الحوسبة الحديثة .. كيف تقود المعركة ضد فيروس كورونا المستجد؟
د. محمد حلمي
باحث في مجال المعلوماتية الحيوية، (كندا)
عانت البشرية على مدار قرون هجمات متتالية من أوبئة حصدت ملايين الأرواح، لكن في العصر الحديث تسلحت البشرية بمجموعة من الأسلحة استطاعت من خلالها مواجهتها والتغلب عليها. وفي ما مضى كان انتشار الأمراض البكتيرية، كالطاعون والكوليرا والدفتريا، كافياً لتحول المرض إلى جائحة، وكانت المضادات الحيوية هي السلاح الذي حسم المعركة لصالح البشرية. أما الأمراض الفيروسية الفتاكة، كالجدري وشلل الأطفال والإنفلونزا، فقد كانت الأمصال والُلقاحات هي أسلحة البشرية في مواجهتها بل وفي القضاء عليها تماماً كالجدري، أو الاقتراب جداً من القضاء عليها كشلل الأطفال، أو تحييدها وتجنب تحولها إلى جائحة كالإنفلونزا الموسمية.
وحاليا، تواجه البشرية خطر وباء تنفسي جديد عن طريق فيروس كورونا المستجد (سارس-كورونا 2)، فما هو سلاح البشرية الحاسم في مواجهته واحتوائه حتى لا يصبح جائحة؟ الإجابة: الحوسبة الحديثة (علوم البيانات والحوسبة فائقة الأداء والحوسبة السحابية). لم يكن في جُعبة البشرية في المواجهات السابقة مثل هذه الحوسبة، أو كان في جُعبتها ولكن في صورة أكثر بساطة أو بدائية مما لدينا حاليا.
طوفان البيانات
منذ لحظة إعلان منظمة الصحة العالمية عن الفيروس الجديد نسقت جهات عدة جهودها لدراسته ومواجهته. وبدأت الصين بتجميع آني لبيانات الحالات المشتبه فيها والمصابة وإصدار تحديثات وبيانات يومية عنها. يبدو كل هذا عادياً، غير أن غير العادي أن هذه المعلومات كانت متاحة آنياً للجميع للاستفادة منها في التحليل أو الإعلام. ودشن مركز علوم النُظم والهندسة في جامعة جونز هوبكنز الأمريكية بوابة للمرض المستجد تعرض بيانات الحالات المسجلة والمتوفاة وتلك التي تعافت، مع توزيعها جغرافياً وتاريخياً مصحوباً بتحليلات إحصائية آنية. تقرأ البوابة البيانات من قواعد بيانات منظمة الصحة العالمية وغيرها من الجهات المعنية وتحدث بياناتها وتحليلاتها وإحصائياتها فور تغير محتوى قواعد البيانات تلك. كذلك قدمت الصين بوابة مشابهة باللغتين الصينية والإنجليزية، وتبعهما في ذلك عدة جهات ودول بلغات عدة. ونشرت الصين التسلسل الوراثي الكامل للفيروس فور عزله وحللت تتابعه الوراثي. ثم نشرت بيانات أكثر من 44 ألف حالة ممن تأكد إصابتهم بالمرض. وهذه البيانات وغيرها متاحة للجميع على خوادم وحواسيب سحابية ذات قدرات فائقة.
وهذا الجهد جعل وفرة البيانات الدقيقة المُحدّثة أمراً يحدث للمرة الأولى في مواجهات البشرية مع الأوبئة، وجعل العلماء والباحثين من تخصصات عِدة يستفيدون من هذه البيانات ويبدؤون بمعالجتها وتحليلها للتوصل إلى معلومات جديدة عن المرض تجعلنا أكثر استعداداً لمواجهته والتغلب عليه.
