د. عبداللاه إبراهيم الفقي
إذا كان الإنسان الذكي هو ذلك الإنسان الذي يستطيع التوصل إلى حلول للمشكلات التي يواجهها بسرعة ودقة ومنطقية، معتمداً على التمثيل الرمزي للأشياء وإدراك العلاقات بينها، فإن له أيضاً قدرات عقلية معينة يمكنه استخدامها بصور مختلفة في حياته اليومية في كل كبيرة وصغيرة.
ولما كان تعريف الذكاء غير محدد بدقة حتى الآن، فقد سعى عدد كبير من الباحثين إلى التفكير في محاكاة ذكاء الإنسان ودراسة قدراته العقلية، أو بالأحرى ميكنة الذكاء الإنساني؛ وذلك لفهم الكيفية التي يعمل بها العقل البشري والكيفية التي يفكر بها، أي إننا نحاول الابتعاد قليلاً في فهم الذكاء البشري عن مجالي الفلسفة وعلم النفس.
يعود علم الذكاء الصنعي إلى جذور تاريخية غير محددة المدة، حيث تناول عدد من الفلاسفة منذ القدم موضوعات ترتبط بالذكاء مثل العقلانية والذاكرة، وفكر الإنسان القديم في صنع الآلات العادية، ثم ما لبث أن تمرد على تلك الآلات بخياله ليفكر في آلات ذكية تستطيع القيام بما يقوم به هو مستخدمةً تفكيرها المستقل عنه.
وبدأ مجال الذكاء الصنعي يدخل مجالات عديدة في القرن الحادي والعشرين، حتى إنه يمكن القول إن الذكاء الصنعي لم يترك مجالاً من المجالات الحالية إلا ودخل فيه، وأصبح لبنة مهمة فيه، ودعامة لا يمكن الاستغناء عنها، سواء كان مجالا نافعاً للبشر؛ كالطب، أو كان مجالاً مدمراً للبشرية؛ كالمجالات العسكرية.
ومع أن الأمور الغيبية لا يمكن التنبؤ بها، فإن الواضح لنا من إسقاط الماضي على الحاضر لمحاولة إلقاء نظرة على المستقبل؛ أن دمج الذكاء البشري في الحاسوب سيكون له دور فاعل في صناعة الحضارة في المستقبل القريب.
ماهية الذكاء الصنعي
الذكاء الصنعي هو أحد علوم الحاسوب الحديثة التي تبحث عن أساليب متطورة لبرمجته للقيام بأعمال واستنتاجات تشبه – ولو في حدود ضيقة – تلك الأساليب التي تنسب إلى ذكاء الإنسان، فهو بذلك علم يبحث أولاً في تعريف الذكاء الإنساني وتحديد أبعاده، ومن ثمَّ محاكاة بعض خواصه، (وهنا يجب التوضيح أن هذا العلم لا يستهدف مقارنة أو تمثيل العقل البشري الذي خلقه الله جلت قدرته وعظمته بالآلة التي هي من صنع المخلوق، بل يستهدف فهم العمليات الذهنية المعقدة التي يقوم بها العقل البشري أثناء ممارسته «التفكير»، ثم ترجمة هذه العمليات الذهنية إلى ما يوازيها من عمليات حسابية تزيد من قدرة الحاسوب على حل المشكلات المعقدة)، كما أنه تكنولوجيا؛ لأنه يستهدف إنتاج نظم تعتمد على المعرفة في مجال معين.
والذكاء الصنعي يعتمد على مبدأ مضاهاة التشكيلات التي يمكن بواسطتها وصف الأشياء والأحداث والعمليات باستخدام خواصها الكيفية وعلاقتها المنطقية والحسابية، إذ إنه بالرغم من أن الحواسيب أكثر قدرة على تخزين المعلومات من البشر فإن لدى البشر قدرة أكبر على التعرف إلى العلاقات بين الأشياء، وباستخدام هذه القدرة لدى البشر يمكن فهم صورة المنظر الطبيعي، وصور الأشخاص، ومكونات العالم الخارجي وفهم معانيها، وعلاقات بعضها ببعض. ولو أمكن وضع هذه المقدرة في الحاسوب لأصبح ذكياً.
