د. فخري حسن
عرف الإنسان منذ القدم الفترات الزمنية مثل اليوم والعام من خلال دوران الأرض حول محورها ودورانها حول الشمس، واستخدمها لتسهيل أمور حياته. ومع ذلك فإننا لا نستطيع تعريف الزمن ولا يدرك معظمنا عمق مفهومه. لقد تحاشى آينشتاين الذي غير مفهومنا حول الزمن تعريف ذلك المفهوم، وقال ذلك صراحة في أبحاثه. ولا نعرف على وجه اليقين الكيفية التي بدأ بها الزمن، أو سبب ذلك ووقته؟ ويعتقد بعض العلماء أن لا وجود حقيقيا للزمن، وأنه من صنع العقل البشري. ولقد خاض الفلاسفة منذ القدم في هذه القضية الشائكة دون أن يتمكنوا من حسمها، وبقيت القضية مثار جدل حتى اليوم. قد يختلف الأمر بالنسبة للفيزياء؛ إذ إن الأمور أكثر وضوحا، لأن مفهوم الزمن فيها شهد تطورا عبر القرون.
زمن نيوتن
درس البريطاني نيوتن في القرن السابع عشر مفهوم الزمن، واستخدم حينذاك مفهوم الزمن الخطي المطلق، وقارن بينه وبين الخط المستقيم. افترض نيوتن أن الزمن يتكون من عدد كبير جدا من اللحظات، كما يتكون الخط المستقيم من عدد كبير جدا من النقاط. ويتدفق الزمن flow of time حسب هذا المفهوم مثل تدفق مياه النهر بمعدل ثابت لا يتأثر ولا يعتمد على حالتنا من حيث السكون و الحركة. لقد أثارت قضية تدفق الزمن بمعدل ثابت بعض المشكلات، فمن أين يتدفق الزمن وكيف يمكن أن نعرف معدل تدفقه؟ إن معرفة معدل تدفق الزمن تعني وجود زمن آخر عياري معروف يستخدم لحساب معدل تدفق الزمن العادي، وبالتأكيد فإن مثل هذا الزمن العياري غير موجود. سادت أفكار نيوتن في الزمن الخطي المطلق رغم هذه المشكلات مدة طويلة. وافترض الفلكي والفيزيائي الإنجليزي آرثر إدينكتون (1882 – 1944) في الربع الاول من القرن الماضي أن تدفق الزمن يعود لتغير الإنتروبي، وهي مقياس للفوضى والاضطراب في الكون، ونعرف حاليا أن العكس هو الصحيح؛ إذ إن مرور الزمن وتوسع الكون هو سبب زيادة الإنتروبي والفوضى في الكون.كان آينشتاين أول من غير مفهوم الزمن الخطي المطلق واستعاض عنه فيما يعرف الآن بالزمن النسبي. ومع ذلك فإنه لم يتمكن من التوصل إلى حقيقة تدفق الزمن في المعادلات ضمن نظرياته العلمية.لذلك فإن العالم الأمريكي براين غرين(Greene) أستاذ الفيزياء بجامعة كولومبيا يرى أننا نعتقد أن الزمن يتدفق، وهذا وهم illusion؛ فالزمن لا يتدفق لأن الفيزياء عجزت عن بيان وإثبات ذلك في معادلاتها.
