لطالما كانت معظم الدول العربية متأخرة عن اللحاق بالركب العالمي فيما يخص الاعتماد على الطاقة المتجددة، وإدارة الطاقة المستدامة، وتوظيفها في خدمة مجتمعاتها المختلفة. ولعل أهم الأسباب في ذلك هو عدم وجود الخطط التنموية السليمة، والاستراتيجيات المعنية بالتنمية الاجتماعية والاقتصادية بعيدة المدى، والاعتماد على الإنتاج الكبير من النفط والغاز الذي تضخه إلى شتى دول العالم، ووجود احتياطيات هائلة من الوقود الأحفوري في أراضيها، وعدم امتلاكها التكنولوجيا الحديثة الخاصة بتوليد الطاقة المتجددة والاستفادة منها.
هل الطاقة المستدامة أولوية؟
ويسلط تقرير حديث أصدرته اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا) التابعة للأمم المتحدة الضوء على واقع الطاقة المستدامة في الوطن العربي، وآفاق استخداماتها، والتقدم الذي أحرزته المنطقة العربية في السنوات الأخيرة في مجال إدارة الطاقة المستدامة وضمان حصول الجميع عليها.
ويرى أن المنطقة العربية تفتقر إلى إدارة مستدامة للموارد الطبيعية، خصوصا في مجالات كفاءة الطاقة واعتمادها الأساسي على الوقود الأحفوري لتلبية جميع حاجاتها الطاقية. كما أن الحروب، وعدم الاستقرار السياسي، وما يترتب على ذلك من نزوح وهجرة، ولا سيما في البلدان ذات الدخل المتوسط والمنخفض، تزيد من الضغط على المدن والموارد.
ويقول التقرير إن تنمية الطاقة المستدامة ليست أولوية مهمة لبلد عربي دون آخر، وليست خيارا بين النمو المرتفع والنمو المنخفض. لكن التقدم في تنفيذ الهدف السابع من أهداف التنمية المستدامة الخاصة بالأمم المتحدة سيكون عاملا حاسما في إدارة التحديات التي ستواجهها الدول العربية في السنوات والعقود المقبلة.
والتقرير الذي صدر بعنوان ( التقدم المحرز في مجال الطاقة المستدامة في المنطقة العربية في إطار الرصد العالمي) يرى أن المنطقة العربية تستنفد مدخراتها من الطاقة ومواردها المائية وتلوِّث هواءها بصورة أسرع من أي منطقة أخرى في العالم، ويدعو صناع القرار إلى استخلاص الدروس في وقت مبكر بما فيه الكفاية بما يخولهم إدارة موارد المنطقة بعناية ودعمها على نحو مستدام. واستند معدو التقرير إلى بيانات من تقرير إطار التتبع العالمي الذي يديره البنك الدولي عالميا/ برنامج المساعدة في إدارة قطاع الطاقة بالاشتراك مع الوكالة الدولية للطاقة، وبمساهمات من أكثر من 20 منظمة في العالم بما في ذلك اللجان الإقليمية للأمم المتحدة، وذلك بهدف تتبع التقدم المحرز في مجال الطاقة المستدامة على الصعيد العالمي من خلال تحليل مؤشرات الطاقة القابلة للقياس الكمي والمقارنة دوليا.
ويتطرق التقرير إلى ثلاثة أركان أساسية ترتكز عليها مبادرة توفير الطاقة المستدامة للجميع وأهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة التي دخلت حيز التنفيذ في يناير 2016 وهي: توسيع نطاق الحصول على الطاقة الحديثة من خلال الكهرباء وإمكان الحصول على تكنولوجيات وقود الطهي النظيفة والحديثة؛ ومضاعفة المعدل العالمي للتحسين من كفاءة استخدام الطاقة؛ ومضاعفة حصة الطاقة المتجددة في مزيج الطاقة العالمي.