معالجة البيانات وتحليلها
أدت البيانات الدقيقة والمُحدّثة آنياً دوراً رئيسياً في تحفيز جميع المهتمين بالمرض وانتشاره لتحليلها ومعالجتها بُغية التوصل إلى معلومات تسهم في التغلب على المرض وتجنب الإصابة وإيجاد علاج له والحد من انتشاره وتقدير آثاره على الاقتصاد وغيرها. وأهم المجالات التي وظفت الحوسبة الحديثة والحواسيب فائقة الأداء والسحابية في مواجهة المرض هي:
-1 المعلوماتية الحيوية وعلم الأحياء الحاسوبي
هي من العلوم التي تستخدم الحوسبة لحل المشكلات أو تفسير الظواهر في مجال علم الأحياء. وتؤدي هذه العلوم دوراً أساسياً في مواجهة البشرية لخطر فيروس كورونا المستجد، إذ يستحيل دراسته مختبريا إلا في مختبرات تطبق المستوى الرابع من الأمان الحيوي (BSL-4) لخطورته الشديدة، و هو ما لا يتوفر إلا في عشر دول وفي مراكز متخصصة بها. ومن ثم تمكننا هذه العلوم من دراسته من دون الحاجة إلى أي نظم أمان خاصة. ويصعب حصر الصور التي تمكننا المعلوماتية الحيوية من دراسة الفيروس، لكن نذكر منها دراسة التركيب الوراثي للفيروس الجديد وفهمه، ودراسة بروتينات الفيروس الجديد ومعرفة سبب تغلبه على مناعة الجسم والبحث عن نقاط ضعفه، وتطوير أمصال ولقاحات له بتصميمها حاسوبياً واستنتاج فاعليتها، ومقارنة الفيروس الجديد بالفيروسات الأخرى من عائلته ومن غيرها للتوصل إلى خواصه المختلفة؛ مثل مدة بقائه قادراً على إحداث العدوى في جو الغرفة، والتوصل إلى مدى فاعلية الأدوية الموجودة فعلاً والخاصة بعلاج أمراض أخرى في علاج هذا الفيروس، ومقارنة التركيب الوراثي لفيروس كورونا الجديد بفيروسات كورونا الخطيرة السابقة (سارس ومرس) لمعرفة التشابه والاختلاف بينها وتقدير مدى فاعلية الأدوية والأمصال التي استخدمت سابقاً لتقرير جدوى استخدامها معه، واستنتاج سبب تحور فيروس كورونا المسالم إلى فيروس شرس وتقدير قابليته للتحور مستقبلياً سواء خلال هذا الانتشار أو ما بعد الانحسار. وتعمل مجموعات من العلماء المتخصصين في المعلوماتية الحيوية كل عام على تحليل فيروس الإنفلونزا الموسمية، وهو فيروس عالي القدرة على التحور، للتوصل إلى تركيب الفيروس المقبل وتجهيز لقاح له. ويحقق ذلك الجهد نجاحا ملحوظا كل عام في تجنب انتشار نوع قاتل من الإنفلونزا الموسمية. وتستخدم طرق مماثلة حالياً لدراسة الفيروس المستجد للتغلب عليه وتجنب ظهوره مرة أخرى.
-2 نمذجة الانتشار و العدوى:
فور توفر البيانات، سارع العديد من علماء الأوبئة والرياضيات والإحصاء إلى تطوير نماذج حاسوبية لدراسة بداية المرض وانتشاره واستنتاج احتمال تحوله إلى جائحة، وعدد الضحايا في أفضل السيناريوهات وأسوئها. وفي منتصف شهر يناير الماضي توصلت مجموعة بحثية إلى ما يعتقد أنه بداية انتشار المرض، وذلك عن طريق تحليل بيانات خطوط الطيران وربطها ببيانات حالات إصابة. وطورت مجموعة من المملكة المتحدة نموذجا لمحاكاة محاصرة المرض عن طريق عزل المصابين وتتبع جميع من تواصل معهم قبل ظهور الأعراض. وأظهر النموذج صعوبة تحقيق ذلك بدقة وتطلبه تتبع عدد كبير جداً لكل حالة، مما يجعل هذه الطريقة محدودة الأثر في محاصرة المرض ومن ثم وجب استخدام آليات أخرى بجانب هذه الآلية. وهنالك دراسة أخرى استخدمت نماذج المحاكاة الحاسوبية في تقدير عدد الضحايا حال السيطرة على الفيروس وحال انتشاره، خلُصت إلى تقدير ضحاياه بعدة آلاف في حالة احتوائه والسيطرة عليه وبعدة ملايين (ربما عشرة ملايين) حال انفلاته وتحوله إلى جائحة، وقدرت أن الانتشار في هذه الحالة سيستمر إلى مدة قد تصل إلى عامين. وساعدت نماذج المحاكاة الحاسوبية متخذي القرار على معرفة مدى فاعلية أي قرارٍ قبل اتخاذه. فأصبحت قراراتهم مبنية على أُسُس معلوماتية وإحصائية أكثر دقة من أي وقتٍ مضى؛ فغلق المدارس وتعطيل الدراسة الجامعية وإلغاء البطولات الرياضية وكيفية التصرف في الكميات المتاحة من الأدوية والمواد الغذائية المخزنة وكيفية توزيع الطواقم الطبية وموارد المستشفيات وغيرها من التحديات أمور أصبح اتخاذ القرار السليم فيها أسهل من ذي قبل، بفضل توفر تقنيات علوم المعلومات الحديثة والحواسيب الفائقة، والخبرات البشرية في المقام الأول.
