علي محمد الهاشم
شكلت فكرة إنشاء محطة في مدار حول الأرض في الفضاء حلماً طالما داعب مخيلة عدد كبير من البشر؛ وكان المحرك الأساسي للتخطيط لريادة الفضاء. وتجلى ذلك في أفلام الخيال العلمي، فظهرت نماذج افتراضية رائعة لمحطات فضائية في أفلام عدة كسلسلة أفلام جيمس بوند، وأوديسا الفضاء (2001 و2011)، حتى توج ذلك الحلم ليصبح حقيقة مع (ساليوت1-) الروسية إبان الحقبة السوفييتية، في بداية السبعينيات من القرن الماضي، ومنها بدأت القصة مع إحدى أعظم المنشآت البشرية في التاريخ ألا وهي المحطة الفضائية.
بدأ عصر الفضاء في التاريخ البشري مع دخول الصواريخ مجال التطبيق العملي، وذلك إبان الحرب العالمية الثانية، حينما نجح الألمان في ترجمة تلك التكنولوجيا إلى وسيلة ردع، ما لبثت أن تطورت بصورة سريعة مع مرور الوقت. وخلال تلك الفترة اتجهت الأنظار ليس إلى إمطار العدو بتلك الصواريخ فحسب، بل إلى تحقيق هدف أسمى من ذلك بكثير، ألا وهو غزو الفضاء والتعرف إلى الكون الذي نعيش فيه؛ وبالفعل، كان للنازيين برنامج لغزو الفضاء، لكن الإخفاقات على جبهة القتال ما لبثت أن أنهت ذلك الطموح وهو في المخاض، لينتقل التطلع من أمة إلى أخرى، فتظفر روسيا ممثلة بما كان يعرف بالاتحاد السوفييتي بالسبق في ريادة الفضاء عام 1957، وذلك عبر إطلاق أول قمر صنعي في التاريخ، وهو (سبوتنيك)، ثم إطلاق أول رائد إلى الفضاء وهو يوري غاغارين عام 1961، فتنطلق حمى غزو الفضاء بين القطبين آنذاك: الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية. وشيئاً فشيئاً تبلورت فكرة البقاء في الفضاء، أو في مدار حول الأرض على متن منشأة من صنع بشري، هي المحطة الفضائية، التي كانت نتاج صراع تحول إلى تعاون أظهر ثماره على شكل تلك المحطة. ولعل أجمل وصف لمفهوم المحطة الفضائية ما ذكره رائد الفضاء العربي الأول الأمير سلطان بن سلمان بعد رحلته التاريخية في منتصف الثمانينيات كما جاء في كتاب (كوكب واحد.. قصة أوّل ريادة عربية للفضاء): «المحطة الفضائية عبارة عن بناء صنعي من صنع البشر؛ الهدف منه القيام بنشاطات في الفضاء الخارجي لأغراض مختلفة. وهي تتميز عن غيرها من المركبات الفضائية المأهولة بعدم وجود نظام دفع رئيسي، وهي في الغالب مجهزة كوسيلة لرسو المركبات الفضائية التي تزورها من وقت إلى آخر، واستقبالها لجلب الزوار والعلماء والمعدات والمؤن والأجهزة وقطع الغيار وغيرها من الأمور الأخرى. وتستخدم المحطات الفضائية لدراسة ظروف الحياة في الفضاء وتأثير الرحلات الفضائية في جسم الإنسان على الأمد الطويل. وتمثل هذه المحطات مركز أبحاث للعديد من الدراسات العلمية، التي تصب في مصلحة الرحلات الفضائية الطويلة على متن المركبات الفضائية والتي لا تقدر نتائجها بثمن».
ومن هنا نستخلص أهمية المحطات الفضائية التي تكمن في استخداماتها الواسعة سواء من الناحية العسكرية أو العلمية أوالمدنية، كمراقبة الأرض ودراستها من الفضاء. وقد أيقنت ذلك الدول العظمى كالولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي السابق، حتى قبل المضي قدماً في غزو الفضاء، ولهذا سعت إلى إنشائها.
المحطة الفضائية الدولية
تعتبر المحطة الفضائية الدولية أحد الأجسام الصنعية المسكونة بالبشر التي تدور في مدار ثابت حول الأرض، وهي تعد المحطة الفضائية التاسعة التي يسكنها البشر على غرار المحطات السابقة، كمحطة (ساليوت وألماز وسكاي لاب ومير).
وتتألف المحطة الفضائية الدولية من عدة وحدات موصول بعضها ببعض، وتم إطلاق أولى وحداتها إلى الفضاء عام 1998. وتحتوي المحطة على وحدة مكيفة الضغط إضافة إلى دعامات خارجية وألواح شمسية لتوليد الطاقة ووحدات أخرى. ويمكن أن تشاهد المحطة بالعين المجردة من الأرض دون الحاجة إلى استخدام تلسكوب (مقراب) لذلك.
