م. أمجد قاسم
يعد اللحم الحيواني جزءا مهما وأساسيا في النظام الغذائي للبشرية، وقد استساغ الإنسان الأول مذاق اللحوم بعد أن اكتشف النار وأكل لحوم بعض الحيوانات بعد شيها.
وتظهر الدراسات أن الإنتاج العالمي من اللحوم تضاعف ثلاث مرات منذ عام 1960؛ بسبب النمو السكاني المطرد، والارتفاع في مستوى الدخل والرفاهية في العالم بصورة عامة وفي الدول المتقدمة صناعيا بصورة خاصة، وأن صناعة اللحوم التقليدية في العالم تقدر بنحو 1.4 تريليون دولار، وأن البشر في عام 2000 استهلكوا نحو 228 مليون طن من اللحوم.
تحديات جمة
إن استمرار الطلب العالمي على اللحوم الحيوانية الصالحة للاستهلاك البشري شكل تحديا كبيرا لتوفير الكميات الهائلة المطلوبة، مع توقع تضاعف الطلب العالمي على اللحوم بحلول عام 2050 عندما سيصبح عدد السكان في العالم تسعة بلايين شخص، وما يرافق ذلك من ازدياد الطلب على الأعلاف الحيوانية واستهلاك مساحات شاسعة من الأراضي تقدر بنحو %70 من مجمل المساحة المزروعة في العالم، لزراعتها بمحاصيل تستخدم لإطعام الماشية التي تلتهم %40 من مجمل محاصيل الحبوب على الأرض، وما يستتبع ذلك من زيادة الطلب على الأسمدة والمبيدات الزراعية والمياه، وإزالة لمساحات شاسعة من الغابات في بعض الأمكنة في العالم لتحويلها إلى أراض صالحة للزراعة.
من جانب آخر فإن التوسع في تربية الماشية في شتى أنحاء العالم يؤدي إلى تفاقم مشكلة الاحتباس الحراري؛ إذ إن ملايين الرؤوس من الحيوانات وخصوصا المواشي التي يربيها البشر لذبحها وأكلها تساهم في زيادة غازات الاحتباس الحراري في الغلاف الجوي، و جزء كبير من ذلك بسبب تجشؤها. وتقدر دراسة علمية أسترالية أن %12 من مجمل انبعاثات غازات الدفيئة في البلاد ناجمة عن الزراعة وأن %70 من هذه النسبة هي من المواشي، ومن أهم هذه الغازات، النشادر وأكسيد النيتروجين وثاني أكسيد الكربون والميثان.
إضافة إلى ذلك، فإن تربية الماشية تتطلب استهلاك كميات كبيرة من المضادات الحيوية، لاسيما في المزارع ذات الكثافة الإنتاجية العالية، وهذا أدى إلى نشوء سلالات من البكتيريا المقاومة للأدوية، ووصول تلك المضادات الحيوية إلى مياه الشرب وتلويثها، عدا أمراض تصيب الحيوانات ويمكن أن تفتك بالبشر كأنفلونزا الطيور والخنازير ومرض جنون البقر وبكتيريا السالمونيلا.
حل واعد
هذه التحديات شجعت الباحثين على تطوير شكل من أشكال اللحوم لإشباع البشرية وسد حاجتها إلى ذلك النوع من الغذاء. وتعود المحاولات الأولى لتصنيع اللحوم في المختبرات إلى عام 1908 وذلك عندما أجرى الطبيب الفرنسي ألكسي كاريل – الحاصل على جائزة نوبل في الطب في عام 1912 – تجارب على لحم الدجاج واستزرعه في محلول يحوي أملاحا مغذية. وتبع ذلك تجارب كثيرة في بلدان عدة.
وكان للتقدم الكبير في مجال الخلايا الجذعية وزراعة الأنسجة في المختبرات دور مهم في ظهور اللحوم المستزرعة، فاستطاع العالم الهولندي فيليم فون إيليم في عام 1999 الحصول على براءة اختراع في مجال زراعة اللحوم وإنتاجها صناعيا، وأعقب ذلك في عام 2002 إجراء تجارب شبيهة بتمويل من وكالة ناسا لاستزراع أنسجة عضلية من السمك الذهبي لإنتاج لحوم مصنعة في المختبرات، وقد تمت زراعتها في أوساط مختلفة لمعرفة أفضل الظروف البيئية لنموها وذلك من أجل تغذية رواد الفضاء في رحلاتهم الفضائية.
وتعتبر هولندا من أكثر دول العالم دعما للأبحاث الخاصة بزراعة اللحوم، فبين عامي 2005 و 2009 أنفقت 2.6 مليون دولار لدعم الأبحاث الخاصة بإنتاج اللحوم من خلال استزراع خلايا عضلية من خلايا جذعية جلبتها من حيوانات المزارع، وقد حققت تلك الأبحاث نجاحا كبيرا.
وتعد التجارب التي أجراها الدكتور مارك بوست من جامعة ماستريخت في هولندا في عام 2009 من أهم المحاولات لإنتاج لحوم صناعية، إذ تمكن من إنتاج أول شريحة “برغر” في العالم في المختبر من خلايا جذعية لبقرة، وقد نمت وتحولت إلى شرائح من العضلات في ظروف صناعية.