تطور عبر الزمن
منذ أكثر من 20 عقداً اهتم الفلاسفة بمفهوم الذكاء، إذ إن بعض الباحثين يرجع فكرة الذكاء الصنعي إلى عصور قديمة، حين حاول عدد من الفلاسفة دراسة عدد من الموضوعات التي تتعلق بهذا المفهوم مثل النظر، والذاكرة، والتعلم، والعقلانية. وتساءل بعضهم عن إمكانية خلق هذه الموضوعات. والمتأمل في تاريخ المصريين القدماء والإغريق يجد أن الإنسان اهتم منذ القدم بفكرة صنع آلات ذكية تقلد التصرفات البشرية.
ويمكن اعتبار أن المرحلة الأولى لتطور الذكاء الصنعي بمفهومه الحديث ترجع إلى فترة انتهاء الحرب العالمية الثانية التي بدأت بالبحث في لعبة الشطرنج عام 1950 على يد العالم شانون، وانتهت علم 1963 على يد العالم فيجن باووم وفيلد مان.
وتميزت المرحلة الأولى هذه بفك الألغاز، وإيجاد حلول للألعاب باستخدام الحاسوب، واعتمدت على الفكرة الأساسية بتطوير طرق البحث في التمثيل الفراغي الذي يمثل الحالة، وأدت إلى تطوير النمذجة الحسابية، واستحداث النماذج الحسابية المعتمدة على تمثيل الحالة البدائية للموضوع قيد البحث، واختيار شروط إدراك الوصول إلى النهاية، ومجموعة القواعد التي تحكم حركة اللاعب بتحريك قطع الشطرنج على اللوحة.
أما المرحلة الثانية لتطور الذكاء الصنعي فترجع إلى الفترة الواقعة ما بين منتصف الستينيات من القرن الماضي وحتى منتصف السبعينيات، عندما وضع العالم منسكي الإطارات لتمثيل المعلومات، ووضع العالم ونغراد نظاماً لفهم اللغة الإنكليزية، مثل القصص والمحادثات. وقام العالم ونستون بتلخيص كل ما تم تطويره في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، والتي تحتوي على بعض الأبحاث عن معالجة اللغات الطبيعية والرؤية بالحاسوب والإنسالات (الروبوتات)، والمعالجة الشكلية أو الرمزية لطرح تصورات جديدة حول تنظيم المعارف في الآلات.
وراكم الذكاء الصنعي طوال هذه المرحلة التي امتدت نحو عشر سنوات نجاحات مهمة، منها: تطوير نظام Mycin ليقوم بتشخيصات طبية في ميدان الأمراض المعدية بنسبة نجاح تفوق بكثير كفاءة الأطباء غير المتخصصين، وبلورة جهاز R1 الذي يحدد التشكيلة الإعلامية حسب الحاجات، ونظام HEARSAY-II لتشخيص أمراض الدم ووصف العلاج اللازم، وهو يضاهي كفاءة أحسن الخبراء إن لم يفقها.
الأجهزة الخبيرة
أما المرحلة الثالثة فيمكن تسميتها بمرحلة الأجهزة الخبيرة، التي بدأت في منتصف السبعينيات، وتميزت بظهور تقنيات مختلفة تعالج كثيراً من التطبيقات التي أدت فعلاً إلى انتقال جزء كبير من الذكاء الإنساني إلى برامج الحواسيب. وبغض النظر عن تعدد التطبيقات الصناعية، وتعدد التقنيات المستعملة، فقد أصبح للذكاء الصنعي شهرة دفعته إلى التفاعل مع حقول علمية جديدة كالسيكولوجيا (علم النفس) ، واللسانيات، والإبستمولوجيا (علم المعرفة)، والفلسفة، وعلوم الأعصاب، والرياضيات، والحاسوب، وهندسة البرمجيات، ولغات البرمجة، والمنطق الرياضي، ومنطق الاحتمالات.