فكرة إنشائها
يعتبر مشروع المحطة الفضائية الدولية مشروعاً دولياً مشتركاً بين خمس وكالات فضائية دولية، هي: وكالة الفضاء الأمريكية ناسا، ووكالة الفضاء الاتحادية الروسية، ووكالة الفضاء اليابانية جاكسا JAXA، ووكالة الفضاء الأوروبية إيسا ESA، ووكالة الفضاء الكندية CSA.
وتعود ملكية المحطة إلى حكومات الوكالات الآنفة الذكر، وقد قسمت المحطة إلى قطاعين رئيسيين هما: القطاع الروسي وقطاع الولايات المتحدة، ويشترك في القطاع الأخير دول عدة إلى جانب الولايات المتحدة.
ففي مارس 1993 عرض المدير العام للوكالة الفضائية الروسية يوري كوبتيف على مدير وكالة ناسا الأمريكية دانيال غولدين إنشاء محطة فضائية دولية. ليعلن بعدها فيكتور تشيرنوميردن رئيس الوزراء الروسي وألبرت غور نائب الرئيس الأمريكي في الثاني من سبتمبر عام 1993 البدء في تحقيق المشروع الجديد.
وفي العام نفسه اندمجت المحطة الروسية التي لم يكتمل بناؤها (مير) في المحطتين اللتين كان يزمع بناء كل واحدة منهما بصورة مستقلة؛ وهي الأمريكية فريدم والأوروبية المشتركة كولومبوس، لتصبح جميعها المكونات الرئيسية للمحطة المشتركة. ومنذ تلك اللحظة أطلق على المحطة رسمياً تسمية (المحطة الفضائية الدولية).
وفي عام 1996 تم إقرار هيكل المحطة الذي كان من المفترض أن يتكون من قطاعين روسي وأمريكي (بمشاركة كندا واليابان وإيطاليا والدول الأعضاء في الوكالة الفضائية الأوروبية والبرازيل).
وفي 29 يناير 1998 التقى في واشنطن مسؤولون حكوميون من 15 بلداً، ووقعوا اتفاقات وضعت إطار التعاون بين الشركاء في مجالات تصميم المحطة الفضائية وتطويرها وتشغيلها واستخداماتها، تقوم به خمس وكالات فضاء تمثل 16 دولة، وهم ممثلون عن كل من الولايات المتحدة وروسيا واليابان وكندا والدول الأعضاء في وكالة الفضاء الأوروبية، وهي بلجيكا والدنمارك وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وهولندا والنرويج وإسبانيا والسويد وسويسرا وبريطانيا. كما وقع مدير وكالة ناسا ثلاث مذكرات تفاهم ثنائية مع نظرائه في وكالات الفضاء الروسية والكندية والأوروبية.
وفي وقت لاحق من عام 1998 وقعت ناسا وحكومة اليابان مذكرة تفاهم منفصلة. وتم البدء ببناء المحطة في 20 نوفمبر 1998 بإطلاق قطاع الحمولات الوظيفي (زاريا)، ومعناها (الفجر) باللغة الروسية، وهي الوحدة الفضائية الأولى للمحطة الفضائية الدولية، وفيما بعد التحمت الحجرة الانفصالية الأمريكية (يونيتي) بها، ثم الحجرة الانفصالية الروسية (زفيزدا) عام 2000. وفي نوفمبر من العام نفسه أوصلت المركبة الفضائية الروسية سيوز TM-31 أول طاقم فضائي بشري إلى المحطة.
الغاية من إنشائها
يتم توظيف المحطة الفضائية الدولية كمنصة لأبحاث الجاذبية المصغرة والبيئة الفضائية، بحيث يقوم الطاقم باختبارات في مجال البيولوجيا والبيولوجيا الحيوية والفيزياء وعلم الفلك وعلم الطقس ومجالات أخرى؛ كما هيئت المحطة لاختبار أنظمة المركبات والسفن الفضائية والمعدات اللازمة للمهمات الخاصة بالرحلات الفضائية لكل من القمر والمريخ. وفي عام 2010 أضيف إلى المحطة مهام أخرى كالبعثات الدبلوماسية وخدمة أغراض التعليم والخدمات التجارية.
ويوجد على متن المحطة أربعة مختبرات تحتوي على أجهزة لإجراء أبحاث واسعة النطاق في مجالات مختلفة تتعلق بخواص المواد، والسوائل وعلوم الحياة، والاحتراق والتكنولوجيا الحديثة، فيما قدمت اليابان مختبر كيبو، الذي يضم حجيرة أو وحدة مكيفة الضغط، وذراعا آلية، ووحدة ثالثة هي عبارة عن منصة خارجية مكشوفة للتجارب وعربات الأغراض اللوجستية.
