د. محمد سيد علي حسن
باحث في علوم الفضاء – خبير سابق في الوكالة اليابانية لاستكشاف الفضاء (جاكسا) (اليابان)
بعد أكثر من 60 عاما على أول رحلة مأهولة إلى الفضاء الخارجي، اقترب بزوغ فجر السياحة الفضائية بشكلها التجاري لفتح آفاق الفضاء أمام السياح والزوار.
وهذه السياحة الفضائية التي تعني السفر إلى الفضاء الخارجي لأغراض ترفيهية أو ترويحية أو تأمل منظر كوكبنا الأزرق من الفضاء أو حتى الاسترخاء في ظروف فريدة من نوعها، وهي انعدام الجاذبية أو في جاذبية جزئية، باتت محل أنظار رجال الأعمال أولا ثم السياح الراغبين في تجربة سياحية جديدة ربما تتاح لهم مرة واحدة في العمر. ومعنى ذلك أن السياحة الفضائية لن تكون لأغراض علمية، وأن الزبائن ليسوا سوى ركاب عاديين لا يكلفون بأي نشاط علمي خلال تلك الرحلات.
ومنذ دوران رائد الفضاء السوفييتي يوري غاغارين حول الأرض، في السفينة الفضائية فوستوك عام 1957 في رحلة استغرقت 108 دقائق وعودته سالمًا إلى الأرض، وحلم السياحة الفضائية يراود الجميع. وعبر عدد من كتاب الخيال العلمي في عدة روايات عن تطلعاتهم لقرب ظهور السياحة الفضائية، مثل رواية جونا روس في عام 1968 “نزهة في الفردوس”، ومنهم من ذهب أبعد من ذلك فذكر أنه في بداية القرن الحادي والعشرين ستنُشأ فنادق في الفضاء تستطيع العائلات الاستمتاع بقضاء عطلاتها فيها والاستجمام بدلا من الشواطئ والمنتجعات السياحية المنتشرة على سطح الأرض. لكن للأسف سرعان ما تلاشت تلك الأحلام أمام التكاليف الباهظة للرحلات الفضائية وعقباتها التقنية.
انطلاقة قبل 20 عاما
بدأت أولى رحلات السياحة الفضائية بشكل فردي عام 2001، وكان على متنها أول سائح وهو الثري الأمريكي دينيس تيتو الذي قضى ثمانية أيام في محطة الفضاء المدارية الدولية مع روادها، ودفع نظير ذلك لوكالة الفضاء الروسية مبلغ 20 مليون دولار؛ لأن مركبة الفضاء الروسية (سويوز) هي التي أوصلته إلى المحطة مع عدد من رواد الفضاء في رحلة روتينية لتبديل رواد الفضاء، وكذلك لتزويد المحطة بالماء والغذاء اللازمين لمعيشة روادها عدة أشهر. وبعد هذا السائح ضمت ست رحلات أخرى أطلقتها روسيا سائحا واحدا في كل رحلة نظير مبلغ كبير (تراوح ما بين 20 و 40 مليون دولار). وكانت تلك الرحلات على فترات زمنية متباعدة قبل أن تتوقف عام 2009. وظل سعر الرحلات الفضائية الباهظ بالنسبة للسياح هو العائق الأكبر أمام تعميمها على نطاق أوسع حتى اليوم.
ومع التقدم التقني المتسارع الذي حدث مؤخرًا وانخفاض كلفة المركبات الفضائية؛ بسبب إمكانية إعادة استخدامها ودخول عدد من رجال الأعمال البارزين مجال صناعات الفضاء، اقترب بزوغ فجر السياحة الفضائية الجماعية وبسعر معقول. وباتت تمضية دقائق في رحلات دون مدارية على حافة الفضاء (ارتفاع التحليق في حدود 100 كيلومتر من سطح الأرض) مع جاذبية ضئيلة، أو حتى قضاء أيام قليلة خارج نطاق الجاذبية في الفضاء ضمن رحلة مدارية سياحية، أمرا يبدو قريب المنال وليس مجرد حلم كما كان من قبل.
ومن أبرز رجال الأعمال الذين بدأوا بالاستثمار منذ سنوات في قطاع السياحة الفضائية الأمريكي إيلون ماسك (مؤسس عدد من الشركات الكبرى منها شركة سبيس إكس للفضاء وتسلا موتورز ورئيسهما التنفيذي)، والأمريكي جيف بيزوس (المؤسس والمدير التنفيذي لشركة أمازون وشركة بلو أوريجين للفضاء)، والبريطاني ريتشارد برانسون مالك شركة فيرجن غالاكتيك للرحلات الفضائية. ويوجد حاليا شركات رائدة في مجال السياحة الفضائية لديها برامج للسياحة الفضائية، بدءًا من الرحلات الفضائية دون المدارية وصولًا إلى الرحلات المدارية (مدارات أرضية منخفضة في حدود ارتفاع يبلغ نحو 350 كيلومترا من سطح الأرض) أو مدرات حول القمر. ومن أبرز تلك الشركات فيرجن غالاكتيك وبلو أوريجين وسبيس أكس، إضافة إلى توفر برامج لتدريب وتأهيل السياح لتلك النوعية من الرحلات قبل السفر. و تعمل تلك الشركات منذ سنوات بشكل حثيث على تطوير التكنولوجيا لكي تجعل رحلات السياحة الفضائية الجماعية ممكنة مع خفض التكلفة، لتمكين أكبر عدد ممكن من السياح وهواة الفضاء من الوصول إلى الفضاء نظير أقل مبلغ ممكن.
