الغلوبيولينات المناعية.. الأجسام المضادة في خدمة البشر
تؤثر المضادات الحيوية في الأجسام الغريبة التي تدخل الجسم بعدة طرق؛ فقد تلتحم معها فتحدث تفاعلات بيولوجية تؤدي إلى تدميرها، وقد تحيد نشاطها السمي، وقد تلازمها تمهيداً لابتلاعها، وقد ترسبها أو تحللها
أسعد الفارس
كاتب علمي، ومساعد أبحاث في معهد الكويت للأبحاث العلمية سابقاً، الكويت
يعج المحيط الذي نعيش فيه على سطح الأرض بالبكتيريا والفيروسات وبعض السموم والمواد الضارة فيسبب بعضها أمراضا مميتة للحيوانات والنباتات، في حين نجد معظم بني البشر يمضون عمرهم بصحة جيدة، وإذا عانوا مرضا ما فلمدة قصيرة ثم يتماثلون للشفاء. والسبب في ذلك هو أن لكل مخلوق راقٍ جهازه المناعي الذي يدافع عنه، كخلايا الدم البيضاء وجزيئات البروتينات المناعية الخاصة المعروفة بالغلوبيولينات المناعية التي تعرف بالأجسام المضادة، وبعض الأعضاء والأجهزة التي تدعم عمل المناعة.
وعلى الرغم من وجود مركبات وآليات كثيرة تؤدي دوراً مهماً في الدفاع عن الجسم فإن مكونات الجهاز المناعي الأساسية هي فئات متنوعة من خلايا الدم وبعض الأعضاء مثل: الغدة التيموسية Thymusونخاع العظام، والطحال، والعقد الليمفاوية، والبروتينات المنحلة بالبلازما، وسوائل الجسم، والغلوبيولينات المناعية. وعلى هذا الأساس يمكن توضيح الاستجابة المناعية بإحدى أو بكلتا الآليتين التاليتين: الاستجابة المناعية بواسطة الخلايا الحية، والاستجابة المناعية بواسطة جزيئات بروتينية تدعى الأجسام المضادة، وهذه الأخيرة هي الغلوبيولينات المناعية ذاتها. والسؤال المطروح دائما: كيف يمكن لهذه الأجسام المضادة أن تتصدى لملايين الفيروسات، والبكتيريا، والسموم، والمواد الغريبة التي تدخل الجسم، فتدمرها وتقضي عليها ببساطة متناهية؟!
المناعة الخلوية
على الرغم من أن خلايا الدم البيضاء لا تشكل أكثر من 1% من عموم خلايا الدم، فإنها تحوي بلايين الخلايا المختلفة في الشكل والحجم وشكل النواة، ومحتويات السيتوبلازم، فالخلايا البيضاء الحبيبية تفرز الهستامين Histamine في مكان الجروح فتساهم بحدوث الالتهاب. وهناك الخلايا الملتهمة التي تهاجم الجسم الغازي، فتدخله في فجوة هاضمة في جوفها وتهضمه. وخلايا الدم البيضاء الملتهمة تكون ثابتة ومتحركة، فالثابتة تقبع في بطانة الكبد والعقد الليمفاوية ونسج الجسم، لتنقي الليمفاويات وسوائل الجسم من الأجسام الغريبة، والملتهمات المتحركة تتحول إلى خلايا ملتهمة كبيرة تلتهم البكتيريا، أو تعدل سمومها بمفرزاتها حيثما وجدت. ولعل نشاط هذه الخلايا ومواجهتها للمواد الدخيلة الغريبة يحرض استجابة مناعية خلوية أخرى، إذ تقدم هذه الخلايا الملتهمة الكبيرة المواد الغريبة لخلايا الدم البيضاء الأخرى التي تدعى الخلايا الليمفاوية، لذا فهي تعد حجر الزاوية في الاستجابة المناعية وتكون بنوعين: الخلايا التائية والخلايا البائية.