والمرحلة الرابعة يمكن اعتبارها مرحلة النضج والتعقيدات، حيث أصبح الذكاء الصنعي يؤسس نفسه على أسس علمية بعيداً عن الإثارة والأفكار الجاهزة، كما أصبح ينسج علاقات متفاعلة مع تخصصات أخرى، وأصبح يبحث عن توحيد مختلف المقاربات المعلوماتية لفتح آفاق جديدة، ودخل في صراعات مع تيارات أخرى جديدة مثل التيار الاقتراني.
وعلى الرغم من التطور والتقدم الذي شهده الذكاء الصنعي فإن بعض الباحثين يعتقد أن علم الذكاء الصنعي لا يزال في مرحلة الطفولة، ومن المنتظر أن تتطور أساليب الذكاء الصنعي وتقنياته مستقبلا تطوراً كبيراً، وأن تشمل تطبيقات عديدة في الحياة العامة لتصل إلى أكبر قدر من المستخدمين.
أهم المجالات والاستخدامات
تعددت استخدامات الذكاء الصنعي في العقدين الماضيين، وشملت كثيراً من مجالات الحياة وأصبح من الصعب حصرها. وأهم هذه المجالات:
الترفيه: قلما وجد محب للعبة الشطرنج على مستوى العالم لم يتابع الداهية الروسي كاسباروف، ففي عام 1989 واجه كاسباروف الحاسوب المعروف باسم (ديب بلو) من شركة IBM وتغلب عليه بسهولة، لكن بعد سبع سنوات من التطوير من قبل شركة IBM لجهاز (ديب بلو) الذي يستطيع حساب ما بين 180 إلى 200 مليون نقلة للشطرنج في الثانية الواحدة، واجه كاسباروف مرة أخرى، لكن المواجهة انتهت بفوز كاسباروف بنتيجة 4 مقابل 2.
وفي عام 1997 أصدرت شركة IBM نسخة مطورة من الجهاز سمتها (ديب بلو 2)، تمت فيه قراءة وتسجيل تحركات كاسباروف من المباريات السابقة، وحدث ما لم يكن يتوقعه أحد حين فاز الجهاز على كاسباروف.
البرمجة الآلية: إن استخدام لغات البرمجة خاصة لغات المستوى العالي في برمجة الحواسيب، كلغة فورتران Fortran ولغة فيجوال بيسك Visual Basic أحدث طفرة في مجال برمجة الحواسيب، بما في ذلك القدرة على الاستدلال، على الرغم من أن الحاسوب لا يفهم هذه اللغات مباشرة، حيث تتم عملية تحويل البرنامج المكتوب بلغة المستوى العالي Source Program إلى برنامج آخر يفهمه الحاسوب Object Program، وتتم عملية التحويل هذه بالاعتماد على برنامج المترجم Compiler أو المفسر Interpreter.
التطبيقات التجارية: أصبح للذكاء الصنعي دور مهم في تسهيل التعامل التجاري والمالي عبر الإنترنت من حيث تلقي طلبات العملاء وإعطاء المعلومات المطلوبة وتغيير خصائص بعض المعروضات لتتوافق مع ميول العملاء ورغباتهم.
إثبات النظريات آلياً: بدأ البحث عن طرق لإثبات النظريات الرياضية باستخدام الحاسوب في الخمسينيات من القرن الماضي، وحقق ذلك نجاحاً في بناء نظم قادرة على إثبات نظريات عدة في الهندسة والجبر، لكن هذه النظم لم تصل إلى مستوى الإثبات الآلي لنظريات لم يتم إثباتها من خلال الإنسان نفسه.
الإنسالة (الروبوت)
تم تقديم كلمة (روبوت Robot) للمرة الأولى في مسرحية الكاتب المسرحي التشيكي كارل تشابيك عام 1920، وكان عنوان المسرحية وقتها (رجال آليون عالميون)، وهي تعني في اللغة التشيكية العمل الشاق، والـ (Robot) عبارة عن جهز ميكانيكي يمكن برمجته أو التحكم فيه لينفذ المهام التي صنع من أجلها، والتطبيقات التي يستخدم فيها تشمل الأعمال الخطرة التي لا يستطيع الإنسان التعامل معها مباشرة (مثل المواد المشعة)، أو الأعمال المتكررة (مثل صناعة السيارات) التي يمكن أن يؤديها بصورة أكثر اقتصادية من العمال البشر.