د. محمد مراياتي
ما من شك في أن الثورة الصناعية الرابعة آتية وستواجه الدول العربية وتطرح فرصاً وتحديات عدة. إذ يشهد العالم توجهاً سريعاً نرى فيه ولادة وانتشار قطاعات صناعية جديدة تقوم على تكنولوجيات بازغة بعضها قابل للاكتساب من قبل الدول النامية وبعوائد سريعة. ويمثل هذا التوجه ثورة في مستقبل الاقتصاد تقودها محركات رئيسية تتمثل في مكونات هذه الثورة التي تشتمل على تحولات تربط العالم المادي بالعالم الافتراضي الرقمي مثل ما يسمى بـ: «الصناعات الرقمية الذكية المتكاملة»، و «المُكونات الرقمية للمواد والخامات المستخدمة في الصناعة»، و «المصنع الرقمي الذكي»، و «الإدارة الذاتية الرقمية» وغيرها. وتصف تلك المسميات صناعة آخذة في التبلور، لا تتدخل فيها أيدي العنصر البشري في التصنيع والإنتاج إلا بصورة طفيفة، بمعنى أن يصبح الإنسان محاكياً للآلة ومراقباً ومدققاً لصنع السلع، ولا يكون منتجاً لها بشكل مباشر.
ويبين الشكل في الصفحة التالية إطار هذه الثورة والتكنولوجيات الرقمية المساهمة فيها. إن عصر الثورة الصناعية الرابعة لم يبدأ فعلياً في الدول العربية وبخاصة في مجال الإنتاج، أما في مجال الاستهلاك فقد بدأ في بعض حقولها، ومع ذلك فإن الدول العربية تقف عملياً على مشارف عصر هذه «الثورة». وتحتاج الثورة الجديدة إلى موارد بشرية غير متوافرة حاليا، وتطرح تحديات جديدة على المستويين النظري والعلمي.
الفرص والتحديات
تكمن أهم تحديات الثورة الرابعة في أن هذا التوجه ينتشر في العالم حاليا بسرعة وله تأثير اقتصادي واجتماعي وثقافي وسياسي لم تشهده البشرية من قبل، ويقدّم في الوقت نفسه فرصة ممكنة الاغتنام من قبل الدول العربية يجب ألا تفوتها كما حدث في الثورات السابقة.
وتواجه الحكومات وواضعو سياسات التنمية فرصا وتحديات في استعدادها للتعامل مع هذه الثورة الصناعية الرابعة ومنها:
الفرص:
> إمكانية التعاون مع الشركات الأخرى عالمياً والشراكة في الأخطار والعوائد المحتملة في الاستثمار في تكنولوجيات هذه الثورة.
> إمكانية إيجاد بيئة مواتية لاستيعاب واكتساب تكنولوجيات هذه الثورة.
> تقدم هذه الثورة فرصة لبناء قاعدة صناعية منافسة عالمياً بقفزات سريعة انطلاقاً من الأصول الصناعية الموجودة (في حال وجود صناعة في الدولة).
> إمكانية الاستثمار في تكنولوجيات هذه الثورة ووجود مستقبل واعد فيها.
> وجود فرص للتكامل بين المؤسسات الصغيرة والمتوسطة والشركات الناشئة المبتَكِرة.
> ومن الفرص المهمة أمام الدول العربية أن هذه الثورة الصناعية الرابعة تقدم تغيرات وتكنولوجيات وصناعات وأنشطة محددة ممكنة الاكتساب من قبل الدول العربية لا تتطلب القواعد الصعبة التي تطلبتها الثورات الصناعية السابقة.
التحديات:
> ضرورة وجود قاعدة صناعية وطنية لازمة للبناء عليها للمستقبل الرقمي المطلوب لتكنولوجيات هذه الثورة.
> صعوبة تحديد المجالات التي يمكن للبلد التميّز والمنافسة العالمية فيها بشكل مستدام.