فالخلايا التائية البدائية تهاجر من نقي العظم إلى الغدة التيموسية أو السعترية Thymus حيث تنضج وتختص بالدفاع عن الجسم. أما الخلايا البيضاء البائية فتنشأ من نقي العظام وفي كبد أجنة الثدييات الأخرى، ثم تتمركز في الأنسجة الليمفاوية للعقد الليمفاوية والطحال والأحشاء وفي اللوزتين. وعندما تثار بوجود البكتيريا أو السموم أو الفيروسات أو المواد الغريبة فإنها لا تهاجمها مباشرة ولكن تفرز بروتينات مناعية متخصصة هي الغلوبيولينات. وهذه المواد تتعامل مع الجسم الغريب. وهناك نوع ثالث من الخلايا الليمفاوية يدعى الخلايا القاتلة (NK)، وهي تهاجم فيروسات محددة، وأنسجة ورمية مصابة بالفيروس، أو الخلايا السرطانية، وهناك خلايا كابتة تحول دون تسارع انقسام الخلايا البائية خشية التفريط بالعمل.
إن الاستجابة المناعية الإفرازية تعتمد على إفراز الأجسام المضادة، أما المناعة عن طريق المكونات الخلوية فترتبط بالبناء الهندسي للمواد الموجودة على أغلفة الخلايا وسطحها. وعلى الرغم من التداخل بين الآليتين فإن للمناعة الخلوية أهمية خاصة في رفض أو قبول الأنسجة والأعضاء المزروعة، وفي التعرف والتصدي للعديد من الفيروسات والطفيليات. ويتطلب ذلك تمييز الخلايا الصديقة من الخلايا الغريبة أو المواد الغريبة بواسطة مركب نوعي يدعى مركب الائتلاف النسيجي (M.H.C)، وهو يتحدد نوعيا بواسطة جينات مشفرة. والخلايا البيضاء المدافعة والمواد المضادة تميز بين الخلايا الصديقة ومواد الجسم عن غيرها من الخلايا الدخيلة والمواد الغريبة.
مولدات الضد
إن الخلايا والأجسام الغريبة والسموم التي تدخل وتثير الاستجابة المناعية تدعى مولد الضد Antigens. وإذا أفرزت الخلايا البائية الأضداد فإنها تفرز الضد الذي يتخصص بنوعية الجسم الغازي أو بمولد الضد والتعرف عليه وإصابته دون غيره، وانطلاقا من مولد الضد تبدأ الاستجابة الدورية على النحو التالي:
تلتهم الخلايا البلعمية مولد الضد أو الجسم المهاجم، فتهضمه جزيئا، وتتدخل مواده في تركيب بروتين الإتلاف النسيجي الموجود على السطح، فتتعرف عليه الخلية التائية بدورها فيتم تنشيطها، ومن ثم فإنها تنشط الخلية البائية التي تباشر عملها. وهذه الأخيرة تتضاعف وتنقسم فتعطي خلايا فيها ذاكرة تحتفظ بنوعية الجسم المهاجم، وهذا التنشيط يتم بواسطة مادة تدعى الليمفوکین، كما تنقسم لتعطي أنسالاً عديدة من خلايا بلازمية تفرز كميات من الأجسام المضادة قبل أن تموت. والجسم المضاد يرتبط بمولد الضد فيثير الخلايا الملتهمة لتلتهمه من جديد وهكذا. وإذا ما هاجم الجسم الغريب الجسم البشري مرة أخرى فإن الاستجابة تكون هائلة لأن الجسم يكون قد تعرف عليه من قبل وأصبح لديه خبرة بواسطة الخلايا ذات الذاكرة. ولهذا فإن الاستجابة الأولى تدعى الاستجابة الأولية، والاستجابة الثانية تكون قاضية وعنيفة، وهذا هو جوهر المناعة.
تؤثر المضادات في الأجسام الغريبة التي تدخل الجسم بعدة طرق؛ فقد تلتحم معها فتحدث تفاعلات بيولوجية تؤدي إلى تدميرها، وقد تحيد نشاطها السمي، وقد تلاصقها أو تلازمها تمهيداً لابتلاعها من قبل الملتهمات، وقد ترسبها أو تحللها. لكن هل الأجسام المضادة من نوع واحد وما أهميتها النوعية؟!
