م. خالد محمد العنانزة
مساهمة النباتات في مكافحة تلوث البيئة ليست أمراً جديداً، فالنباتات منذ القدم تحافظ على التوازن البيئي، وهي تساهم حالياً في مكافحة ارتفاع درجة حرارة الأرض، وتمتص ثاني أكسيد الكربون (أحد غازات الاحتباس الحراري)، وتبعث الأكسجين اللازم للحياة. ومع التطورات الهائلة في علوم الهندسة الوراثية في السنوات الأخيرة؛ توصل العلماء إلى اكتشاف قدرات مذهلة للنباتات والأشجار الخضراء، تتمثل في إمكاناتها الكبيرة في مكافحة الملوثات المستعصية، والملوثات المشعة، والمعادن الثقيلة.
أدى التقدم التقني والنمو السكاني المتزايد إلى زيادة الطلب على المنتجات الاستهلاكية والطاقة، ما ترتب عليه زيادة تشييد المصانع الكيميائية ومحطات الطاقة النووية ومصافي النفط. وبدأت هذه المنشآت بطرح مخلفاتها المحملة بشتى أنواع المعادن الثقيلة والمواد الخطرة والسامة والمشعة إلى البيئة بكل عناصرها؛ الهواء والماء والتربة. ومما يزيد من خطورة هذه الملوثات أنَّ معظمها من الملوِّثات الثابتة القابلة للتراكم والتضخم البيولوجي في جسم الكائن الحي.
وأدى هذا إلى تلوث المياه الجوفية والسطحية، وانتشار المواقع الملوثة وتراكم الملوثات السامة مثل المعادن الثقيلة والنويدات المشعة والملوثات العضوية في التربة والمياه في أرجاء واسعة من العالم.
وتظهر التقارير البيئية تسجيل نحو 600 ألف موقع ملوث في هولندا، وأكثر من 22 ألف موقع في كندا. وذكرت وكالة حماية البيئة الأمريكية في تقرير لها أن إجمالي عدد المواقع الملوثة في الولايات المتحدة الأمريكية يتجاوز 350 ألف موقع تحتاج إلى التنظيف خلال الثلاثين سنة المقبلة، بكلفة تبلغ نحو 250 مليار دولار. وتظهر تقارير وكالة حماية البيئة الأوروبية أن تكاليف التنظيف الإجمالية للمواقع الملوثة في الاتحاد الأوروبي تراوح بين 59 و109 مليارات يورو.
وإزاء هذا الوضع أصبح العالم يتطلع إلى استخدام تقنية المعالجة النباتية لتنظيف المواقع الملوثة والمياه الجوفية وتنظيف التربة الملوثة بالإشعاع باعتبارها تقنية صديقة للبيئة، وتتفوق على طرق التنظيف الهندسية الأخرى بأنها فعالة من الناحيتين الاقتصادية والفنية.
ما هي المعالجة النباتية؟
المعالجة النباتية Phytoremedation تتكون من كلمتين، الأولى Phyto، ومعناها نبات، والثانية Remediation، ومعناها استصلاح أو معالجة، وذلك لوصف تقنية تقوم بموجبها بعض النباتات جنباً إلى جنب مع الكائنات الحية في التربة، بتحويل الملوثات الضارة بالإنسان والبيئة إلى أشكال غير ضارة، وفي كثير من الأحيان مفيدة، وحالياً يتم استخدام هذه التقنية على نحو متزايد لإصلاح المواقع الملوثة بالمعادن الثقيلة والمركبات العضوية السامة والمواد المشعة.
وتعمل تقنية المعالجة النباتية على الاستفادة من نظام التغذية في النبات المبني على امتصاص الماء والمغذيات من خلال الجذور ورشح الماء من خلال الأوراق أو استقلاب المركبات العضوية مثل النفط والمبيدات الحشرية، أو أنها قد تمتص وتراكم بيولوجياً العناصر النزرة السامة، بما في ذلك المعادن الثقيلة والرصاص والكادميوم، والسيلينيوم.
