الرياضيات و السينما مشاهير الأعداد نجوم الفن السابع
د.نزار خليل العاني
(عندما أعلن أفلاطون عن محاضرة يلقيها عن “الخير” جاء الناس آملين أن يتعلموا كيف يكونون دسعداء، لكنهم لم يسمعوا إلا ما بدا لهم أنه رياضة عليا، ولاشك أن الرياضة كانت بعد الفلسفة هي الدراسة التي أكثرت الجمعية من متابعتها)، كما جاء في “الموسوعة الفلسفية المختصرة”.
المقصود بالرياضة في هذا النص القديم والعريق هو الرياضيات. والقِدَم يعزى إلى عصر أفلاطون (نحو427-347 ق.م)، والجمعية في النص هي الأكاديمية التي أنشأها أفلاطون نحو العام 385 ق.م في الموقع الذي قتل فيه البطل اليوناني “أكاديموس”، والتي يعتبرها الدارسون والباحثون أول جامعة في التاريخ، وأسسها أفلاطون لرعاية ربّات الفنون والآداب والموسيقا، وتلقين المنتسبين إليها مبادئ الحكمة وتأهيلهم لأخذ زمام المبادرة في إصلاح حكومات المدن الإغريقية التي أنهكها الفساد المستشري، مما جعل المجتمع يعاني وطأة الشرور والانحطاط. وكتب العلامة جورج سارطون في موسوعته العظيمة “تاريخ العلم” أن شرط القبول الذي فرضه أفلاطون للانتساب إلى الأكاديمية هو إتقان الرياضيات، وكأن هذا العلم، بعد الفلسفة، هو ثاني درجات الخير لبناء الحضارة وإصلاح العالم، ولا أذكر أنني قرأت لفيلسوف عظيم على مر التاريخ، إلا واقترنت جهوده الفلسفية بمقاربات معرفية للرياضيات، وسآخذ على سبيل المثال لا الحصر ديكارت (1596-1650) لأنه الأشهر بين أقرانه.
ديكارت المؤسس
في كتابه الجريء “ وداعاً ديكارت : كوسمولوجيا جديدة للعقل الإنساني” يعيد كيث ديفلين keith Devilin النظر بـ (ثنائية العقل – الجسد بدلا من ثنائية الروح – الجسد) التي دشنها ديكارت، والتي أسست لمسيرة العلم الحديث، وله الحق في أن يعيد النظر إلا فيما يتعلق برسوخ صخرة الرياضيات التي تحمل هيكل العلم!
الثابت والمتين في البناء المعرفي والفلسفي لديكارت، والذي لا نستطيع أبداً أن نقول له وداعاً، هو الدور المركزي للرياضيات، والتي – في تقديري – ستحتاج إليها علوم الغد كما فعلت علوم الأمس، والتي ستظل تكنولوجيا المستقبل الرقمية تعتمد على مفاهيمها الأصيلة، وهذا ما تسعى مقالتي إلى النظر إليه. لقد ألهم الحماس العلماء ولاسيما الرياضيين بإنجاز الثورة العلمية وتعجيل النمو السريع للعلوم…وأعلن غاليليو : أن العلم مكتوب بلغة الرياضيات، وأيده فيما بعد ديكارت وسبقهما إلى ذلك فيثاغورس اليوناني.
وباختصار يبدو أن تاريخ العلم جعل من علماء الرياضيات نجوماً ساطعة، وسدنة الماضي والمستقبل. وكذلك انساق عشاق العدد وراء الشطط والتطرف واعتبروا القيمة الحسابية لما سمّوه “ النسبة الذهبية” وقيمتها 1.61803399 ورمزها الحرف الإغريقي “فاي”، وكأنها الأساس الجمالي والسحري للكون، وإلى هذه النسبة أرجعوا كل مايقع تحت العين من كائنات حية وجمادات واختزلوا الوجود بهذه النسبة، وهذا إفراط لا يقبله العقل.
الرياضيات وفن السينما
نتفق أولا على أنه لا يمكن الإمساك بالعالم الفيزيقي المادي وحقائقه الموضوعية ما لم يكن قابلاً للقياس الكمّي والتعبير عن وجوده بلغة الرياضيات. المسافة بالأمتار والزمن بالدقائق والوزن بالأرطال، وقيسوا على ذلك موضوعات الصوت والضغط والسرعة وغيرها. وحين نَعَتْنا ديكارت بالمؤسس كنا نتذكر موقفه حين شاهد ذبابة تتحرك في فضاء غرفة، وتساءل: كيف يمكن تحديد مكان الذبابة وبعدها عن الجدران والسقف وأرض الغرفة ؟ ديكارت أنجز عقليا مايعرفه الطلبة حاليا في المرحلة الثانوية وهو “الإحداثيات” والخطوط البيانية.
