Dr. Sakir Basma Ji
كنا نعتقد حتى عهد قريب أننا أحطنا علماً بكل إسهامات العلماء العرب والمسلمين وإنجازاتهم في علم الفلك، لكن الاكتشافات الحديثة لا تؤكد ذلك؛ ثمة عشرة آلاف مخطوطة فلكية لاتزال موجودة على رفوف المكتبات والمساجد وعند المهتمين بالتراث العلمي العربي، وهناك أيضاً الكثير من الآلات الفلكية التي تحتاج منا إلى جهد حثيث لنكشف النقاب عن ميزاتها وفوائدها.
ولعل علم الفلك هو الأوفر حظاً بين العلوم الأساسية الذي توافر له الدعم الحكومي والشعبي في الحضارة الإسلامية على مرِّ العصور، والذي دعم بدوره كل العلوم الفرعية التي كانت متعلقة به، مثل حسابات المثلثات وصناعة أجهزة الرصد والمراصد والأزياج.
لقد أصبح علم الفلك المشروع الكبير للمجتمع الإسلامي، وتضافرت كل الجهود لإنجاحه. ويكاد ذلك يذكرنا بمشروع الولايات المتحدة المتمثل في الهبوط على سطح القمر في ستينيات القرن العشرين، ذلك المشروع الذي حشدت له الولايات المتحدة كل الطاقات والإمكانات والكفاءات من جميع أنحاء العالم لإنجاحه.
ولابد لنا من أخذ العبرة التاريخية من المقارنة بين المشروعين – علماً أن الفارق الزمني بينهما أكثر من ألف سنة – وهي أن الولايات المتحدة، والغرب عموماً، طوّروا مؤسسات ومدارس ومعاهد وخصصوا ميزانيات وإدارات للحفاظ على هذا النجاح، ليس بدافع ديني بل حباً في التحكّم، فعقيدتهم: من يملك الفضاء يملك السيطرة على الأرض، في حين لم ينجح المشروع العربي في ذلك حتى يومنا هذا، مع أن دافع العقيدة قوي جداً.
في تلك المرحلة التاريخية لم يخترع العرب والمسلمون العجلة من جديد، بل بدؤوا من حيث انتهت الحضارات السابقة، فنقلوا وترجموا كل ما وقع تحت أيديهم. ففي عصر الدولة الأموية نجد الأمير خالد بن يزيد بن معاوية يهتم بعلم الفلك وبغيره من العلوم الطبيعية، وما الرسوم الفنية للكوكبات السماوية (وعددها 37 فقط، من أصل 48 كانت معروفة حتى عهدهم، وهي اليوم 88 كوكبة) على قبة (قصر عمرة) الذي بني نحو (97هـ/715م) والموجود حالياً في الأردن، إلا تعبير حقيقي عن الرغبة في مزيد من المعرفة عن علم الفلك.
وفي عصر الدولة العباسية بدأ الخليفة أبو جعفر المنصور مسيرة ترجمة العلوم الفلكية عن الفارسية والهندية كما في كتاب (السند هند) الذي نقل عن السنسكريتية والبهلوية إلى لغة الضاد.
ثم توالت أعمال الترجمة العلمية الفلكية في دار الحكمة منذ (القرن 8م)، وجاءت ترجمة كتاب بطليموس القلوذي (القرن 2م) المسمى (المجسطي) عن اليونانية على يد حنين بن إسحاق وثابت بن قرة في القرن (9م) ليمنح علم الفلك الإسلامي بعداً أكثر عمقاً وأثراً من الناحيتين الرصدية والرياضياتية.
المراصد والأرصاد الفلكية
يقصد بالرصد النظر في الكواكب السيارة ومعرفة مواضعها وأبعادها عن بعضها بعضا، ومعرفة مقدار حركتها وأحجامها بواسطة آلات الرصد الموجودة في المرصد الفلكي، وهو المكان الذي يرصد فيه ومنه, علماً أن وسيلة الرصد الأولى التي اعتمد عليها الفلكيون هي العين.