إن معالجة المواقع الملوثة باستخدام الطرق التقليدية؛ كثيراً ما تكون مكلفة وكفاءتها محدودة وقابلة للتطبيق على مساحات صغيرة، إضافة إلى ذلك فإن الطرق التقليدية غالباً ما تجعل التربة غير صالحة للاستخدام الزراعي، ولا تحل المشكلة بشكل عملي. فمثلاً في ألمانيا تساهم منشآت التنظيف التقليدية في تنظيف %30 من التربة في المواقع الملوثة، أمَّا التربة الباقية فيتم تخزينها في منشآت التخلص من النفايات، وهذا في الواقع لا يحل المشكلة من جذورها، بل يكتفي بترحيلها للأجيال اللاحقة، لذلك أصبحت الحاجة ماسة إلى تطوير طرق بديلة صديقة للبيئة، رخيصة وفعالة لتنظيف المناطق الصناعية الملوثة تأخذ بعين الاعتبار الاستخدام النهائي المحتمل للتربة بعد تنظيفها، وهذا ما توفره المعالجة النباتية كونها تقنية منخفضة التكلفة وفعالة، ويمكن بواسطتها معالجة مجموعة واسعة من الملوثات، كما يمكن تطبيقها على مساحات واسعة من الأراضي، والأهم من ذلك أنها لا تدمر التربة المعالجة إذ يمكن استخدامها للزراعة بعد التنظيف.
آليات المعالجة النباتية
تعمل تقنية المعالجة النباتية على سحب وتخزين وتحويل وهدم الملوثات بمختلف أنواعها باستخدام الجذر والساق والأوراق، وذلك بعدة أشكال أو آليات وهي:
1. الاستخلاص phytoextraction:
تسمى هذه الآلية الاستخلاص أو التراكم، وتعني سحب المعادن الثقيلة من التربة إلى المجموع الخضري للنبات، وبعض النباتات تسمى مجمعات phytoaccumulation لأنها تمتص كميات كبيرة من المعادن مقارنة بنباتات أخرى، وبعد أن ينمو النبات لفترة يتم حصاده والتخلص منه بالحرق أو إعادة استخلاص المعادن منه، وهذه الطريقة مفيدة في خفض تلوث التربة إلى مستوى مقبول، ويتم التخلص من الرماد في مواقع النفايات الخطرة. ومن المعادن المرشحة للإزالة بهذه الآلية: النيكل والنحاس والزنك. وتجرى حالياً دراسات وتجارب على أنواع من النبات لامتصاص الرصاص والكروم في التربة الملوثة، كما أجريت تجارب ناجحة أخيراً لاستخدام نبات السرخس الصيني pteris vittatia في امتصاص الزرنيخ من التربة الملوثة به، لأن هذا النبات ينمو سريعاً في التربة الملوثة بالزرنيخ.
2. الترشيح Rhizofiltration:
يتم في هذه الآلية امتزاز أو امتصاص أو ترسيب الملوثات بواسطة الجذور في المنطقة الجذرية للنبات، وتشبه هذه الآلية الاستخلاص، إلا أنها تستخدم لتنظيف المياه الجوفية، في حين تستخدم آلية الاستخلاص لتنظيف التربة، ويتم زراعة النباتات في المياه الملوثة، أو ضخ المياه الملوثة إلى النباتات المزروعة التي تعمل على سحب المياه الملوثة. وعندما يصبح النبات مشبعاً بالملوثات يتم حصاده. ومن التطبيقات المهمة لهذه الآلية استخدام دوّار الشمس لمعالجة برك المياه الملوثة بالإشعاعات التي نتجت عن انفجار مفاعل تشرنوبيل في أوكرانيا.
3. التثبيت phtostabilization:
يتم في هذه الآلية استعمال أنواع معينة من النباتات بهدف التثبيت الميكانيكي للتربة الملوثة، لمنع حركة الملوثات في التربة أو المياه الجوفية بفعل عوامل التعرية أو الهواء، وخفض انتقالها لبيئات أخرى لاسيما السلسلة الغذائية للبشر، وهذه الآلية تتضمن امتصاص الملوثات وتراكمها في الجذور أو امتزازها على الجذور أو ترسيبها ضمن المنطقة الجذرية للنبات، وغالباً ما تستخدم هذه التقنية لتجديد الغطاء النباتي في المواقع التي تتدهور فيها التربة، بسبب ارتفاع تراكيز المعادن الثقيلة فيها.