ومنذ البداية كانت السينما مدينة للرياضيات، بل هي غارقة في الحسابات، بدءاً من مواصفات الكاميرات والعدسات وأجهزة العرض وتقنياتها والصيغ المختلفة للفيلم (film formats) من 8ملم إلى 16 و28 النادر و35 ملم، وما يتعلق بسرعة الكوادر (frame rate) من 12 إلى 1000. وتاريخياً اعتمدت سرعات تراوح بين 16 و24 صورة في الثانية الملائمة لبيولوجيا وفيزيولوجيا الإنسان، وحتى هذه الأيام حيث أصبحت السينما رقمية بالكامل، لا تزال هذه الصناعة المعقدة وشرايينها وأوردتها ممهورة بالرياضيات.
وحين بدأت هوليوود تختار المشاهير من علماء الرياضيات المعاصرين لتنتج العديد من الأفلام التي تسلط الأضواء على حيواتهم ونباهة عقولهم وملامح عبقريتهم، ظهر كأن السينما تعيد بعض الدين القديم، وتعترف بذلك الفضل السابق للرياضيات على تاريخها الذي امتد لأكثر من مئة عام منذ بدايات السينما وحتى اليوم.
علماء رياضيات على الشاشة
قبل الدخول إلى صلب الموضوع، أذكر المعلومة الآتية عن عبقرية أمير الرياضيات كارل غاوس Carl Gauss) 1777- 1855)، والمعلومة مذكورة في كتاب رومي شوفان “الموهوبون” الذي نقله إلى العربية وجيه أسعد، إذ يقول المؤلف إن “غاوس” ولد بالفطرة ليكون عالم رياضيات، فمنذ طفولته المبكرة ظهرت عليه علامات النبوغ الرياضياتي، فقد كان والده يصحبه إلى تلة تطل على مساحات واسعة،ويطلب منه تقدير رقعة محددة من الأرض المنبسطة أمامهما بوديانها وهضابها وسهولها، ويذكر الطفل “غاوس” الرقم، وبعد أن يمسحها المسّاحون بأجهزتهم وأدواتهم يجدون أن الرقم الدقيق قريب جداً من التقدير الغريزي للطفل الذي ذكره اعتماداً على حدسه الرياضياتي وموهبته التي لا تفسير علمياً لها، وغالباً ما تصنف ضمن العناوين التي تتناولها كتب الباراسيكولوجي (الظواهر العقلية الخارقة).
من هؤلاء العلماء الكبار والعمالقة الذين تألقوا في تاريخ الرياضيات جون ناش الابن John Nah) 1928- 2015) الذي أصبحت سيرته العقلية موضع جدل شديد في الواقع الحقيقي وفي السينما. وتبوأ ناش في فترات عطائه العلمي أعلى المناصب في برينستون وفي معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا MIT، وتعزى إليه إنجازات خارقة في أكثر من حقل من حقول الرياضيات، مما مهد له الطريق لنيل جائزة نوبل في الاقتصاد، وهنا نعود إلى ماذكرناه آنفا، وهو أن الرياضيات لغة حصرية لكل علم، بدءاً بالإحصاء ووصولا إلى قواعد اللغات البشرية مهما تعددت الألسن.
بالتوازي مع هذه السيرة، لا خلاف أيضاً أن هذا الموهوب عانى منذ طفولته برغبة شديدة للعزلة وانعدام التواصل مع محيطه العائلي والمدرسي والمجتمعي، وكان سلوكه يتسم بالغرابة، وفي فترات الانكفاء العقلي ذهب إلى عيادات ومصحّات نفسية وخضع للعلاج، وبدا للجميع أنه أقرب إلى الجنون والإفلاس المعرفي وحياة الهلوسة والأوهام منه إلى العبقرية.
السينما والدراما والعقل الجميل
السينما، وكل الفنون الدرامية الأخرى وفي مقدمها المسرح، تستند في اعتقادي الشخصي إلى إثارة فضول المتابع وإدهاشه.
حياة جون ناش تنطوي على سمات وملامح درامية واضحة، لذا كان مادة سينمائية جاهزة للتناول، وهكذا ظهر للوجود فيلم (عقل جميل) A Beautiful Mind للمخرج القدير رون هاورد ومن بطولة “راسل كرو” والذي فاز بأربع جوائز أوسكار.
وإذا تجاوزنا بعض الإضافات التي اقتضاها الفن على السيرة الحقيقية لعالم الرياضيات، فقد قدم الفيلم للجمهور ملحمة قصصية عن عظمة ناش، وتؤكد علو كعب الرياضيات المتمثلة بانكباب بطل الفيلم على معالجة مئات المعادلات، وانتصاره على عجزه المرضي بالتصميم والإرادة، وتوظيف عبقريته لخدمة الإنسانية.