انتشرت المراصد الإسلامية من آسيا الوسطى شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً؛ فمن سمرقند ومراغة إلى الشماسية في العراق وقاسيون في سورية إلى المقطم في مصر إلى فاس في المغرب وطليطلة وقرطبة في الأندلس. وتجمع المصادر على أن أول هذه المراصد نشأةً في العالم الإسلامي كان في دمشق. ويرى آيدين صاييلي – أبرز الباحثين الأتراك الذين درسوا المراصد الفلكية في العالم الإسلامي- أنه تهيأت ظروف اقترنت بالإسلام، وكانت مواتية لتطور المراصد كمؤسسات، وللقول بأن الإسلام شكَّل بيئةً مناسبةً لنشأةِ المراصد وتطورها ما يبرره؛ فقد كانت لعلم الفلك مرتبة خاصة في العالم الإسلامي، وكان ثمة اهتمام بالرصد المباشر، وبدقة القياسات، وبالنظريات الرياضياتية، وبزيادة حجم الآلات، وبالإصرار على ممارسة الفلكيين أعمالهم في مجموعات، وبالميل إلى التخصص في مجالات ضيقة، وبالنزعة التجريبية عند علماء الإسلام.
وكما هي حال المراصد اليوم، فقد كان يناط بالمراصد الإسلامية برامج بحثية محددة. وأول هذه البرامج تصحيح الجداول الرصدية الفلكية السابقة (التي كانت تسمى بالأزياج) والمرتبطة بالأجرام السماوية، وخصوصاً الشمس والقمر، ووضع جداول حديثة بدلاً منها. وضعت أول الأرصاد الفلكية في أيام الخليفة العباسي المأمون في كتاب (الزيج المأموني الممتحن)، وهي مخطوطة قمنا بتحقيقها على نسخة وحيدة موجودة في مكتبة الإسكوريال في إسبانيا.
ونورد فيما يأتي قائمة بأشهر المراصد الفلكية في العالم الإسلامي:
مرصد قاسيون
يعد أول مرصد في الإسلام، وأسسه الخليفة المأمون الذي أرسل بعثة فلكية لإجراء أرصاد فيه ما بين عامي (215 – 218هـ). ومازالت آثار ذلك المرصد موجودة في قبة تدعى (قبة السيار). ومن أهم من رصد فيه الفلكيون يحيى بن أبي منصور وسند بن علي والعباسي والجوهري.
مراصد بغداد
تم بناء العديد من المراصد في بغداد ونواحيها، منها: مرصد سامراء الذي أنشئ في عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد على يد الإخوة محمد والحسن وأحمد أبناء موسى بن شاكر المنجم. وهناك المرصد المأموني نسبة للخليفة العباسي المأمون الذي بني في الشماسية ببغداد، وقد تولى سند بن علي (ت 218هـ/833م) عملية الرصد فيه بالاشتراك مع خالد بن عبد الله المروزي، وعلي بن عيسى، وعلي بن البحتري، وهم أعضاء الفريق الذي قاس محيط الأرض في عهد المأمون. كما يوجد مرصد بني الأعلم ببغداد. وكذلك يوجد المرصد الشرقي ببغداد في بستان دار المملكة، حيث أنشئ زمن شرف الدولة البويهي في الفترة العباسية. ومن أشهر الفلكيين الذين قاموا بالرصد فيه الكوهي والصاغاني والبوزجاني والحراني والصوفي.
أما المرصدُ الذي شيده السلطان السلجوقي (ملك شاه) في بغداد فيُعَدُّ مرحلة أخرى من مراحل تطور العمل في المراصد، وإن لم يتوافر لدينا حتى الآن معلومات كافية حول عمل هذا المرصد، و بقي هذا المرصد يعمل لفترة تزيد على عشرين عاماً، وهي فترة زمنية طويلة نسبيًّا بالنسبة لعمر المراصد، لكن رأى الفلكيون آنذاك أنه يلزم لإنجاز عمل فلكي فترة زمنية لا تقل عن 30 عاماً.