-3 تقدير الآثار الاقتصادية:
من أهم النتائج المترتبة على انتشار الفيروس الجديد الآثار السلبية على الاقتصاد العالمي. فقد خسر سوق الأسهم الصيني 420 بليون دولار في يوم واحد عند فتحه في أعقاب انتشار المرض، وأظهر مؤشر بلومبيرغ في أوائل شهر مارس الماضي تراجع ثروات رجال الأعمال الأغنى في العالم بنحو 444 بليون دولار منذ بدء انتشار المرض. ودعت هذه النتائج وغيرها الاقتصاديين إلى الاستفادة من البيانات والمعلومات المتاحة عن انتشار المرض وتحليلها بنماذج متخصصة لاستنتاج الآثار السلبية على الاقتصاد العالمي والحد منها. ومن الاستنتاجات التي اعتمدت على النمذجة الحاسوبية أن انتشار الفيروس قد يقلل الناتج العالمي بمقدار 1 إلى 3. 1 تريليون دولار، وأن الناتج المحلي لجميع الدول سيتأثر بهذا الفيروس. وهذه الاستنتاجات خاضعة للتحديث، إذ تتغير دورياً مع تحديث بيانات الانتشار والعدوى والوفيات.
-4 نتائج مضللة:
عرضنا العديد من النماذج لاستخدام الحوسبة الحديثة في فهم ودراسة فيروس كورونا المستحدث وكيفية الاستفادة منها. غير أن الأمر لم يخلُ من نتائج مضللة أيضاً. ونعرض هنا نموذجين لتحليلات أدت إلى نتائج مضللة:
بعد نشر الصين للتتابع الوراثي للفيروس وتسابق العلماء على تحليله، كان منهم مجموعة من معهد الهند للتكنولوجيا وجامعة بومباي الهندية. حللت المجموعة التتابع الوراثي لفيروس كورونا المستجد وقارنته بالتتابع الوراثي لفيروسات أخرى من العائلة نفسها وفيروسات أخرى خطرة منها فيروس نقص المناعة البشرية المسبب لمرض الإيدز، مسترشدة بأخبار عن تجارب سريرية لاستخدام أدوية علاج الإيدز لعلاج مصابي المرض الجديد. وأصدرت المجموعة دراسة خلُصت إلى أن الفيروس الجديد يحتوي على أربعة بروتينات مشابهة بشدة لأربعة بروتينات مهمة موجودة في فيروس نقص المناعة البشرية، وهو ما يلمح إلى أن الفيروس مُهَنْدس مختبريا ويغذي بالطبع نظرية المؤامرة والحرب البيولوجية. قدمت المجموعة البحث إلى إحدى المجلات العلمية ووضعته في الأرشيف الحيوي (bioRxiv) ليصبح متاحاً للجميع قبل تحكيمه علمياً والموافقة على نشره. وغذى هذا البحث حالة الذعر المنتشرة، لكن انتشاره كان سبباً في وصوله إلى الكثير من المتخصصين الذين نقدوه علمياً وبينوا خطأ الاستنتاج، وأن التشابه بين البروتينات المذكورة وبروتينات فيروس نقص المناعة المكتسب تشابه غير معنوي، ولا يدل على هندسة الفيروس مختبرياً، فسُحب البحث.
وفرة البيانات للجميع ووصولها إلى عدد من غير المتخصصين أدى إلى استنتاجات مضللة تقلل من خطورة الفيروس، وتنتقد مبالغة الدول في إجراءات محاصرة المرض. أشهر هذه المغالطات هي مقارنة فيروس كورونا المستجد بفيروس الإنفلونزا الموسمية من حيث عدد الضحايا. المقارنة المباشرة تظهر أن فيروس الإنفلونزا قتل أكثر من فيروس كورونا المستحدث بأربعة أضعاف. غير أن المدقق يجد أن الإنفلونزا أصابت 200 ضعف من أصابهم الفيروس الجديد، مما يعني أنه إذا انتشر الفيروس الجديد بنفس معدل الإنفلونزا فسيكون الضحايا 50 ضعف ضحايا الإنفلونزا على الأقل.