تركيب الغلوبيولينات المناعية
هناك أنواع مختلفة من الغلوبيولينات المناعية، وهي من طبيعة بروتينية. ولما كان عدد مولدات الضد يتجاوز الملايين، فإنه عندما يتعرض فرد واحد لمثل هذا العدد من مولدات الضد يصنع جسمه ملايين الأجسام المضادة ذات الخصوصية العالية في التمييز. ويمكن للأجسام المضادة تمييز مولدات الضد على كثرة أنواعها من خلال هندسة وتركيب الجسم المضاد: يرمز للجسم المضاد اختصارا (Ig) وهو من الغلوبيولينات ذات الطبيعة البروتينية المتنوعة. إن تنوع الشيفرة الوراثية في خلايا الأم المنشئة يؤدي إلى تنوع البروتين الذي تصنع منه الأجسام المضادة، وأحد هذه الأجسام المضادة له شكل الحرف Y وتبين أنه يتكون من أربع سلاسل: اثنتين تعرفان بالسلسلتين الثقيلتين، وأخريين تعرفان بالسلسلتين الخفيفتين. ترتبط السلاسل الثقيلة ببعضها وبالسلاسل الخفيفة بروابط من ثنائي الكبريتيد، فتنتظم هذه السلاسل بأذرع تأخذ شكل حرف “Y” في الجسم المضاد، بحيث تتألف كل من الذراعين العلويتين من هذا الحرف من سلسلة خفيفة وجزء من سلسلة ثقيلة، فتسمح منطقة التمفصل للذراعين بالحركة، في حين تتكون الساق من بقية السلسلتين الثقيلتين.
والقسم الكبير من هذه السلاسل هو بشكل وحدات ثابتة التركيب والبناء الهندسي. وأطراف الأذرع العليا المتقابلة تكون أشبه بفرعي الملقط، فالسطح الداخلي لفرعي الملقط يتنوع ويتغير ليتناسب مع بنية الجسم الغريب المهاجم. وهكذا تحدد المناطق المتغيرة من الجسم المضاد الخصوصية العالية لهذا الجسم، وتحدد المناطق الثابتة النوع العام للجسم المضاد.
الخلايا ذات الصواري
وجزيئات الجسم المضاد IgE موجودة على سطح خلايا حبيبية تدعى ذات الصواري، وهي متوفرة في النسيج الضام، ولاسيما في الجلد والعقد الليمفاوية والأمعاء والرئتين وأغشية العين والأنف والفم. فعندما تصل أو تحتك الجزيئات المحسسة، كالغبار وشعر القط وحبيبات الطلع والعوامل الأخرى مع الجزيئات IgE الموجودة على الخلايا ذات الصواري في الرئة أو النسيج الرغامی (وهذه الخلايا تحتوي على حويصلات غنية بالهيبارين الذي يساعد على منع تخثر الدم، والهستامين الذي يزيد من قابلية النفوذ والرشح في جدران الأوعية الدموية الشعرية)، تنفجر الحويصلات الحاوية على تلك المواد، فتحدث الصدمة التحسسية، وترتشح السوائل من الشعيرات إلى تجاويف الأنسجة، فتتورم أنسجة الجهاز التنفسي ويحدث السعال والعطاس وإفراز المخاط ويختل ضغط الدم، ويحدث الصفير الحاد وصعوبة التنفس وقد تحدث حكة وتهيج واحمرار للجلد. وقد تحدث الصدمة التحسسية بواسطة سموم لدغ الحشرات، أو العقاقير. وتبشر الأبحاث المعاصرة بنتائج طبية في تجريب مواد تقمع عمل المضاد IgE. وبقمعها قد يتم القضاء على داء الحساسية في السنوات القليلة المقبلة.
وقد ينهار الجهاز المناعي فتنتج عنه مشكلات عدة كمرض الوهن العضلي. وقد يكون لالتهاب المفاصل علاقة باضطراب الجهاز المناعي. غير أن التحدي الكبير الذي يعطل عمل الجهاز المناعي هو انتشار الأمراض التي تسبب نقص المناعة كالإيدز. وسبب الإيدز فيروس يهاجم الملتهمات الكبيرة من خلايا الدم البيضاء ويبطل دورها المناعي، ويقتل الخلايا التائية المساعدة، ويعطل الخلايا البائية عن إفراز المواد المضادة، فيصبح الجسم مرتعاً للبكتيريا والفيروسات والطفيليات والسموم، لأن الجهاز المناعي يكون عندها قد أصبح عاجزا عن المقاومة.