تقنيات خاصة
تتعدد طرق إنتاج اللحوم في المختبرات، ومن أهمها طريقة النمو المحفز للأنسجة العضلية التي يتم أخذها من كائن حي، والتي تزود فيها الأنسجة العضلية التي يتم الحصول عليها من المواشي بحاجتها من المواد الغذائية، وتعد هذه الطريقة صعبة ويتعذر من خلالها إنتاج نسيج سميك.
أما الطريقة الثانية فتعرف بالهندسة الخلوية النسيجية، وهي تنتج نسيجا يشبه إلى حد كبير النسيج الطبيعي، وفيها تتم زراعة أنسجة عضلية مع خلايا جذعية تعمل على تنمية شرايين وأوردة وخلايا عصبية، ومن ثم يتكون نسيج متكامل يحاكي تماما النسيج الطبيعي، وهذه الخلايا يتم الحصول عليها من خزعة صغيرة من الحيوان.
ومكنت الأبحاث الخاصة بالخلايا الجذعية الباحثين المهتمين بإنتاج اللحوم الحيوانية صناعيا من تحويل عدد من الأنسجة الحيوانية، وتعتبر الخلايا الجذعية التي تعرف باسم الخلايا التابعة من أفضل أنواع الخلايا الجذعية التي تكون في جسم الكائن الحي وتعمل على تجديد الأنسجة التالفة. وما يميز الخلايا الجذعية التي توجد في الكائنات الحية المتعددة الخلايا قدرتها على التكاثر عن طريق الانقسام الميتوزي، إذ تتحول إلى أنواع محددة من الأنسجة المتخصصة في الكائن الحي.
واستطاع الباحثون تطوير تقنيات خاصة لإنتاج اللحوم صناعيا من الخلايا الجذعية، عبر وضعها في محاليل خاصة تحوي العناصر الغذائية اللازمة لنمو الخلايا، مع توفير الظروف الفيزيائية والكيميائية الملائمة لنمو تلك الأنسجة، كالتحفيز الكهربائي والتحريك وضبط درجة الحرارة.
اللحوم والأمراض
تتميز اللحوم المصنعة بأنها تخلو من العوامل المسببة لبعض الأمراض المرتبطة بالدهون المشبعة والكوليسترول والتي لها علاقة بأمراض القلب والشرايين. ويقول الباحثون إنه من خلال عملية التعديل الجيني للحوم المصنعة، فإنها ستكون قادرة على زيادة مستوى الدهن المفيد للجسم ( أوميغا 3 )، وخالية من الدهون الضارة، مع إمكانية تحسين نوعية تلك اللحوم وزيادة محتواها من الفيتامينات والمعادن المفيدة للجسم.
وتلك اللحوم تكون خالية من الملوثات البكتيرية والطفيليات التي تصيب في العادة اللحوم الحيوانية، وتتسبب في إصابة البشر بالعديد من الأمراض إذا لم يتم طهيها بصورة سليمة للقضاء على الكائنات الدقيقة فيها المسببة للأمراض.
من جانب آخر، إن تربية الحيوانات والدواجن بهدف ذبحها يقابل في عدد من الدول بانتقاد شديد، فملايين المواشي والأبقار والطيور والدواجن تقبع في حظائر ضيقة وتتعرض لظروف قاسية ويتم معاملتها بشكل وحشي وتسمينها قسريا من أجل ذبحها أو الحصول على حليبها وبيضها. وقد تولت جمعيات الرفق بالحيوان في شتى أنحاء العالم الدفاع عن تلك الكائنات، وألزمت كثيرا من حكومات العالم بتحسين ظروف معيشة الحيوانات فيها وطرق ذبحها، كما دعمت الأبحاث العلمية التي تهدف إلى إنتاج اللحوم صناعيا والكف عن تربية الحيوانات بهدف ذبحها والحصول على لحمها.
نحو لحوم مصنعة مثالية
يسعى الباحثون إلى جعل اللحوم المصنعة تبدو – إلى حد كبير – مشابهة للحوم التقليدية من حيث اللون والمذاق والرائحة. وقد جرت محاولات لإنتاج لحوم مصنعة ذات لون أبيض، ثم تم التوصل إلى جعل اللحوم تبدو باللون الأحمر المشابه للحوم الطبيعية وذلك بإضافة مركبات طبيعية من مادة الميوغلوبين. ويوضح الباحثون في هذا المجال أنه إذا لم تكن اللحوم المصنعة تبدو مثل اللحوم الطبيعية، وإذا لم يكن لها مذاقها الطبيعي، فإنها لن تكون بديلا صالحا.
إن تقبل الناس للحوم المستزرعة يعد هدفا صعب التحقق، وقد أظهرت دراسات عدة عدم ترحيب معظم الأمريكيين والأوروبيين بها، بل نشأت في ألمانيا حركات شعبية مطالبة بمقاطعتها، مما يجعل مهمة تسويقها صعبة، وربما تحتاج إلى مدة زمنية طويلة لكي يستسيغها الجمهور ويتقبلوها على موائدهم. >