م/ أحمد العيسى
منذ أن أطلق المخترع الألماني يوهان غوتنبرغ في منتصف القرن الخامس عشر الميلادي طابعته المتواضعة في بلده الأم ، شهدت صناعة الطباعة تطورات كبيرة كان آخرها الطباعة الثلاثية الأبعاد التي أخذت تطبيقاتها المتنوعة تنتشر في أنحاء العالم لتفتح آفاقا جديدة في مختلف المجالات.
وإذا كان هنالك جدل تاريخي في زمن بدء الطباعة الحقيقية ، ونسبتها إلى الكوريين أو الصينيين أو غيرهم من أبناء الحضارات ، فإن تاريخ الطباعة الثلاثية الأبعاد يمكن العودة به إلى أواخر ثمانينيات القرن العشرين، عندما اخترعت شركات ناشئة وهيئات أكاديمية لدى جامعة تكساس، في أوستن خصوصا، آلات قادرة على بناء نماذج ثلاثية الأبعاد لتصاميم رقمية في غضون دقائق. وعلى مدى عقود، حقَّقت تلك الآلات ومثيلاتها، التي ناهزت تكلفة الواحدة منها في البداية 000 175 دولار، شهرة واسعة بسبب مقدرتها على مساعدة المخترعين والمهندسين على إنتاج نماذجهم الأوَّلية بسرعة وبتكلفة منخفضتين نسبيا.
ومنذئذ، اتَّخذت الطباعةُ الثلاثية الأبعاد مسارَين اثنين. في الأول، يستطيع الهواة وأصحاب الشركات الناشئة إعداد نماذج بلاستيكية باستعمال آلات تساوي تكلفتها 2000 دولار أو أقل من ذلك. وهذه الآلات تمكِّن مستعمليها من ابتكار أشياء جديدة، فهي تقانة أظهرت وجه الشبه بين الطباعة الثلاثية الأبعاد والحواسيب الشخصية. وفي الطرف الآخر، تطوِّر شركات كبرى أساليبَ متقدِّمة صناعيةَ المستوى، لإنتاج قطع غيار للطائرات والأجهزة الطبيّة. إلا أن تكاليف الآلات اللازمة لإنجاز تلك الأعمال تزيد على 000 30 دولار، إضافة إلى ضرورة وجود طابعات ليزرية إلى جانبها تصل تكلفتها إلى مليون دولار وتُستعمل لصنع منتَجات معدنية عالية الجودة. وفي هذه الطابعات يمكن أن تُستعمل بوليمرات أو معادن أو مواد أخرى على شكل سوائل أو مساحيق. وتُحضَّر نماذج الأشياء التي ستُصنع على صورة ملفّات رقمية في البداية تمكِّن المصمِّمين من إدخال تعديلات على تصاميمهم قبل البدء بعملية البناء، من دون أن يكون لذلك تأثير يُذكر في التكلفة.
طباعة عبر الفضاء
ويبدو أن أخبار الطباعة الثلاثية الأبعاد ستحتل مكانة مرموقة في أخبار المستجدات في العلوم والتقانة يوما بعد يوم ، ولعل أحدثها ما أعلنت عنه وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) من نجاح خبراء يعملون في المحطة الفضائية الدولية في تحويل إرشادات أرسلت إليهم عبر البريد الإلكتروني إلى مفتاح للبراغي عبر استخدام طابعتهم الثلاثية الأبعاد. وتعتبر تلك الحادثة الأولى من نوعها التي يتم فيها إرسال أدوات عبر البريد الإلكتروني إلى الفضاء.
وقد استجابت (ناسا) لطلب تقدم به باري ويلمور قائد المحطة الفضائية الدولية لتصميم مفتاح مسنن يستخدم في ربط البراغي ذات الرأس المجوف.
وكان ويلمور قد ثبت طابعة ثلاثية الأبعاد في متن المحطة الدولية في 17 نوفمبر الماضي. وفي 25 من الشهر نفسه نجح في تصميم أول أداة تنتجها الطابعة، وهي قطعة غيار في الطابعة نفسها.
من جانبه، قال مايك تشين، مؤسس الشركة صاحبة الطابعة الثلاثية الأبعاد «سمعنا باري ويلمور قائد المحطة عبر الراديو يقول إنه بحاجة إلى تلك الأداة، لذا صممنا له واحدة من خلال برامج التصميم بمساعدة الحاسوب وأرسلناها إليه أسرع من أي صاروخ يمكنه توصيل تلك الأداة” . وأضاف تشين “يمثل هذا المفتاح نهاية أول تجربة لدينا، وهي سلسلة من 21 تصميما مطبوعا لأولى الأدوات التي قمنا بتصميمها خارج محيط الأرض على الإطلاق».
