نورا الشريف
كاتبة علمية (اليمن)
- لو أسفرت بعض التجارب الطبية غير الأخلاقية عن بيانات سليمة علمياً يمكن الاستفادة منها، هل من المبرر استخدام هذه المعرفة وتعميمها؟
لطالما كانت مهنة الطب أبوية، يقدم فيها الأطباء النصح للمرضى الذين يطبقون تعليماتهم بحذافيرها، ولم يكونوا يخالفونها إطلاقا، حتى إنهم لم يكونوا يطالبون بأي حقوق لهم، ولا يدرون أنهم يشاركون في بعض الأحيان في تجارب علمية معينة.
وفي العقود الستة الماضية أعادت الأخلاق الطبية الحديثة صياغة الممارسة الطبية بطرق ربما لا يدركها العديد من الأطباء، وكانت التغييرات عموما نحو الأفضل.
وتاريخيا، ربما كانت أولى الحالات المعروفة في التجارب الطبية غير الأخلاقية هي تطوير الطبيب الإنجليزي إدوارد جينير Edward Jenner للقاح الجدري في عام 1796، حينما حقن طفلة تبلغ من العمر ثماني سنوات بصديد مأخوذ من عدوى جدري البقر، ثم عرّضها عمداً لمصاب حامل للجدري.
وعلى الرغم من أن تجربة جينير كانت لحسن الحظ ناجحة، فإن طريقة تعريض الطفلة لمرض مميت تُعتبر في الوقت الحاضر غير مقبولة أو قانونية.
تجارب مؤلمة
بعد الحرب العالمية الثانية، قُدم 23 طبيباً نازياً إلى العدالة في نورمبرغ لإجرائهم أبحاثاً طبية على أشخاص في معسكرات الاعتقال لم يكن لهم رأي فيها. تضمنت هذه الأبحاث الإخصاء الإجباري وتجربة انخفاض درجة الحرارة والتعرض لأمراض مثل السل. وكانت هذه التجارب بمثابة أعمال تعذيب أُجبر فيها السجناء على التعرض للخطر، وعانوا من التشويه والألم، وكان لمعظم التجارب نتائج مميتة.
ومن التجارب المؤلمة تلك التي أجراها الدكتور جوزيف منيجيل الذي كان مهتماً بالتوائم، وغالباً ما كان يجري أبحاثاً مؤلمة عليهم. كانت رينات جوتمان واحدة من توائم منيجيل، وقد خضعت لتجارب عديدة، منها حقن تسبب القيء والإسهال، وسحب الدم من رقبتها.
ووفقاً لكتاب سانا لوي Sana loue (أخلاقيات البحث: النظرية والتطبيق) كان سجن هولمزبيرغ الواقع في فيلادلفيا من أشهر السجون في خمسينات القرن العشرين، وكانت تجرى فيه تجارب على السجناء. وفيه على سبيل المثال درس طبيب الأمراض الجلدية ألبرت كليغمان فعالية علاج جديد لحب الشباب، وعرّض السجناء لمواد كيميائية خطرة مثل الديوكسين، وأجرى تجارب على نزع الأظافر لمعرفة كيفية استجابة الأصابع لسوء المعاملة، واختبر عددا من المهدئات والمضادات الحيوية ومعاجين الأسنان على السجناء.
وكانت المشاركة في هذه التجارب إحدى الطرق التي يمكن للسجناء من خلالها كسب المال، كما كانت وسيلة أخرى للسيطرة عليهم. وكانت ممارسة استخدام السجناء في الدراسات واسعة الانتشار؛ لأنه كان يُنظر إليها على أنها تقدم لهم وسيلة لسداد ديونهم للمجتمع.
والسجناء من الفئات الضعيفة التي لا تمتلك عدم الموافقة على أي تجربة؛ لأن حياتهم مسيطر عليها من الآخرين، فهم مجبورون ومقهورون لذلك اُستبعدوا من التجارب البشرية فيما يسمى تقرير بلمونت 1979 الذي تضمن المبادئ التوجيهية الأخلاقية للبحوث العلمية، وجعل الموافقة المستنيرة للفرد المشارك في التجربة قانوناً.
تجربة توسكيجي
هناك أمثلة على أبحاث تديرها حكومات استغلت ضعف المشاركين لضمان مشاركتهم فيها، وأدت إلى تعريض الأشخاص محل الدراسة إلى أضرار جسيمة مثل تجربة توسكيجي Tuskegee Experiment. وتعد هذه التجربة من أشهر التجارب غير الأخلاقية، وتعرف رسمياً باسم دراسة توسكيجي لمرض الزهري غير المعالج في الذكر الزنجي، وأجرتها دائرة الصحة العامة الأمريكية ومعهد توسكيجي في ألاباما. بدأت تلك الدراسة في عام 1932 حينما لم يكن هناك علاج معروف لمرض الزهري وامتدت حتى عام 1973. وكان هدفها تتبع وتعقب التطور الطبيعي والكامل لمرض الزهري.
راقبت الدراسة 600 رجل أسود منهم 201 غير مصابين بالمرض. ومن أجل تحفيز المشاركين الذين كان معظمهم مزارعين ولم يزوروا أي طبيب، قُدمت لهم وجبات غذائية وأجريت لهم فحوص طبية مجانية، وكانت تُعطى للمشاركين أدوية وهمية مثل الأسبرين والمكملات الغذائية على الرغم من أن البنسلين أصبح العلاج الموصى به لمرض الزهري في عام 1947.