مرصد مراغة
يعد القرن (7هـ/14م) أهم حقبة في تاريخ المراصد الإسلامية؛ لأن بناء مرصد مراغة المتطور تم خلال ذلك القرن.
ويعد هذا المرصد أحد أهم المراصد في تاريخ الحضارة الإسلامية، وتقع مراغة بالقرب من مدينة تبريز.
بُني المرصد خارج المدينة، ولا تزال بقاياه موجودة حتى اليوم، وقد أنشأه “مانجو” أخو “هولاكو”.
كان مانجو مهتماً بالرياضيات والفلك، وقد عُهد إلى جمال الدين بن محمد بن الزيدي البخاري مهمة إنشاء هذا المرصد، واستعان بعدد من العلماء منهم: نصير الدين الطوسي، وعلي بن عمر الغزويني، ومؤيد الدين العرضي، وفخر الدين المراغي، ومحيي الدين المغربي.
ويعد مرصد مراغة أول مرصد استفاد من أموال الوقف؛ إذ وقفت عليه عقارات وأراضٍ، لكي يتم ضمان استمرارية العمل فيه؛ لذا ظل العمل جارياً في المرصد إلى عام 1316م، وشهد حكم سبعة سلاطين اهتموا به وبرعايته. وتكمن السمة الثالثة لمرصد مراغة في النشاط التعليمي المهم الذي تم فيه، فقد تم تعليم العديد من الطلبة في المرصد علم الفلك والعمل على الآلات الفلكية. كما كان في المرصد مكتبة ضخمة ضمت آلاف المخطوطات في معظم مجالات المعرفة.
مرصد سمرقند
أسس هذا المرصد «أولغ بك» حفيد «تيمورلنك» في سمرقند. وفي عام 1908 تم الكشف عن موقع هذا المرصد حين نجح الباحث «ج.ل فاتكن» في العثور على وقفية من وقفياته تحدد مكانه بالضبط في المدينة، واستطاع في أثناء تنقيباته الأثرية أن يعثر على قوس كبيرة كانت تستخدم في تحديد منتصف النهار، وهي أهم الأدوات الفلكية في المرصد.
ولم يكن دمار مرصد سمرقند وزواله ناجمين- في رأي فاتكن- عن عوامل طبيعية؛ إذ من المحتمل أن يكون بعض الدمار قد نجم عن استخدام رخامه في عمليات بناء أخرى. وقد وضعت جداول فلكية في المرصد، عرفت بجداول «أولغ بك» وتعد من أدق الجداول في العالم. ومن المعروف أن قبة المرصد، استغلت في وضع الجداول؛ حيث كان يوجد فيها نقوش تحدد الدرجات والدقائق والثواني وأعشار الثواني لأفلاك التدوير، وللكواكب السبعة، وللنجوم المتحيرة، وللكرة الأرضية بتقسيماتها من حيث الأقاليم والجبال والصحارى. وممن عملوا في هذا المرصد غياث الدين الكاشي الذي برع في ميدان النماذج الميكانيكية للحركات السماوية.
المرصد الحاكمي
أنشأ الفاطميون مرصداً على جبل المقطم في مصر سمي بـ(المرصد الحاكمي) أيام الخليفة الفاطمي العزيز والخليفة الحاكم بأمر الله. وهو مرصد شهير عمل به ابن يونس الصفدي المصري، وأجرى فيه أرصاداً من سنة (397-380 هـ /1006-990م).
إضافة إلى ما تقدم كانت ثمة مراصد أخرى خاصة في أرجاء العالم الإسلامي منها، مرصد ابن الشاطر في بلاد الشام، ومرصد الدينوري في أصبهان، ومرصد البتاني في الرقة ، ومرصد البيروني وغيرها في الأندلس ومصر وبلاد فارس.