وفي السابق عندما كان رواد الفضاء يطلبون أداة معينة من الأدوات التي يحتاجون إليها، كان من الممكن لهم أن ينتظروا لشهور عدة إلى أن يجري إرسالها إليهم في رحلات الإمدادات القادمة ، فيما تقول (ناسا) إن هذه التقنية الجديدة ستساعد رواد الفضاء على الاعتماد على أنفسهم بشكل أكبر مستقبلا في المهام التي ستستغرق وقتا طويلا في الفضاء.
ويبدو أن الطباعة الثلاثية الأبعاد فتحت الباب واسعاً أمام عصر الطباعة الرباعية الأبعاد؛ إذ ابتكر علماء من معهد ماساتشوستس للتقانة في الولايات المتحدة طريقة لصنع مواد صلبة معقّدة تستطيع تجديد نفسها بنفسها، سمّيت مواد مبرمجة تبني نفسها بذاتها Programmable Materials that Build Themselves. ووُصف الإنجاز بأنه يندرج ضمن ذلك النوع من الطباعة الواعدة.
صناعة الأجسام الصلبة
تستهدف الطباعة الثلاثية الأبعاد صنع أجسام صلبة ثلاثية الأبعاد من نموذج رقمي ، وذلك عبر إضافة إلى مادة معينة توضع فيها طبقات متوالية من المادة بأشكال مختلفة. وتختلف تلك الطباعة عن تقنيات التشغيل الميكانيكي الشائعة التي تعتمد على إزالة المادة بعمليات القطع والحفر والنحت والثقب .
ومعظم الطابعات الموجودة في الأسواق تستخدم طريقة التصنيع التي يتم فيها وضع تلك الطبقات فوق بعضها, كما ذكرنا آنفا، حتى يتم تشكيل المنتج النهائي المطلوب. و هذا يبدأ ببرنامج يعالج ملفات ذات نطاق معين ، بحيث يتم تقسيم التصميم إلى طبقات، و يتم تحويل الصور الثلاثية الأبعاد إلى قالب رقمي يتكون من عدة طبقات رقيقة أفقية. ويمكن لبعض الطابعات استخدام مادتين مختلفتين في الطباعة، الأولى تستخدم في طباعة الشكل و الأخرى عبارة عن مادة داعمة يمكن التخلص منها، و وظيفتها هي الفصل بين الأجزاء المختلفة للشكل المطبوع، مما يتيح المجال لطباعة جهاز بكامله مرة واحدة دون الحاجة إلى طباعة أجزاء مختلفة، و من ثم تركيبها. وهذه العملية تدعى التشكيل من الترسيب المنصهر. ويتم تغذية الطابعة بنوع خاص من البلاستيك يمر بالرأس القاذف للطابعة الذي يعمل بدوره بصورة آلية بحيث يشغل و يوقف تدفق المادة الأولية بنفسه فيما ينجز هو بنفسه عددا من الحركات المنتظمة الخاصة. وفي بعض الطابعات يقذف الرأس القاذف مادة لاصقة ، تقوم بدورها بلصق حبيبات صغيرة كالبودرة و تجمعها حتى تشكل المجسم على شكل طبقات عدة.
وحديثا ، طرح قلم أطلق عليه اسم دودلر 3 (Doodler) يستخدم نوعا من البلاستيك المرن لصنع نماذج ثلاثية الأبعاد، وهو يعتبر تطويرا لتطبيقات الطباعة الثلاثية الأبعاد. ويزن القلم نحو 200 غرام ويعمل بطاقة كهربائية لا تتخطى 240 فلط، ويولد طاقة حرارية حتى 270 درجة تذيب المادة البلاستيكية التي تنساب بعد ذلك من سنه لتستخدم في صنع النماذج الثلاثية الأبعاد. وقدم صناع القلم مجموعة من النماذج المصنوعة باستخدام الجهاز، مؤكدين أنه يستخدم في مجالات متعددة بداية من الرسم وصناعة الحلي وأدوات الزينة إلى صناعة نماذج الأعمال الخاصة بالمشروعات الكبرى.
Distinct
وشهدت تطبيقات الطباعة الثلاثية الأبعاد امتدادا كبيرا وتوسعا مستمرا ، حتى صارت حاليا تستخدم في مجالات الطب والفضاء والبناء وصناعة السيارات والطائرات وألعاب الأطفال والأزياء والتغذية. وساهم في ذلك رخص ثمنها ، وإمكان طباعة أجزاء عدة للمنتج نفسه في مناطق مختلفة من الدولة نفسها ، أو في مدن عالمية عدة ، ثم تجميع المنتج في مكان نهائي.