4. الهدم phytodegredation:
يتم في هذه الآلية استخدام النباتات والكائنات الحية الدقيقة المرتبطة بها لهدم الملوثات العضوية مثل مخلفات الذخائر ومركبات ثنائي الفينول المتعدد الكلور (PCBs) وبعض المذيبات المكلورة، وتنطوي هذه الآلية على هدم الملوثات العضوية مباشرة من خلال الأنزيمات التي تفرزها الجذور، أو من خلال نشاطات الاستقلاب داخل الأنسجة النباتية.
إن نجاح هذه العملية يحتاج إلى وجود ملوثات عضوية متوافرة بيولوجياً للامتصاص والاستقلاب من قبل النباتات والكائنات الحية الدقيقة المرتبطة بها، وتعتمد درجة التوافر البيولوجي على مدى تعقيد تركيب الملوث وعمره، ونوع التربة. وقد استخدمت أشجار الحور في تطبيقات متعددة بواسطة هذه الآلية لهدم المركبات العضوية السامة والمستعصية.
5. التبخير phytovolatilization:
تتضمن هذه الآلية امتصاص ونتح الملوثات العضوية من قبل النباتات، حيث يقوم النبات بامتصاص الملوثات من التربة أو المياه والطرح إلى الهواء (التبخير)، وعادةً يتم استخدام النباتات التي لها معدل تبخر ونتح مرتفع، وكلما كانت الملوثات متطايرة كانت أسهل للمعالجة بهذه الآلية. فمثلاً يمكن معالجة المركبات العضوية المتطايرةvolatile organic compounds (VOC) بكفاءة بهذه الطريقة. ومع التطورات الحاصلة في الهندسة الوراثية أمكن استخدام هذه الطريقة لإزالة الزئبق من البيئات الملوثة، حيث يتم تحويل الزئبق (الأيوني) إلى الزئبق المعدني الأقل سمية وتبخيره في الهواء.
وفي بعض التطبيقات تم تحويل معادن مثل السيلينيوم والزرنيخ والزئبق إلى مركبات عضوية (مثل المعدن) لتسهيل التعامل معها بيولوجياً من قبل النبات.
تطبيقات ناجحة
إن تطبيق المعالجة النباتية بصورة ناجحة يتطلب الاختيار الدقيق لأنواع النباتات لإزالة المعادن الثقيلة وهدم المركبات العضوية وتنظيف التربة الملوثة. وأجرى الباحثون في السنوات الأخيرة دراسات مكثفة لتكييف بعض الأنواع النباتية للنمو في التربة الملوثة بالمعادن الثقيلة مثل الرصاص والنيكل والزنك والنحاس، والملوثات العضوية مثل تراينيترو تلوين TNT وترايكلوروايثلين TCE.
وركزت معظم أبحاث المعالجة النباتية على تنظيف المواقع الملوثة بنوع واحد من الملوثات، فمثلاً تم استخدام نبات الخردل الهندي Brassica Juncea لاستخلاص الرصاص من التربة الملوثة، وتم استخدام أشجار الحور لسحب وهضم الملوثات العضوية وبعض المعادن الثقيلة.
ففي دراسة أجراها باحثون من جامعة واشنطن؛ تبين أنه يمكن معالجة المذيب العضوي ترايكلورو ايثلين TCE (منظف يستخدم في إزالة الزيوت والشحوم عن المعادن ويسبب أضراراً للجهاز العصبي ودماراً للكلى والكبد) بواسطة أشجار الحور المهجنة Trichocarpa Deltoides.
وفي دراسات أخرى تم استخدام هذا النوع النباتي لإزالة المعادن الثقيلة والنترات من التربة والمياه الجوفية على الترتيب. وفي السويد تم استخدام أشجار الحور والصفصاف كمرشحات بيولوجية لإزالة الكادميوم من حمأة الصرف الصحي (الرواسب الناتجة من المعالجة البيولوجية لمياه الصرف الصحي)، وذلك لإنتاج كتلة حيوية يتم تحويلها إلى طاقة لاحقاً.
كما تم استخدام نبات زنبق السلام (Sphathiphyllum) كمنظف جوي، لإزالة فورمالدهايد والبنزين (وهما ملوثان مسرطنان موجودان في الغاز والنفط)، وثلاثي كلورو الإيثيلين من الهواء الملوث.
