د. فخري حسن
يسـتخدم العلماء بصورة عامـة، وعلى الخصوص علماء الفــيـزيـاء، أربـع قـوى أوليــة (fundamental forces) لتفسير وفهم ظواهر الكون المتعددة. ويقصد بالقوة الأولية القوة الأساسية التي لا تنتج عن تفاعلات أو قوى أخرى.
القوى الأربع
والقوى الأربع هي على النحو الآتي:
(1) قوة الجاذبية: قوة تجاذب بين الكتل المختلفة، وهي أقدم القوى التى عرفها الإنسان وكذلك أضعفها وذات مدى كبير جدا. ربما كان نيوتن أول من درس ووضع قوانين الجاذبية قبل أكثر من ثلاثة قرون. ثم طور آينشتاين من خلال النظرية النسبية العامة نظرية الجاذبية وحققت نظريته نجاحا كبيرا. فقد فسرت بعض الظواهر التي لم تستطع قوانين نيوتن تفسيرها، وتنبأت بظواهر طبيعية لم تكن معروفة، ثم تأكدت صحتها تجريبيا فيما بعد. لم يتمكن العلماء حتى الآن من الكشف عن جسيم تفاعل القوة الافتراضي المعروف باسم غرافيتون (graviton).
(2) القوة الكهرمغناطيسية: تؤثر بين الشحنات الكهربائية المختلفة، ويمكن أن تكون قوة تجاذب أو قوة تنافر على عكس قوة الجاذبية. وهي قوة وسطية في قوتها ومداها، وهي أساس جميع أو معظم الأجهزة التكنولوجية التي نستخدمها. وتنتج هذه القوة عن التأثيرات المتبادلة بين الإلكترونات والبروتونات الموجودة في المادة. ويعرف جسيم التفاعل (وهو جسيم أمواج الضوء أيضا) باسم الفوتون (photon) علما بأن جسيم أمواج الصوت يسمى فونون (phonon).
(3) القوة النووية: تؤثر بين البروتونات والنيوترونات داخل النواة، وتعتمد على المسافة فقط ولا علاقة لها بالشحنة الكهربائية. وهي أعظم قوى الطبيعة وتسمى أحيانا بالقوة القوية (The strong force)، وتعمل على ترابط نواة الذرة بطاقة عالية. وعلى عكس قوة الجاذبية فإن مداها صغير جدا، ويعرف جسيم التفاعل باسم بايون (pion) أو باي ميزون (π-meson).
(4) القوة الضعيفة: تؤثر داخل النواة وسميت بذلك بسبب ضعفها مقارنة بالقوة النووية. وعلى الرغم من ذلك فهي أكبر كثيرا من قوة الجاذبية. تؤدي هذه القوة إلى تحول نيوترون إلى بروتون أو العكس، فقد يتحول بروتون إلى نيوترون داخل النواة وينطلق إشعاع نووي يسمى أشعة بيتا. وتساعد هذه العملية على حفظ استقرار النوى المشعة غير المستقرة. ويعرف جسيم التفاعل بالبوزون الوسيط (intermediate boson).
تمرد قوة الجاذبية
حاول العلماء منذ القدم جمع قوى الطبيعة الأربع في إطار واحد. وقد حقق العالم الاسكتلندي ماكسويل في القرن الـ 19 أول النجاحات في الجمع بين الكهرباء والمغناطيسية فيما يعرف حاليا بالكهرمغناطيسية. وقد تمكن العلماء بعد جهود كبيرة شارك فيها ألمع علماء الفيزياء من جمع ثلاث قوى (النووية والضعيفة والكهرمغناطيسية) في إطار واحد. وبذلت جهود جبارة شارك فيها آينشتاين نفسه لضم قوة الجاذبية إلى هذا الإطار لكن دون جدوى. وحاول العلماء أيضا تطوير نظرية الجاذبية بجمعها مع نظرية الكم التي حققت نجاحا كبيرا في فهم الذرات والجزيئات، لكن لم تحقق الأبحاث الهدف المطلوب وبقيت قوة الجاذبية وحيدة مختلفة عن القوى الأخرى. ويعتقد بعض الباحثين أن قوة الجاذبية ليست مثل قوى الطبيعة الأولية الأخرى، بل هي قوة ناشئة عن تفاعلات أخرى ولا يمكن جمعها مع بقية القوى.
