د. محمد أحمد عنب
أستاذ الآثار والحضارة الإسلامية المساعد، كلية الآثار، جامعة الفيوم ، مصر
برز في تاريخ الحضارة الإسلامية علماء تركوا بصمات عظيمة في صرح الحضارة الإنسانية في مجالات شتى، من أهمها المجال الطبي الذي بزغ فيه عدد كبير من الأطباء في مناطق عدة كانت بلاد الأندلس إحداها. وقد تميز أطباء الأندلس بإنجازات عدة، منها سبقهم في مجال مواجهة الأوبئة الذي يعرف حاليا بالطب الوقائي. وقد ألّفوا كتبا ورسائل في الأوبئة وأسبابها وطرق علاجها ومكافحتها. ومن أبرز هؤلاء الأطباء الطبيب والأديب محمد بن علي الشّقوري الذي كان من رواد الطب الوقائي في القرن الثامن الهجري.
مؤلفاته الطبية
أمدّ الشّقوري المكتبة العلمية الطبية بمؤلفات قيمة، منها (تحفة المتوسّل وراحة المتأمل) الذي قسّمه إلى ثلاثة أقسام: يتناول الأول علاج أمراض المعدة؛ والثاني أنواع المسهّلات؛ والثالث نظما خاصة للعجائز وكبار السن. ومن مؤلفاته أيضا رسالة عن وباء الطاعون بعنوان (تحقيق النبأ في أمر الوباء)، ولم يصلنا منها سوى مختصر الرسالة الذي سمّاه بـ (النصيحة)، وقدّم من خلالها حلولاً مهمة للوقاية والعلاج من الأوبئة.
وقد عاصر الشّقوري وباء الطاعون الذي اجتاح عددا من دول العالم ووصل إلى الأندلس عام1347م، وكان له انعكاسات جسيمة على المجتمعات بسبب عدد الوفيات التي خلّفها، لذا وصفته المصادر التاريخية بالطاعون الأسود أو الموت الأسود. وعاصر هذا الوباء المؤرّخ ابن خلدون (1332-1406م) وسجلّ وصفًا دقيقًا له بقوله :” ما نزل بالعمران شرقًا وغربًا في منتصف هذه المائة الثامنة من الطاعون الجارف الذي تحيف الأمم وذهب بأهل الجيل وطوى كثيرًا من محاسن العمران ومحاها”، كما سجّل عدد من أطباء الأندلس مؤلّفات ورسائل مهمة تعد الأولى من نوعها في تفسير هذا الوباء وأسبابه وآليات علاجه، ومنهم أحمد بن خاتمة الأنصاري(1333-1368م) في كتابه (تحصيل غرض القاصد في تفصيل المرض الوافد)، ولسان الدين ابن الخطيب(1313-1374م) في كتابه (مقنعة السائل عن المرض الهائل).
رسالة الشقوري
تكمن أهمية هذه الرسالة في كونها تعرض بأسلوب أدبي رائع التشخيص الدقيق لوباء الطاعون وأسبابه، وتوضّح أنّ هذا الوباء ينتقل بالعدوى عن طريق الجراثيم، وتدعو إلى ضرورة عزل المصاب بالوباء درءاً لانتشار العدوى، وهو بذلك يضع قواعد وأصول الحجر الصحي للحدّ من انتشار الوباء؛ تلك القاعدة التي أصبحت من النصائح العلمية الأساسية المتبعة في العصر الحديث.
وأوصى الشقوري بوجوب التخلّص من الثياب الموبوءة لخطورتها في نقل العدوى، وبضرورة الالتزام بآراء وتعليمات الأطباء وأهل العلم، وعدم الانسياق وراء دعوات غير المتخصّصين كالعطّارين بقدراتهم على علاج هذا الوباء، كما أوصى بعدم أخذ أي دواء دون استشارة الأطباء.
وخصّص الشّقوري في رسالته فصلاً للدواء والعقاقير، وقدّم فيه بعض الملاحظات والضوابط، وأوضح الأدوية المناسبة التي تحفظ البدن وتقيه من الوباء. وتناول في فصل آخر كيفية إصلاح الهواء باعتباره المسبّب الرئيسي لهذا الوباء؛ فتلوّث الهواء بالوباء ينقله من مكان لآخر ومن ثم يؤدي إلى انتشار الوباء، لذا ينصح بضرورة تبخير الهواء باستمرار بمواد مختلفة حسب طبيعة كل منطقة، فينصح ببخور الصندل أو الكافور في المناطق الحارة، وببخور الكندر والسندروس في المناطق الباردة.
ودعا إلى التعرّض لأشعة الشمس وأكد فائدته للوقاية من الوباء، وخصّص فصلاً للأغذية والأشربة المفيدة لجسم الإنسان ومناعته، وكذلك الأغذية والأشربة الضارة لجسم الإنسان.
لقد قدم الشّقوري وغيره من العلماء والأطباء الأندلسيين نماذج مشرّفة للحضارة الإسلامية، وجاءت دراساتهم من الدراسات الفريدة والأصيلة من نوعها في الأمراض الوبائية، واستطاعوا وضع الحلول العلمية والطبية لمنع انتشار مثل هذه الأوبئة ومكافحتها في وقت كانت فيه أوروبا تعيش حالة من الفوضى والجهل، وقدّموا نصائح طبية مناسبة لكل الأزمنة، ربما لعلمهم باحتمال تجدد مثل هذه الأوبئة في أوقات مختلفة.
الطب الوقائي
الطب الوقائي هو فرع من علوم الطب يعتني بالإجراءات والتدابير التي تتبع في مجال الصحّة العامة، ويهتم بدراسة وإيجاد وتطبيق سبل وقاية أفراد المجتمع من خطر الإصابة بالأمراض ولاسيما الأمراض المعْدية، وكذلك التدخل السريع حين حدوثها لمنع انتشارها والتقليل من أضرارها. ومفهوم الطب الوقائي بمعناه الشامل نصّت عليه معظم الأديان السماوية، ومنها الدين الإسلامي الذي وضع ضوابط الوقاية من الأمراض قبل وقوعها، والعلاج منها بعد وقوعها، فقبل وقوعها يكون بالطهارة والنظافة، والمحافظة على البيئة، والطعام والشراب الصحي، والوقاية من انتشار الأمراض والأوبئة المعْدية، حرصًا على سلامة صحة الإنسان والمجتمع والبشرية كلها؛ لأنّ الأمراض المعْدية إذا انتشرت في مجتمع فإنها لا تخص أبناء مجتمع دون آخر، بل تؤثّر في حياة جميع الناس. وأمّا بعد وقوعها فيكون بالتداوي عامة، والحجْر الصحي المناسب.