الآلات الفلكية
على مدى عامين متتاليين قمنا بصناعة أكثر من 40 آلة فلكية إسلامية يعود تاريخها إلى ما بين القرنين (9 و19م)، منها ما هو معروف ومنها ما هو جديد. لكن ما أذهلني حقيقةً دقة وجودة الصناعة ومهارة الصنّاع المسلمين قبل ألف سنة، وقد دهشت من الآلة الوحيدة الموجودة في العالم- المحفوظة في المكتبة الوقفية في حلب بسورية – والتي اخترعها ابن الشاطر، وتساءلت حينها: كيف لآلة متعددة المهام متقنة الصنع أن تبقى 600 سنة بعد صاحبها، وهي صالحة للاستعمال، في حين أن أفضل آلاتنا الفلكية المعاصرة لا تصمد إلا بضع سنين فقط؟! ماذا لو كُتب لهذه الصناعة العربية أن تستمر حتى عصرنا هذا؟ كم هي الأشواط التي كانت ستقطعها البشرية في معرفتها الفلكية لو أن الخبرات العربية الإسلامية استمرت في تطويرها للآلات الفلكية؟!
لقد اعتنى العرب والمسلمون بالمؤلفات التي تتناول بالشرح والتفصيل مكونات ومبادئ عمل كل آلة فلكية على حدة، ولعل أشهر هذه المؤلفات كتاب (جامع المبادئ والغايات في علم الميقات)، لأبي الحسن المراكشي، الذي احتوى على معلومات لا تقدر بثمن عن آلات الرصد الإسلامية، و قدم فيه ضبطاً لخطوط الطول والعرض لإحدى وأربعين مدينة إفريقية تقع بين مراكش والقاهرة.
ونظراً لأهمية هذا الكتاب يتم تحقيقه حالياً في حلب والقاهرة، وترجم جزءاً منه المستشرق الفرنسي سيديو. نورد فيما يأتي قائمة بأشهر الآلات الفلكية التي اخترعها المسلمون أنفسهم (لونها أزرق)، أو التي أخذوها وطوروها عن الأمم السابقة (لونها أسود):
الصفيحة الزرقالية (الزرقالة)
اخترع هذه الآلة الفلكي الأندلسي الزرقالي (ت نحو 477هـ/1087م)، وهي تصنف ضمن الإسطرلابات التي يمكن بوساطتها رسم مسقطين مجسمين لدائرة خط الاستواء ودائرة البروج على السطح نفسه، وقد تم إحياء هذا الإسطرلاب من جديد على يد جيما الفريزي (1508-1555م)، وأطلق عليه اسم الإسطرلاب الكاثوليكي.
ذات السمت والارتفاع
وهي آلة تشبه كثيراً الإسطرلاب حتى عدَّها بعض الباحثين من أنواعه. وهي آلة تتكون من حلقة في وسطها عمود عليه ربع مجيب، وهذه الأجزاء جميعها مدرجة، وعلى الربع المجيب عضد متصلة بثقبين للرصد، وهي تساعد على تحديد سمت القبلة من أي بلد كان نحو الكعبة المشرفة. كان أول من وصف هذه الآلة العالم محمد جابر بن أفلح الإشبيلي (ت 540هـ/ 1185م) في كتابه (إصلاح المجسطي) وقد انتقلت فيما انتقل إلى أوروبا.
صندوق اليواقيت
آلة صنعها ابن الشاطر الدمشقي (القرن 14م)، وهي مكونة من ثلاث آلات موضوعة في صندوق واحد: إسطرلاب على الوجه، مزولة في الوسط، وإبرة مغنطيسية في قاع الصندوق والذي يسمى بالحك. يمكن بوساطتها معرفة الاتجاهات عامة واتجاه القبلة خاصة، وكذلك الوقت والمطالع الفلكية.
الصفيحة الشاملة
وهي من ابتكار الفلكي الأندلسي علي بن خلف (القرن 15م)، وهي عبارة عن المسقط المجسم للكرة على السطح المعامد على دائرة البروج، حيث يقطعها وفقاً لخط الانقلاب الشمسي الصيفي أو الشتوي الخاص بمداري السرطان أو الجدي.