها للمجتمع البحثي بصورة كاملة، وبالمجان!
المعلوماتية والوراثة
الاهتمام الكبير بفك شفرة الجينوم البشري، وفهم الدور الوظيفي الذي تؤديه الجينات المختلفة في حالتي الصحة والمرض، يتم بدافع من الأمل في أن يؤدي هذا إلى طرق جديدة لعلاج المرضى. وعلى وجه التحديد، فإن المعلوماتية الحيوية تمكننا من تحديد الجينات التي تشير إلى قابلية المريض للإصابة بمرض ما، وتساعد على تطوير فهمنا للسبل الخلوية المكتنفة في إحداث المرض، وبالتالي توفر فرصة لتطوير العلاجات المحددة جدا.
لنتأمل على سبيل المثال تحليل سرطان الغدد اللمفاوية ذي الخلايا البائية الكبيرة، حيث قام الباحثون بقياس مستوى تعبير آلاف الجينات في الأنسجة اللمفاوية للمرضى المصابين بهذا الورم المميت الذي يصيب الجهاز اللمفاوي، وذلك باستخدام تقنية المصفوفات الميكروية للدنا. وعندما أجري تحليل (التعنقد) لمعرفة أي المرضى يشبه واحدهم الآخر أكثر من حيث نمط التعبير الجيني لدى كل منهما، وجدت مجموعتان متميزتان من المرضى. وعندما درس الباحثون التاريخ الصحي لأولئك المرضى، اتضح أن المجموعتين تتوافقان مع جمهرتين من المرضى الذين يظهرون معدلات وفيات مختلفة بشكل كبير، كما يتضح من الفروق ذات الدلالة الإحصائية في منحنيات البقاء على قيد الحياة. كانت الآثار المترتبة على معدلات الوفيات المتباينة هذه بالغة الأهمية، فعلى سبيل المثال:
< اكتشف الباحثون فئة فرعية جديدة من سرطان الغدد اللمفاوية ذي الخلايا البائية الكبيرة، وهو تشخيص جديد له أهمية سريرية.
< توصل الباحثون إلى أداة حاسوبية توفر تكهنا مرضيا جديدا، وبالتالي يمكنهم تزويد المرضى بتقديرات أكثر دقة بكثير لمدى العمر المتوقع.
< توفير فرصة علاجية جديدة، حيث يمكن – في حالة المرضى الذين يعانون من نمط للتعبير الجيني يتوقع معه ضعف الاستجابة للعلاج المعتاد – أن يتم العلاج باستخدام أدوية مختلفة.
< هناك فرصة لأن تتمكن الأبحاث الطبية الحيوية الجديدة من اكتشاف العامل الموجود في هاتين المجموعتين الفرعيتين من المرضى، والذي يجعل مصير أفرادهما بمثل هذا الاختلاف، وكيف يمكن ربط ذلك بالاختلافات في التعبير الجيني.
اختبارات بقرب المريض
اعتمد التعرف إلى الكائنات المجهرية تاريخياً على زراعة تلك الكائنات أو تحديد مورفولوجيتها في مختبرات متخصصة. وعلى أي حال، فإن القدرة على استعراف الكائنات المجهرية جينيا تمكّننا من اكتشاف وتحديد وتوصيف مسببات الأمراض المعدية، الأمر الذي يتعين القيام به بقرب المريض، سواء كان راقداً على سرير في المستشفى، أو في الممارسة العامة أو في المنزل. توفر عتائد الاختبار تحليلا سريعا لقطرة من الدم أو اللعاب أو البول لاكتشاف وجود المُمرض المسبب للعدوى، كما تعطي مؤشرا على مقاومته المحتملة لمضادات الميكروبات. وتشمل التقنيات التي تعمل بها عتائد الاختبار هذه المصفوفات المكروية أو «رقائق الدنا».