السينما ولوغاريتمات الوجود البشري
والفيلم بكلمة واحدة يعمل بوساطة الفن السابع على تقريب الرياضيات إلى قلوب الناس واستقطاب محبّتهم واهتمامهم.
فيلم (برهان) Proof مثل الفيلم السابق يضعنا أمام ثنائية براعة العقل المهموم بالرياضيات وانزلاقه إلى الجنون، ويلعب بطولته الممثل أنتوني هوبكنز الذي يؤدي دور أستاذ أكاديمي متألق في الرياضيات، ويعمل على وضع معادلة رياضيات شاملة تقلب كل مفاهيمنا الفيزيائية عن الكون والوجود، ويؤدي هذا المشروع الخطير إلى خلل عقلي واضطرابات نفسية للأكاديمي، وتحاول ابنته – وهي فيزيائية مقتدرة – بعد وفاته أن تكشف أسرار هذه المعادلة.
فيلم جدلي يطرح المقولة نفسها: هل تستطيع الرياضيات العثور على معادلة جامعة مانعة تشرح جهل البشر الفاضح أمام ألغاز الوجود.
فيلم (وِيلْ هانتنغ الطيب) * Good WILL HUNTING ويقوم بدور “وِيلْ” الممثل مات ديمون، وهو شريك في كتابة سيناريو الفيلم الذي يروي حكاية الشاب”وِيلْ” الموهوب والعبقري بالرياضيات والمعقد نفسياً بسبب طفولته المعذبة.
وعلى الرغم من ألمعيته يعمل حارساً في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا MIT، وكلما وضع أستاذ الرياضيات معادلة صعبة على اللوح لطلبته وعجزوا عن حلها،،ينجح «وِيلْ» دائماً في فك مغاليقها أثناء غياب الأستاذ والطلبة! ويكتشف أستاذ الرياضيات موهبة «وِيلْ»، وجوانب انحرافه النفسي والعقلي ويعمل على تسوية أموره.
ومثل الفيلمين السابقين تقرن الحكاية بين عبقرية الرياضي واحتمال جنونه أو غرابة سلوكه واختلاف عقله عن عقول الناس العاديين.
وتبدع السينما في الكشف عن خصائص عقل واحد من أهم الرياضيين البريطانيين على مر العصور، وأعني ألان تورينغ Alan Turing الذي بنى آلته المدهشة التي حملت اسمه، أي آلة تورينغ انطلاقا من خوارزميات (لوغاريتمات Algorithm) تستطيع العثور على حلول لحسابات معقدة بخطوة واحدة، وهذا مافعلته اللوغاريتمات حين اختزلت عمليتي الضرب والقسمة الحسابيتين إلى عمليتي جمع وطرح، وقاده هذا الفهم إلى استخدام الصفر والواحد لحل بعض المعضلات التي كانت تواجهه، وهي أساس الثورة الرقمية الراهنة.
عنوان الفيلم السينمائي الذي يسلط الضوء على حياة هذا العبقري الفذ هو (لعبة المحاكاة) The Imitation Game، ويسرد لنا فصولا مشوقة من نجاحات الشاب الذي أصبح وهو في مطلع العشرينيات من العمر عضوا في إدارة جامعة كمبريدج، ونجح أثناء الحرب العالمية الثانية في فك التعمية (الشيفرة) العسكرية الألمانية وهو لا يعرف كلمة ألمانية واحدة.
مثل كل الذين على شاكلته من الرياضيين الكبار عانى تورينغ في مراهقته عزوفا عن التواصل الاجتماعي وميلا للعزلة، وحوكم وهو في أوج شهرته من علاقاته المثلية وغرابة أطواره التي دفعته إلى الانتحار وهو في الثانية والأربعين من العمر.
خاتمة
هناك مسائل في الرياضيات غير قابلة للحل حتى يومنا هذا، ويجري البحث عن حلول لها.
لكن كل هؤلاء العباقرة وغريبي الأطوار الذي رصدت السينما حيواتهم قدموا للبشرية خدمات عظيمة لا تنسى، ولعل خدمات الرياضيين بدأت بالمسلمين الخوارزمي والبيروني وثابت بن قرة وغيرهم، مما جعل الفلسفة تتآخى مع الرياضيات، ومن يشتغل بالأولى لا مناص أمامه من الشغل بالثانية، وصار الاعتقاد بدور الرياضيات في تشييد الهرم الإنساني الحضاري مقولة ثابتة.