إخفاق قوة الجاذبية
على الرغم من النجاح الكبير الذي حققته نظرية النسبية العامة فإنها أخفقت في مجالات معينة. ومن أهم المسائل التي لم تستطع النظرية حسابها سرعة المجرات والنجوم، وتفسير سبب زيادة تسارع توسع الكون.
و أخفقت نظرية الجاذبية في حساب سرعة دوران النجوم والمجرات حول مراكز حركتها. إن السرعة الحقيقية للنجوم والمجرات أكبر كثيرا من السرعة التي يمكن حسابها من النظرية. ويدل هذا على أن كتل النجوم والمجرات التي نعرفها غير كافية لحساب السرعة، وهنالك كتل أخرى مخفية تؤدي لزيادتها. وافترض العلماء لحل هذه الإشكالية وجود مادة غير مرئية وغير مشعة أطلق عليها اسم المادة الداكنة «المظلمة» (dark matter). ولم يتمكن العلماء من الكشف عن هذه المادة أو معرفة طبيعتها. والأغرب من ذلك أن كمية هذه المادة كبيرة جدا مقارنة بكمية المادة المعروفة. فقد بينت المعلومات التي جمعتها مركبة الفضاء الأمريكية (WMAP) التي نشرت عام 2010 أن كمية المادة الداكنة اللازمة لتفسير سرعة المجرات والنجوم تشكل نحو %24 من مادة الكون، علما أن المادة المعروفة لا تشكل سوى %4.6 من مادة الكون. ولم يتمكن العلماء من الكشف عن هذه المادة أو معرفة طبيعتها.
تسارع توسع الكون
أظهرت دراسات حديثة أن تسارع توسع الكون كان في الماضي أصغر من تسارعه في الوقت الحاضر، مما يدل على وجود زيادة في تسارع توسع الكون مع الزمن. وتعود زيادة التسارع إلى قوة خفية غير معروفة تعمل بصورة معاكسة لقوة الجاذبية. لم تستطع النظرية النسبية تفسير ذلك مما اضطر العلماء لافتراض طاقة خفية تعمل على زيادة تسارع توسع الكون أطلق عليها اسم الطاقة الداكنة (dark energy). ولم يتمكن أحد من الكشف عن هذه الطاقة الغريبة أو معرفة أي شيء عن طبيعتها. والغريب في الأمر أن مقدار الطاقة الداكنة اللازم لتفسير تسارع الكون الحالي يشكل نحو %71.4 من مادة الكون تبعا للمعلومات التي جمعتها مركبة الفضاء (WMAP). ولم يتمكن العلماء من معرفة طبيعة هذه الطاقة الغريبة التي تختلف عن الطاقة التي نعرفها.
قوة الجاذبية والتفاعلات الأخرى
ثمة دراسات أجريت في سبعينيات القرن الماضي أظهرت وجود علاقة بين قوة الجاذبية والإنتروبي entropy في أبحاث الديناميكا الحرارية (دراسة انتقال الحرارة والطاقة الحرارية) للفجوات السوداء. إن الإنتروبي خاصية مهمة في الديناميكا الحرارية وتبين مدى الفوضى أو الاضطراب في النظام. ويفضل البعض استخدام كمية المعلومات (amount of information) بدلا من الإنتروبي ولكليهما المعنى نفسه. ولتوضيح ذلك نفترض أننا نريد وصف قاعة مسرح مقاعدها ثابتة ومنتظمة في صفوف متناسقة. إننا بسبب الانتظام في الترتيب نحتاج لمعلومات قليلة لوصف القاعة التي تكون الإنتروبي لها صغيرة. أما اذا أردنا وصف قاعة ألعاب في روضة أطفال مقاعدها غير ثابتة، فإننا نحتاج لمعلومات كثيرة لوصف القاعة التي تسودها الفوضى وتكون الإنتروبي الخاصة بها كبيرة.
تمكن الباحث جاكوبسون (T.Jacobson) مستخدما الإنتروبي ومبدأ التناظر – الذي اعتمده آينشتاين لبناء نظرية الجاذبية النسبية – من اشتقاق معادلات النظرية النسبية العامة بطريقة مختلفة عن طريقة آينشتاين الذي لم يتعرض للإنتروبي. وأظهرت تلك الدراسات وجود علاقة وثيقة بين الجاذبية والإنتروبي، مما جعل بعض الباحثين يعتقدون أن الجاذبية ليست قوة أولية وإنما قوة ناشئة (emergent force ) عن الإنتروبي.