زمن آينشتاين
أوضح آينشتاين في النظرية النسبية الخاصة (1905) أن الزمن نسبي وليس مطلقاً كما افترض نيوتن. ويعني الزمن النسبي أن طول الفترة الزمنية التي نقيسها يعتمد على حالة السكون والحركة. فإذا راقبنا ساعة رائد فضاء يتحرك بسرعة كبيرة فإننا نلاحظ أن ساعته بطيئة الحركة مقارنة بساعتنا على الأرض. ولا ينتج ذلك بسبب خلل في الساعة وإنما بسبب بطء مرور الزمن في الصاروخ كما نقيسه أو نراه من الأرض، فساعة رائد الفضاء في الصاروخ تتحرك بالنسبة لنا أما ساعتنا فساكنة. وهكذا فإن الفترة الزمنية تتغير تبعا لحالة الحركة وليست مطلقة كما افترض نيوتن. قد تمضي مدة طويلة على الأرض حسب ساعتنا، ويقابلها في الصاروخ فترة قصيرة تبعا لسرعته التي يتحرك بها، إذ إن بطء مرور الزمن يزداد بزيادة سرعة الصاروخ. وإذا ساوت سرعة الصاروخ سرعة الضوء في الفراغ (وهي أكبر السرعات) فإن الزمن في الصاروخ – كما نقيسه نحن على الأرض- يتجمد أو يتوقف. وبالطبع فإن الزمن لن يتجمد إذ إن النظرية النسبية تظهر أن سرعة الصاروخ لا يمكن أن تساوي سرعة الضوء. استخدم البعض هذه الفكرة لبيان أن عمر التوأمين قد يتغير ويكون أحدهما أصغر من الآخر إذا سافر في رحلة بعيده بواسطة صاروخ سريع جدا ثم عاد إلى الأرض. إن نسبية الزمن صعبة الإدراك؛ لأنها تحدث في السرعات العالية جدا والقريبة من سرعة الضوء التي تتحرك بها الجسيمات الأولية الصغيرة مثل الإلكترونات، ولا يمكن لأجسام من صنع الإنسان أن تتحرك بمثل هذه السرعة العالية. ويحاول البعض ربط نسبية الزمن بشعورنا ببطء مضي الزمن (في حالة الانتظار) وسرعة مروره في حالة المسرة. إن هذا الربط غير صحيح فالشعور النفسي بالزمن لا علاقة له بالزمن النسبي الذي تقيسه الساعة؛ إذ إن حركة الساعة لا تعتمد على الحالة النفسية.
إن نسبية الزمن تعني ببساطة أن فترة زمنية (مثل الزمن بين حدثين معينين) كما نقيسها نحن على الأرض بواسطة ساعتنا تختلف عن تلك الفترة بين نفس الحدثين، كما تقيسها ساعة رائد الفضاء في الصاروخ المتحرك.
سهم الزمن النفسي
نعيش الحاضر وقد تركنا الماضي الذي نعرف خلف ظهورنا ونجهل المستقبل الذي ينتظرنا. وهكذا فإن لدينا شعورا نفسيا بسهم للزمن ذي اتجاه واحد من الماضي إلى الحاضر، ومن ثم نحو المستقبل المجهول. إن حركتنا في الزمن مقيدة أو محكومة بهذا الاتجاه لسهم الزمن. يختلف ذلك عن حركتنا في المكان إذ إننا نتحرك يمينا أو يسارا أو نتحرك نحو الأعلى أو الأسفل بحرية دون قيود، ويمكن عكس اتجاه سهم الحركة في المكان بسهولة، ويمكن التوقف في المكان دون حركة ولا نستطيع التوقف في الزمان. يبدو أن هذا الخلاف بين التوقف والحركة في الزمان وفي المكان نابع من الفرق الجوهري بين بعد الزمان الخيالي وأبعاد المكان الحقيقية. إننا نعيش في كون رباعي الأبعاد، ثلاثة من هذه الأبعاد حقيقية للمكان تمثل الطول والعرض والارتفاع وبعد رابع خيالي للزمن. لقد مزجت النظرية النسبية هذه الأبعاد معا في نسيج واحد يعرف بالزمكان Spacetime.
لا تعتمد معادلات الفيزياء بصورة أساسية على سهم الزمن، ومن ثم يمكن تبديل المستقبل بالماضي دون تغيير جوهري في هذه المعادلات. إن تبديل الزمن في حالة حركة الأرض حول الشمس لا يغير من مدارها أو مقدار سرعتها، وإنما يعكس فقط اتجاه دورانها الذي لا يؤثر كثيرا على معادلات الفيزياء.