ويعمل الباحثون في جامعة سافانا على تطوير تقنية معالجة نباتية قادرة على التعامل مع مواقع ملوثة بأنواع مختلفة من النفايات، ومن المتوقع أن تشكل أشجار الحور معالجة مثالية لمثل هذه المواقع نظراً لنموها السريع وجذورها العميقة وكثرة الكائنات الحية الدقيقة المرتبطة بجذورها، والأهم من ذلك قدرتها على التكيف.
استخدامات أشجار الحور
ومن التطبيقات المهمة الأخرى في هذا المجال؛ استخدام أشجار الحور من خلال الأنزيمات الموجودة في جذورها لتغيير التركيب الكيميائي لمركبات PCBs، وهي مجموعة من الملوثات الدائمة، تتفاوت في خصائصها وسميتها، وتلقى اهتماماً عالمياً متزايداً نظراً لخطورتها، حيث تسبب أمراض السرطان وأضراراً للنظام العصبي في الكائن الحي. وعلى الرغم من أن هذه المركبات لم تنتج منذ أكثر من 30 سنة فإنها ما زالت موجودة في البيئة نظراً لقدرتها على مقاومة التحلل والتفكك، وأدت إلى تلوث مواقع عدة من التربة والمياه في أرجاء واسعة من الولايات المتحدة الأمريكية، مثل نهر هدسون. وتظهر تقارير وكالة حماية البيئة الأمريكية وجود أكثر من 300 موقع ملوث بمركبات PCBs موضوعة على رأس قائمة صندوق دعم تنظيف الموقع الملوثة.
وحالياً يدرس فريق مشترك من الأكاديمية الصينية للعلوم وجامعة (آيوا) قدرة أشجار الحور على تعديل التركيب الكيميائي لمركبات PCBs وتحويلها إلى مركبات أقل ضرراً للإنسان والبيئة.
وفي دراسات أخرى تم استخدام نباتات البرسيم وأشجار العرعر لإزالة المواد البترولية والهدروكربونية من التربة والمياه الجوفية، كما تم إجراء تجارب ناجحة على نباتات ريشة الببغاء والطحالب للتخلص من نفايات الذخائر والمتفجرات.
مساهمات للحد من آثار تشرنوبيل
وقبل سنوات قامت الوكالة الدولية للطاقة الذرية بإجراء تقييم للوضع الصحي والإشعاعي للمنطقة المحيطة بمفاعل تشرنوبيل في أوكرانيا، ودلت النتائج على أن انبعاثات المواد المشعة والمعادن الثقيلة بما في ذلك اليود والسيزيوم والسترونيوم والبلوتونيوم ما زالت تتركز في التربة والمياه والنباتات والحيوانات، على الرغم من انقضاء سنوات على حادث انفجار مفاعل تشرنوبيل (1986). و أظهرت بعض النباتات البرية مثل التوت البري والفطر مستويات عالية من السيزيوم، ولاحظت الرابطة الكندية النووية زيادة ملحوظة في حالات الإصابة بالغدة الدرقية في المناطق المحيطة بالحادث النووي.
وتدخل هذه المواد المشعة السلسلة الغذائية عن طريق رعي الأغنام والأبقار التي تتغذى على النباتات المزروعة في التربة الملوثة، وبعد ذلك تتركز السموم في منتجات اللحوم والألبان التي يستهلكها البشر. وحديثاً طورت إحدى الشركات سلالات معدلة وراثياً من نبات دوّار الشمس قادرة على إزالة %95 من الملوثات المشعة في أقل من 24 ساعة، وتم زراعة دوّار الشمس في بركة مائية ملوثة بالإشعاعات بالقرب من تشرنوبيل؛ وخلال 12 يوماً كانت تركيز السيزيوم في جذورها أكبر بمقدار 8000 مرة من مياه البركة، في حين بلغت تراكيز السترونيوم أكبر بمقدار 2000 مرة من مياه البركة. وزرعت الشركة نفسها القنب الصناعي لإزالة الملوثات الإشعاعية من التربة القريبة من تشرنوبيل.
ومن التطبيقات الحديثة لاستخدام النباتات في التنظيف البيئي الأبحاث التي تطرقت إلى قدرة نبات سنبل الماء (Eich hornia Crassipes) على إزالة المبيدات الفسفورية. ومن المتوقع أن يشكل هذا النبات بديلاً فعالاً واقتصادياً وبيئياً لإزالة وهدم نفايات المبيدات والتخلص من مخلفات الصناعات الزراعية بصورة عامة.