1. برنامج فيرجن غالاكتيك
في فبراير 2019 تمكنت شركة فيرجن غالاكتيك للسياحة الفضائية من إرسال ثلاثة أشخاص إلى آخر نقطة في حواف الفضاء تحت المداري للمرة الأولى، وذلك على ارتفاع يبلغ نحو 90 كيلومترا (متجاوزة بقليل الحد الذي يبدأ عنده الفضاء وفقاً لسلاح الجو الأمريكي والوكالة ناسا عند 80 كيلومترا، لكنها لم تصل إلى الحد المعترف به عالمياً وهو 100 كيلومتر). وفي 22 مايو من هذا العام أرسلت الشركة شخصين آخرين إلى المدار نفسه، وهي البعثة الأولى من أربع بعثات مأهولة مخطط تنفيذها هذا العام، منها واحدة ستحمل مالك الشركة.
والمركبة المستخدمة للوصول إلى ذلك الارتفاع هي طائرة فضاء صاروخية صغيرة اسمها “سبيس شيب” تحملها طائرة أخرى ضخمة إلى ارتفاع 13.4 كم. وعند هذا الارتفاع تنفصل الطائرة الصاروخية “سبيس شيب” عن الطائرة الحاملة وتشعل محركها الصاروخي وتعدل مسارها تجاه الفضاء، لتصل إلى بداية أو حواف الفضاء فتمضي هناك دقائق قليلة قبل أن تنزل وتهبط على مدرج للطائرات مثل الطائرات العادية.
و”سبيس شيب” قادرة على حمل ثمانية أشخاص (هم ستة ركاب وطياران يحملان شارة رائد فضاء)، ولها نوافذ عريضة للرؤية.
وسيبلغ أقصى ارتفاع كما هو مخطط لها تقريبا 110 كيلومترات أعلى من خط كارمان بنحو 10 كيلومترات (خط كارمان يستخدم للتفرقة بين الغلاف الجوي للأرض والفضاء الخارجي).
ووفقا لموقع شركة فيرجين غالاكتيك فإن نحو 600 سائح اشتروا تذاكر لرحلات فضائية على متن طائرتها الصاروخية بكلفة للتذكرة تتراوح بين 200 و250 ألف دولار، كما أن قائمة الانتظار تضم آلاف الأسماء. ومن المقرر إطلاق رحلات الشركة بداية من العام المقبل (2022)، على أن تسير 400 رحلة سنويا لخوض تجربة انعدام الوزن الجزئي لبضع دقائق ورؤية جزئية لكوكب الأرض وكرويته.
2. برنامج بلو أوريجين
أما بلو أوريجين -المنافس الأساسي لفيرجن غالاكتيك في سوق السياحة الفضائية- فلم تعلن للسياح عن أسعار تذاكرها أو جدول زمني لرحلاتها، غير أنها ذكرت أن مالكها جيف بيزوس وشقيقه مارك ومعهم طاقم قيادة مكون من رائدي فضاء، إضافة إلى سائحين آخرين طرحت تذكرة كل منهما لمزاد علني ليبلغ السعر الأولي 28 مليون دولار (السعر مرتفع ربما لأن السائحين سيرافقان جيف بيزوس) سينطلقون إلى الفضاء في 20 يوليو الحالي على متن كبسولة ذات نوافذ عريضة تملكها الشركة.
وسيدفع الصاروخ “نيو شيبرد” الذي صنعته بلو أوريجين الكبسولة إلى الفضاء لتمكث عدة دقائق على ارتفاع 107 كيلومترات من سطح الأرض.
والصاروخ الذي سيحمل الكبسولة قابل للاستخدام المتكرر، ويمكنه الهبوط عموديا مثل صاروخ سبيس أكس “فالكون”. بعد قضاء الكبسولة بضع دقائق عند ذلك الارتفاع تعود إلى الأرض وتهبط برفق بمساعدة ثلاث مظلات كبرى ومحرك صغير يساعد على توجيه الكبسولة وتهدئة سرعتها. وإذا تمت تلك الرحلة بنجاح هذا الشهر، ورحلات فيرجن غالاكتيك العام المقبل، فنستطيع القول بأن عصر السياحة الفضائية تحت المدارية قد بدأ فعليًا بمنافسة شديدة بين الشركتين.
3. برنامج سبيس أكس
في مسار آخر من السباق على سوق السياحة الفضائية الواعد، أعلن إيلون ماسك ورجل الأعمال الياباني يوساكو مايزاوا عن خطتهما في 2023 لتقديم رحلة فضائية للسياح حول القمر. وسيسافر السياح ومنهم مايزاوا على متن مركبة فضائية اسمها “ستار شيب” تجهزها شركة سبيس أكس. وستمكّن الرحلة ثمانية مدنيين من قضاء أسبوع كامل حول القمر ثم العودة إلى الأرض وبذلك تكون رحلة سبيس أكس تجاوزت ما يقدمه جميع منافسيها.