سهم الزمن الكوني
يمكن تحديد سهم آخر للزمن بدراسة بداية وتطور الكون. تقول نظرية الانفجار العظيم The Big Bang Theory إن الكون – وهو كل ما نعرف من مادة وطاقة واشعاع وفضاء وزمن- كان محصورا في حيّز ضيق جدا بكثافة عالية. يطلق بعض الباحثين على هذا التركيب الغريب اسم البيضة الكونية The Cosmic Egg. حدث انفجار هائل (لسبب غير معروف) في هذه البيضة الكونية قبل نحو 13.75 بليون عام، وكانت بداية الزمن والمكان وبداية كل شيء آخر في الكون. تكونت السدم والنجوم والكواكب وبقية الأجرام السماوية بعد الانفجار وتحركت بسبب الانفجار مبتعدة عن بعضها بعضا، وما زالت كذلك حتى الآن. إن الكون الذي نعيش فيه يتضخم أو يتوسع بمرور الزمن. وهكذا فإن هذا السهم الكوني للزمن يؤشر باتجاه واحد نحو توسع وزيادة حجم الكون. وقد ساد اعتقاد في الماضي أن الكون قد يدخل طورا معاكسا ويتقلص حجمه (إذا كانت كثافة الكون كبيرة نسبيا)، ومن ثم فإن اتجاه السهم قد ينعكس. وبينت دراسات حديثة بعد تحليل إشعاع ولمعان مستعرات أعظمية (سوبرنوفا) بعيدة جدا وأخرى قريبة باستخدام تلسكوبات أرضية وفضائية متطورة أن الكون لن يصل أو يتحول إلى هذا الطور، وسيستمر في التمدد والاتساع، ومن ثم فإن اتجاه السهم الكوني للزمن لن ينعكس. وقد حصل ثلاثة من علماء الفلك هم رايس (A. Riess) وشميــدت (B.Schmidt) وبيرلمتيــــــر (S. Perlmutter) على جائزة نوبل في الفيزياء لعام 2011 تقديرا لبحثهم الذي بين هذه الحقيقة الكونية المهمة.
سهم الزمن الحراري
عند لمس جسم ساخن فإن بعضا من حرارته أو طاقته الحرارية ينتقل إلى أجسامنا ونشعر بذلك. أما إذا لمسنا جسما باردا فإن الطاقة الحرارية تنتقل من أجسامنا إلى الجسم البارد ونشعر أيضا بذلك. إن هذا اتجاه آخر لسهم الزمن حيث تنتقل الطاقة الحرارية من الأجسام الساخنة إلى الأجسام الباردة ولا يمكن أن يحدث العكس. لقد درس الفيزيائي النمساوي بولتزمان هذه القضية بالتفصيل في نهاية القرن التاسع عشر، وتوصل إلى قانون مهم في الديناميكا الحرارية يقول إن الفوضى disorder التي ترتبط بالطاقة الحرارية تزداد في الكون بمرور الزمن. تقاس الفوضى في العلم بالإنتروبي التي تعتمد بصورة أساسية على الطاقة الحرارية. فالكأس الزجاجية حالة نظام في الحاضر، وستتحول في المستقبل لشظايا وهي حالة فوضى، ولا يمكن أن يحدث العكس فنرى الشظايا، وهي حالة فوضى، تتجمع وتتحول إلى كأس. و إذا صهرنا الشظايا وحولناها إلى كأس فإن ذلك يزيد أيضا حالات الفوضى في الكون بسبب استخدامنا لطاقة حرارية كبيرة عند صهر الشظايا. يعتقد العلماء أن البيضة الكونية ذات الكثافة العالية كانت في حالة من النظام التام الخالي من الفوضى، ومع الانفجار العظيم بدأت حالات الفوضى بالازدياد بمرور الزمن وتطور الكون. فالأشياء تتكسر والخلايا تهرم والأشجار والأزهار تذبل وتموت ولا يمكن أن يحدث العكس. وهذا سهم آخر للزمن يتجه ويؤشر في اتجاه واحد نحو زيادة فوضى الطاقة الحرارية في الكون. إن هذا السهم الحراري للزمن غير مرغوب فيه لأنه يؤكد أن الأمور ستزداد سوءًا بمرور الأيام، فالشباب لن يعود يوما كما يقول المثل ويريد كبار السن.