فعلى سبيل المثال ربما يصبح بناء أنسجة الجسم الحية بالطباعة الثلاثية الأبعاد تجارة رائجة جديدة، لكن تكوين عضو بشري لزراعة الأعضاء ما زال بعيد المنال. ومنذ بداية هذه التقانة ، تمكن بعض العلماء من بناء قطع صغيرة من الكبد البشري، فيما استطاع علماء آخرون بناء نماذج متميزة من الأطراف الصناعية. وثمة نحو 80 فريقا علميا يسعون إلى محاولة لطباعة أنسجة الجلد، والغضاريف، والشرايين، والكبد، والرئة، والقلب. ونجح بعضهم في عام 2012 في زراعة الفك السفلى في فم مريضة تبلغ من العمر 83 عاما، عبر طباعة فك صناعي من مسحوق التيتانيوم عن طريق طابعة ثلاثية الأبعاد. فيما استطاع فريق من جامعة برينستون الأمريكية طباعة أذن حيوية إلكترونية باستخدام «أحبار» مشكلة من السيليكون والخلايا الغضروفية، حيث يعمل سلك معدني ملتف على إرسال واستقبال النبضات الكهربائية التي يمكنها محاكاة العصب السمعي مثل ما تفعله قوقعة الأذن المزروعة.
ونجح العلماء في زرع الأجزاء المسطحة والأنبوبية من الجسم البشري، كخلايا الجلد والغضاريف والعضلات، كما نجحوا في زرع جزء من المثانة، ومجرى البول، وأنابيب الشرايين، لكن تبقي زراعة الأعضاء كاملة أمرا صعبا، وهو التحدي المقبل؛ حيث تحتاج إلى طباعة هيكل العضو وزرع خلايا العضو في داخله، وربما تستخدم الأوراق البيولوجية مع مادة سائلة هلامية تنمو بداخلها الخلايا المزروعة، ليتم تشكل العضو المطلوب. وتقوم عدة شركات بتطوير طابعات ثلاثية الأبعاد لطباعة خلايا الجلد مباشرة على سطح الجلد المحروق.
واستطاعت إحدى الشركات استخدام مزيج من المواد السائلة والصلبة لبناء مبنى كامل من طابقين كاملين مع الدرج والنوافذ والأبواب والأعمدة والجدران والأرضيات والقباب والتجاويف ، وذلك باستخدام الطباعة الثلاثية الأبعاد ، وهو ما يشي بثورة مقبلة في عالم البناء.
وتمكنت إحدى الشركات العاملة في مجال الطباعة الثلاثية الأبعاد من رقمنة عدد كبير من التماثيل النادرة، للبدء في طباعتها مرة أخرى، وتوفير نسخ كثيرة منها. وقد نجحت الشركة في مسعاها ، فتمكنت من استحداث نسخ طبق الأصل من عدد من التماثيل الشهيرة في الولايات المتحدة ، منها تمثال السياسي الأمريكي توماس جيفرسون ليصبح أكبر تمثال مطبوع بتقنية الأبعاد الثلاثة. وثمة طابعات أخرى طورت طباعة التماثيل البشرية بأحجام تماثل القياسات الطبيعية للإنسان، بحيث يمكنك طباعة نسخة طبق الأصل منك في الحجم الطبيعي لتكون ذكرى لأولادك وعائلتك بعد مماتك.
وحديثا أيضا أعلنت شركة أدوبي سيستمز الأمريكية عن تحديث جديد جاني لمشتركي حزمتها الإبداعية السحابية، يضيف إلى تطبيقها الشهير لمعالجة الصور (فوتوشوب) إمكانية الطباعة مباشرة إلى طابعة ثلاثية الأبعاد متوافقة. وهو ما يعني تقديم وظائف جديدة تتيح للمستخدمين تشذيب تصاميمهم ومراجعتها ومعالجتها، ثم إخراجها مباشرة إلى طابعة ثلاثية الأبعاد، سواء بدأ المستخدم تصميمه من الصفر أو استورد تصميما آخر إلى داخل البرنامج.
وفي خطوة تهدف للتجديد ورفع معدلات توزيعها الآخذة في التراجع الحاد خلال السنوات الأخيرة، تعتزم مجموعة كبيرة من الصحف الألمانية طباعة نسخها باستخدام تقنية العرض الثلاثية الأبعاد، التي تتيح لها تقديم صور بمواصفات وجودة تختلف عن ما هو موجود في صورها المطبوعة بالطرق التقليدية.