وساهمت روسيا بوحدتي أبحاث وأمكنة السكن الأولى للملاحين التي كانت تعرف باسم وحدة الخدمة والمجهزة بأنظمة خاصة للعيش والبقاء على الحياة، وبمنصة طاقة علمية مؤلفة من منظومة ألواح شمسية قدرتها 20 كيلوواط من الكهرباء، إضافة إلى عربات نقل لوجيستية تعرف بـ(بروغريس) ومركبة (سويوز) الفضائية لإعادة الملاحين العاملين في المحطة ونقلهم، وغير ذلك من المعدات والخبرات.
إنجازات متميزة
تخطت المحطة الفضائية الدولية المدة التي تم السكن بها من قبل طاقم بشري لتلك التي كانت للمحطة الفضائية الروسية (مير)، حيث سجلت 12 عاماً و85 يوماً من العمل في حين سجلت المحطة مير 10 سنوات (أو 3634 يوماً) وذلك في عام 2010. واحتفلت المحطة الفضائية الدولية يوم 20 نوفمبر 2008 بالذكرى السنوية العاشرة لتأسيسها، حيث تم إطلاق مجموعة من الأجزاء الوظائفية للمحطة بواسطة صاروخ روسي من طراز (بروتون) إلى الموقع المداري المخصص لها.
وفي 20 سبتمبر 2009 تم التحام أول مركبة فضاء يابانية غير مأهولة بمحطة الفضاء الدولية لتسليم 4.5 طن من السلع إلى طاقم المحطة. وهي مركبة (أتش تي في) أسطوانية الشكل يبلغ طولها عشرة أمتار وقطرها 4.4 متر، تنقل المركبة في هذه المهمة الأولى إلى رواد المحطة الأغذية ومساحيق العناية وتجهيزات في إطار التجارب لبرنامج ياباني أطلق عليه اسم (سمايلز) من شأنه أن يسمح بتقويم تأثير التلوث على الطبقة العليا من غلاف الأرض الجوي.
من المتوقع إنتاج سبعة نماذج منها فقط حتى عام 2015 تستخدم لمرة واحدة، حيث تحترق معظم أجزاء المركبة لدى عودتها من محطة الفضاء الدولية أثناء دخولها الغلاف الجوي للأرض.
و أبرزت المحطات الفضائية أخطار الشظايا الهائمة في الفضاء والتي تتكون من جراء القطع المتناثرة من الصواريخ أو المركبات الأخرى التي قد تفقد أجزاء من بدنها من جراء عملية الإطلاق أو الدخول إلى الغلاف الجوي.
مستقبل المحطات الفضائية
اكتمل إنشاء المحطة الفضائية الدولية المدارية في عام 2010، وضمت مساهمات من كل من الولايات المتحدة وكندا واليابان وروسيا والبرازيل وإيطاليا وبلجيكا والدنمارك وفرنسا وألمانيا وهولندا والنرويج وإسبانيا والسويد وسويسرا والمملكة المتحدة. وستؤدي قدرات المحطات الفضائية في المستقبل إلى اكتشافات تفيد في المهمات التي يتم القيام بها في أمكنة أبعد في الفضاء وتعود بالنفع على كل البشرية دون استثناء، وسيساهم التطور الكبير في مجال الإنسالات والمركبات المسيرة من بعد، كالجوالة (كيوريوسيتي) التي تمخر عباب المريخ حالياً في تفعيل دور تلك المحطات الذي لن يقتصر على وجود واحدة فقط على الأرض؛ بل قد تبنى مثلها في مدار حول القمر والمريخ في مستقبل ليس ببعيد.
إن من شان المحطات الفضائية أن تدعم البشرية في استكشاف الفضاء السحيق دون المخاطرة في إرسال بعثات بشرية على غرار (أبولو) التي هبطت على سطح القمر، بل سيتم إرسال مركبات إنسالية تتولى عملية بناء محطة فضائية كالمحطة الفضائية الدولية في مدار حول الكوكب المراد استكشافه (القمر أو المريخ على سبيل المثال)، ثم يتم إرسال بعثة بشرية لتسكن تلك المحطة وتعمل على إرسال إنسالات يتم التحكم فيها عن بعد إلى سطح الكوكب كي تتم دراسته، ثم الهبوط عليه إذا سمحت الظروف.
وعزز هذه الفكرة ما تم إنجازه حديثاً من نجاح اليابانيين في زراعة بعض أنواع الخضراوات القابلة للأكل، وهو ما سيسمح بإمداد رواد الفضاء في المحطة بالغذاء اللازم لبقائهم على قيد الحياة.