الطاقة والتنمية الاجتماعية والاقتصادية
إحدى الرسائل الرئيسية لذلك التقرير – كما يبين ذلك موجزه التنفيذي- هي أن التقدم في مجال الطاقة المستدامة لم يعد من الممكن اعتباره منفصلا عن أهداف التنمية الاجتماعية-الاقتصادية الأخرى في المنطقة العربية. فالتوازن الهش للموارد الطبيعية في معظم أنحاء المنطقة، مقترنا بالتوقعات الاقتصادية السريعة والمرتفعة من جانب سكان المنطقة الشباب والمتعلمين، يعني أن إدارة الثروات الطبيعية للبلدان العربية تحتل مركزا محوريا في تأمين حياة مستقرة وناجحة لأجيال المستقبل. وترتبط الطاقة ارتباطا وثيقا بجملة عوامل أخرى لتحقيق نجاح تنموي، وذلك من خلال ارتباطها الوثيق بأمن المياه والإمدادات الغذائية وصولا إلى أهداف إنمائية رئيسية كتعميم الحصول على الخدمات الصحية والتعليمية الحديثة، والمساواة بين الجنسين وتمكين المرأة، واستحداث مساحات معيشية مستدامة والابتكار التكنولوجي، والتقدم الحاسم في التخفيف من تغير المناخ والتكيف معه على الصعيد الإقليمي.
تحول حاسم
إن تحول المنطقة العربية من مورد رئيسي للطاقة إلى الأسواق العالمية إلى سوق طلب متزايدة الأهمية يثير تحديات كبيرة، ولكن في الوقت نفسه يزيد الفرص المتاحة للعقود المقبلة. والرسالة الأساسية التي يوجهها معدو التقرير لواضعي السياسات والمجتمعات المدنية على حد سواء، هي أن السيناريو الحالي المتمثل في (بقاء الأمور على حالها) في مجالي الطاقة والإدارة الأوسع للموارد الطبيعية في المنطقة العربية غير قابل للاستمرار في معظم الحالات. إن السياسة الاستباقية مهمة جدا لضمان قدرة المنطقة على الصمود والاستقرار على المدى البعيد، لاسيما في ضوء النمو السكاني والاقتصادي، وارتفاع مستويات المعيشة، ومحدودية ثروة الموارد الطبيعية الموزعة على نحو غير متساو في المنطقة. لقد أحرزت معظم أنحاء المنطقة العربية، باستثناء أقل البلدان نموا، تقدما ملحوظا في تحقيق الحصول شبه الشامل على الطاقة، ويعتبر ذلك إنجازا تنمويا رئيسيا. ومع ذلك لا تزال المنطقة تفتقر إلى الإدارة المستدامة للموارد، خصوصا في مجال كفاءة استخدام الطاقة، ولا تزال تعتمد – بشكل كبير – على الوقود الأحفوري لتلبية معظم احتياجاتها من الطاقة.
تزايد الطلب على الطاقة
ويقول التقرير إن التزايد السريع للطلب المحلي على الطاقة في المنطقة العربية يمثل تحديا لسياستها التقليدية للطاقة، ولا تشكل احتياجات المنطقة العربية المتزايدة من الطاقة تحديا بحد ذاتها فحسب، بل تؤثر أيضا في عوامل أخرى ضرورية لتحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية الطويلة الأجل، ولاسيما تحقيق الأمن المائي والغذائي. وبينما لم يكن لتغير المناخ دور مهم في خطاب البلدان العربية حول استخدام الطاقة، فإن المنطقة العربية هي من المناطق الأشد تأثرا بتغير المناخ. فالنقص في المياه والأخطار التي يواجهها الأمن الغذائي من جراء تغير المناخ، كلها أمور تهدد سبل عيش شرائح واسعة من السكان. وتزايد التوسع العمراني في المنطقة العربية يعزز أهمية السياسات المتكاملة في إدارة الموارد الطبيعية على نحو أكثر استدامة.
إن حصول الجميع على خدمات الطاقة الحديثة ركن أساسي من أركان الرفاهية البشرية، وعلى هذا النحو فإنه عامل بالغ الأهمية في التنمية الاجتماعية- الاقتصادية الحديثة. وتبذل المنطقة العربية جهودا حثيثة لتمكين جميع مواطنيها من الحصول على الطاقة. ويعود ذلك أساسا لجهود الحكومات الضخمة بتزويد سكانها بأنواع وقود وتكنولوجيات الطهي الحديثة. وقد ترافق الحصول على الكهرباء وأنواع الوقود السائل مع سياسات التنمية الاقتصادية في أرجاء واسعة من المنطقة. وبعض هذه السياسات على شكل برامج موجهة نحو كهربة الأرياف وتوفير إعانات دعم لغاز النفط المسيل، وكذلك برامج تستهدف جعل غاز النفط المسيل وقود الطبخ الأساسي البديل للكيروسين والكتلة الأحيائية التقليدية.