معادلات الجاذبية من الإنتروبي
اعتمد الدكتور فيرلايد (Verlide) أستاذ الفيزياء في جامعة أمستردام على الأفكار الجديدة، وافترض أن قوة الجاذبية لا وجود لها وهي وهم (illusion)، وأن التجاذب بين الكتل ينتج بسبب تغير الإنتروبي في الكون. وحسب هذا التصور فإن كمية المعلومات أو الإنتروبي تعتمد على ترتيب الكتل فى الزمان أو المكان. إن تحريك الكتل من أمكنتها يغير الإنتروبي ويؤدي لظهور قوة إنتروبية (entropic force) هي قوة الجاذبية. وقوة الجاذبية تبعا لهذا التصور ليست أولية وإنما قوة ناشئة عن الإنتروبي.تمكن فيرلايند من استخدام الإنتروبي وبعض المبادئ الفيزيائية الأساسية لاشتقاق قوانين الجاذبية وعلى الخصوص قانون نيوتن الثاني.
استخدم فيرلايد مبدأ الرسم الأجوف (Holographic Principle) الذي وضعه أستاذه جيرارد هوفت Hooft (الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1999) للحصول على معادلات النظرية النسبية. وينص المبدأ بصورته البسيطة على أنه يمكن وصف ما يحدث في الكون من خلال كمية المعلومات (الإنتروبي) المختزنة على سطح كرة افتراضية ضخمة تحيط بالكون. ولم يتعرض لمبدأ التناظر الذي اعتمد عليه آينشتاين في نظريته، بل اعتمد فقط على الإنتروبي. ولتفسير حركة النجوم والمجرات والاستغناء عن المادة الداكنة افترض أن المبدأ تقريبي وليس حقيقيا لأن بعض المعلومات قد تخزن في الزمان-مكان “زمكان” (spacetime) داخل الكرة الافتراضية. وتمكن من حساب سرعة النجوم والمجرات الحقيقية حول مراكز حركتها دون الحاجة لافتراض المادة الداكنة، وحقق بذلك نجاحا ملموسا. وأعطت قياسات حديثة أجراها باحثون في جامعة لايدن بهولندا إشارات أولية على صحة النظرية الجديدة. وأغرب ما في الأمر أن فريق البحث استخدم في الدراسة انحناء مسار الفوتون بسبب الجاذبية والتعدس الجذبي (Gravitational Lensing) الذي لم يكن معروفا وتنبأت به النظرية النسبية العامة. أما بالنسبة لزيادة تسارع توسع الكون فإن هذه المسألة على ما يبدو بحاجة لمزيد من الدراسة.
خلاف في الرأي
استخدم بعض الباحثين الأفكار الجديدة في العلاقة بين الجاذبية والإنتروبي في دراساتهم، إلا أن بعضهم الآخر لم يقبل ذلك، باعتبار أن قوة الجاذبية وهم ولا وجود لها. فقد تمكن الفيزيائي البريطاني كافندش (Cavendish) في تجربته المشهورة من قياس قوة الجاذبية بين الكتل المختلفة في المختبر لأول مرة في نهاية القرن الثامن عشر، أي بعد نحو قرن من نشر نيوتن نظريته الشهيرة. كما تمكن من قياس ثابت الجاذبية العام بدقة كبيرة. وحققت النظرية النسبية العامة لآينشتاين نجاحا لم تحققه أي نظرية أخرى. فقد فسرت النظرية كثيرا من الأمور التي لم يفهمها العلماء، وتنبأت بأمور أخرى غير معروفة، ثم أثبت العلماء دقة النظرية التي كان آخرها أمواج الجاذبية. إن عدم اكتشاف جسيم التفاعل (الغرافيتون) لا ينفي وجود القوة التي قد تكون قوة غير كمية not quantized مثل القوى الأخرى الكمية. والمشكلة الأساسية في قوة الجاذبية مداها الكبير جدا مقارنة بالقوى الأخرى وكذلك ضعفها الشديد. ويبدو أن الأمور بحاجة لمزيد من الدراسة والبحث وبخاصة العلاقة بين قوة الجاذبية والإنتروبي.