> النجاح في تكوين الموارد البشرية الخبيرة والماهرة اللازمة للتعامل مع هذه الثورة وبيئتها المطلوبة.
> التجاوب مع متطلبات وآثار هذه الثورة في المجالات الثقافية والاجتماعية والتشريعية.
> إدارة الآثار الاقتصادية الناجمة عن انعكاسات هذه الثورة وبخاصة في سوق العمل وتوليد فرص العمل الجديدة.
وهناك أيضاً تحد عام أمام كل الدول، ويشمل الدول العربية، وهو في مستقبل أطفالنا وفرص العمل التي ستكون متاحة لهم عند دخولهم لسوق العمل، فحسب البنك الدولي فإن 65 % من أطفالنا في المدارس الابتدائية حاليا سيطلب منهم أن يعملوا في مهن غير موجودة الآن وكثير من مهن اليوم ستختفي.
آفاق الثورة الرابعة عربيا
هناك مجالات مهمة للثورة الرابعة يمكن للوطن العربي الدخول فيها ومنها: الطاقة، والصحة والطب، والزراعة، والإنتاج الذكي. كما أن هناك آفاقا واعدة في توليد فرص عمل للشباب والشابات، وفي تنويع الاقتصاد، وفي التنمية بشكل عام. فيمكن للدول العربية – حسب حالة كل منها – التخطيط لاكتساب واحدة أو أكثر من التكنولوجيات المركبة التي تنتج عن تكامل بعض تكنولوجيات الثورة الصناعية الرابعة، وهذه التكنولوجيات المركبة تولد تطبيقات في المجالات الآتية:
< خطوط الإنتاج المضافة: الطباعة الثلاثية الأبعاد لاسيما لصناعة قطع الغيار والنماذج الصناعية الأولية، والمستودعات الثلاثية الأبعاد لاختصار مسافات النقل وتوزيع المواد والقطع لخطوط الإنتاج.
< الإنترنت الصناعية: شبكات الآلات والسلع، والتواصل المتعدد الاتجاهات بين الشبكات والأشياء (إنترنت الأشياء).
< الواقع المزاد والموسع Augmented Reality : الواقع الموسع للصيانة و الإمداد والتموين وكل أنواع سيرورات العمل المعيارية (standard operating procedure SOP ) وذلك لتنظيم العمليات والإجراءات، وكذلك في عرض المعلومات والتعليمات ، مثلاً على الألواح الزجاجية.
< تكنولوجيا الروبوتيك المتقدمة: السيارات الذاتية القيادة، والروبوتات المترابطة للصناعة، والحساسات المعيارية المتكاملة والمترابطة المتحكم فيها من الإنترنت.
< تكنولوجيات أمن الفضاء السيبراني Cybersecurity: تشغيل شبكات المنظومات المنفتحة، والتشبيك الآمن بين آلات التصنيع والإنتاج والمنتجات والمنظومات التصنيعية.
< نمذجة وتمثيل المنظومات والنظم Simulation: تمثيل ونمذجة الشبكات، ونمذجة المنظومات انطلاقاً من المعلومات والبيانات المستقاة من عناصر المنظومة ومركباتها وذلك بهدف أمثلة عملها.
< المكاملة الأفقية والعمودية للإجراءات والعمليات في المؤسسات والشركات الصناعية: مكاملة البيانات لعمليات الشركة استناداً إلى معايير نقل البيانات ، مثل الأتمتة الكاملة لسلسلة القيمة (من المورد وعلى خطوط الإنتاج وإلى منصات أو مواقع البيع).
< التكنولوجيات السحابية: إدارة البيانات الضخمة في منظومات منفتحة، والاتصالات الآنية بالزمن الحقيقي لمنظومات الإنتاج والتصنيع.
< تكنولوجيات البيانات العملاقة أو الضخمة وتحليلها: التقييم الشامل للبيانات المتاحة، على سبيل المثال: ERP, SCM, MES, CRM وبيانات الآلات . وكذلك لدعم اتخاذ القرارات آنياً وجعل أداء العمليات مثالياً وآنياً في الزمن الحقيقي.