ولم يتم إبلاغ المرضى بما يجري التحقيق فيه، وبدلا من ذلك قيل لهم إنهم سيحصلون على علاج “الدم الفاسد”، وهو مصطلح محلي تقول مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها إنه يستخدم لوصف أمراض كثيرة بما في ذلك الزهري وفقر الدم.
وفي منتصف الستينات اكتشف الباحث في الأمراض التناسلية ميتر بوكستون دراسة توسكيجي، وأعرب عن مخاوفه لرؤسائه من أنها غير أخلاقية. ورداً على ذلك شكّل مسؤولو الصحة العامة الأمريكية لجنة لمراجعة الدراسة لكنهم اختاروا في نهاية المطاف مواصلتها بهدف تتبع المشاركين حتى وفاتهم جميعاً. وأجريت عمليات تشريح وتحليل بيانات للمشروع. لكن بوكستون سرب القضية إلى صديق صحافي نقلها بدوره إلى صحفي من وكالة أسوشييتدس برس نشرها في يوليو 1972، مما أثار غضبا جماهيريا أدى إلى إيقاف الدراسة بقوة القانون.
وبحلول ذلك الوقت، كان 28 مشاركاً قد لقوا حتفهم بسبب الزهري وقضى 100 شخص آخرين نحبهم بسبب مضاعفات ذات صلة، كان آخرهم في عام 2004، وتم تشخيص إصابة نحو 40 زوجاً بالمرض، ونُقل المرض إلى 19 طفلاً عند الولادة. وذكرت لجنة استشارية لمراجعة دراسة توسكيجي أن المعرفة المكتسبة منها كانت ضئيلة مقارنة بالمخاطر التي تعرض لها المشاركون فيها.
بعد ذلك رفعت دعوى قضائية جماعية نيابة عن المشاركين وعائلاتهم، وتم التوصل إلى تسوية بقيمة 10 ملايين دولار. ولإجراء مصالحة عرقية أصدر الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون اعتذارا في عام 1997.
آراء متباينة
تعد كل التجارب السابقة شكلا من أشكال التعذيب الجماعي والقتل، لذا فإن الحكم الأخلاقي عليها واضح. لكن ماذا لو أسفرت بعض التجارب الطبية غير الأخلاقية عن بيانات سليمة علمياً يمكن استخدامها بشكل جيد، هل من المبرر استخدام هذه المعرفة؟
في الواقع، كانت بعض البيانات من التجارب النازية سليمة علمياً بما يكفي لتكون مفيدة، ومنها تجارب انخفاض حرارة الجسم التي يغمس فيها البشر في الماء المثلج حتى يفقدوا الوعي (ومات الكثير منهم). فهذه التجارب حددت معدل تبريد البشر في الماء البارد وقدمت معلومات حول الوقت المناسب الذي تكون فيه إعادة التسخين (التدفئة) مناسبة.
واستُشهد ببيانات وردت في التجارب النازية في أوراق علمية نشرت ما بين خمسينات وثمانينات القرن العشرين، لكن دون الإشارة إلى طبيعتها. ويرى بعض الباحثين أنه إذا كان من الممكن جلب الخير للبشر حاليا وفي المستقبل نتيجة استخدام البيانات، عندها سيكون استخدامها مبرراً بالتأكيد، ففي نهاية المطاف لا يمكن إلحاق المزيد من الضرر بأولئك الذين فقدوا حياتهم.
في أواخر الثمانينات من القرن العشرين، جادل الباحث الأمريكي روبرت بوزوس بأن بيانات انخفاض درجة الحرارة في التجارب النازية كانت حاسمة ومهمة لتحسين طرق إنعاش الأشخاص الذين أُنقذوا من المياه المتجمدة بعد حوادث بحرية، لكن مجلة نيوإنغلاند الطبية رفضت اقتراحه بنشر البيانات علناً.
كما أن البيانات التي أنتجها النازيون من تجارب غاز الفوسجين المميت كانت محل نظر، ورُفضت من وكالة حماية البيئة الأمريكية. على الرغم من أنها ربما كانت ستساعد على إنقاذ أرواح أولئك الذين تعرضوا له عن طريق الخطأ.
من ناحية أخرى، يرى بعض علماء الأخلاق ضرورة عدم استخدام البيانات الناتجة من هذه التجارب، لأن استعمالها يرسل رسالة مفادها أن التجارب لم تكن سيئة جدا بعد كل ذلك، بل وتشجع الأطباء ضيقي الأفق أخلاقياً على إجراء تجاربهم غير الأخلاقية. ويرى أولئك العلماء أن السلوك السيىء لا بد أن ينتج علماً رديئاً، لذا لا ينبغي حتى التفكير في الأمر، ناهيك عن الآثار النفسية والشعور بالأسى والحزن الذي ينتاب ذوي المشاركين في التجارب عندما يعلمون باستخدام بياناتهم.
ويشدد علماء آخرون على ضرورة أن تكون التجارب ذات قيمة اجتماعية وصالحة علميا، وعلى اختيار الأشخاص بإنصاف واحترام، والموازنة بين المخاطر والفوائد التي يجنيها المشاركون والفوائد التي تعود على المجتمع، على أن تكون هناك مراجعة مستقلة لأخلاقيات كل تجربة.