العمران والطاقة
يرى التقرير أن تزايد التوسع العمراني لفترة طويلة ساعد العديد من البلدان العربية على زيادة فرص حصولها على الطاقة الحديثة. وقد ترافق التوسع العمراني السريع بتحسن تدريجي في شبكات المواصلات التي تربط بين المدن والأرياف في أنحاء من بلدان المشرق العربي وشمال أفريقيا خلال فترة الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي. وبحلول عام 1990، كان الحصول على الكهرباء في معظم الدول متيسرا، إذ راوحت معدلاته من نحو %50 في المغرب إلى أكثر من %90 في الأردن وتونس والجزائر وسوريا والعراق ولبنان.
على الرغم من التطورات الإيجابية جدا في مجال الحصول على الكهرباء في شمال أفريقيا وبلدان المشرق العربي وبلدان مجلس التعاون الخليجي منذ التسعينيات، فلا تزال هناك ثغرات كبيرة في المنطقة العربية في مجال الحصول على الطاقة؛ فلم يتمكن ما مجموعه نحو 36 مليون نسمة في المنطقة العربية من الحصول على الكهرباء في عام 2014، وذلك في المقام الأول في أقل البلدان العربية نموا وأعداد صغيرة في شمال أفريقيا والمشرق العربي. ولاتزال هناك فجوة كبيرة بين المدن والأرياف في المنطقة العربية، حيث إمكانية الحصول على الكهرباء ووقود وتكنولوجيات الطهي في المدن أعلى بكثير مما في المناطق الريفية.
الكتلة الأحيائية
يثير الاستخدام المستمر للكتلة الأحيائية، ولاسيما التقليدية منها، في أقل البلدان العربية نموا عددا من الشواغل المتعلقة بالتنمية، وذلك لأسباب مختلفة، كما يقول التقرير.
فالكتلة الأحيائية بحكم تعريفها لا تعتبر وقودا حديثا. وكفاءة الكتلة الأحيائية، حديثة كانت أم تقليدية، لا يمكن مقارنتها بتكنولوجيات الطاقة المتجددة مثل الطاقة الشمسية أو طاقة الرياح أو الطاقة الكهرومائية. وبينما شهدت الكتلة الأحيائية الحديثة، مثل الفحم، تحسنا كبيرا بالنسبة إلى مصادر الكتلة الأحيائية التقليدية، لكن يبقى مستوى كفاءتها متدنيا، ولا يمكن إدارة مصادرها في العديد من الحالات على نحو مستدام. فالكتلة الأحيائية، في معظم أشكالها، لا توفر للقطاع المنزلي إمكانية الحصول على الكهرباء، ويتجه استهلاك الطاقة المتجددة في المنطقة العربية نحو التكنولوجيات المتجددة الحديثة بعيدا عن الكتلة الأحيائية.
إن تنمية الطاقة المستدامة ليست أولوية أكثر أهمية لأي بلد عربي دون سواه، وليست خيارا بين نمو مرتفع ونمو منخفض. ومع نمو السكان وارتفاع مستويات المعيشة يتنامى الطلب على الطاقة في جميع أنحاء المنطقة العربية. وإدارة الموارد الطبيعية، كالطاقة والمياه والبيئة هي السبيل الوحيد لضمان النمو الشامل الذي سيوفر للجميع فرصا اقتصادية في المستقبل. فالتدمير غير العقلاني للثروة الطبيعية اليوم تحت مظلة (بقاء الأمور على حالها) وما يرافقه من نمو سكاني وتوسع اقتصادي لا يشكل في هذا السياق خيارا واقعيا، بغض النظر عن مستوى الدخل أو وضع ثروة موارد الوقود الأحفوري التي يملكها البلد. وربما تكون أقل البلدان العربية نموا هي التي تجسد أكثر من سواها الكيفية التي يمكن من خلالها إدراك أن إدارة الموارد الطبيعية المحدودة شرط مسبق وليست عائقا أمام التقدم الاقتصادي الدائم.