مستلزمات الثورة الرابعة عربيا
وضعت العديد من الدول “رؤية”، وخططاً ومبادرات لتنفيذها، فمعظم الاقتصادات المتقدمة في العالم مثل الولايات المتحدة وألمانيا واليابان تسعى إلى تنفيذ استراتيجيات لتطوير الثورة الصناعية الرابعة لديها، وذلك بالاستناد إلى تضافر الجهود بين القطاعين العام والخاص. وتحذو العديد من حكومات الدول الناشئة حذو الدول المتقدمة ككوريا الجنوبية، التي اعتمدت ما سمته توسيع تكنولوجيات تقنية المعلومات والاتصالات وإنترنت الأشياء ( K-ICT IoT expansion Strategy ) ، وكذلك استراتيجيتها لدعم تنافسيتها في صناعات البيانات الضخمة ( K-ICT Strategy 2016).
أما ألمانيا فطرحت استراتيجيتها ( Industries 4.0) لتكون دولة قيادية دولياً في هذه الثورة وتركز فيها على الأتمتة، وتبادل البيانات، والتكنولوجيا السحابية، والمنظومات الفيزيائية الآمنة، والروبوتيك، ومعالجة البيانات الضخمة ، والذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء، وتقانات التصنيعين الذاتي أو الذكي . وتعتمد استراتيجية ألمانيا على التنسيق بين الابتكار المطلوب والقوى العاملة اللازمة له والتكنولوجيات المعنية.
أما على المستوى العربي فقد أطلقت الإمارات العربية المتحدة استراتيجيتها للثورة الصناعية الرابعة، التي تهدف إلى تعزيز الابتكار والتكنولوجيات المستقبلية “لتصبح الإمارات منصة عالمية لهذه الثورة” ولزيادة مدخلات الاقتصاد، وقد أنشأت مجلساً للثورة الصناعية الرابعة للتنسيق بين مختلف جهات وقطاعات الدولة في تحقيق ذلك بالشراكة مع المنتدى الاقتصادي العالمي. وتركز هذه الاستراتيجية على عدد محدد من الحقول مثل التعليم للابتكار، والذكاء الاصطناعي وقطاع الرعاية الصحية، وخاصة الطب الجينومي وتطبيقات الروبوتات في الرعاية الصحية، وتكنولوجيا النانو للتطبيقات الطبية عن بعد والعناية والخدمات الصحية عن بعد، يضاف إلى ذلك التكنولوجيات الملبوسة أو المدخلة في جسم الإنسان. كما تركز على تكنولوجيات الصناعات الغذائية اللازمة للأمن الغذائي والمائي كالتكنولوجيا الحيوية والهندسة الحيوية. يضاف إلى ذلك التركيز على تكنولوجيا بلوك شين “سلسلة قواعد السجلات المستقلة” Block Chain. ومن بين ما تركز عليه الاستراتيجية أيضاً استعمال البيانات الضخمة وبيانات الأقمار الصناعية في تخطيط المدن ، إضافة إلى تركيزها على الصناعات العسكرية الدفاعية ولاسيما في الآليات ذات التسيير الذاتي. كما أعلنت إمارة دبي عن استهداف 25 % من المباني عن طريق الطباعة الثلاثية الأبعاد بحلول عام 2030.
وهناك مقترح لاستراتيجية للثورة الصناعية الرابعة في السعودية ضمن أحد برنامج تحقيق رؤية المملكة 2030 وهو “برنامج تطوير الصناعة الوطنية والخدمات اللوجستية” بالتعاون مع مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية والجهات الأخرى ذات العلاقة.
العقبات المتوقعة
إن اقتناص الفرص التي تقدمها هذه الثورة الصناعية الجديدة ومجابهة تحدياتها ليس بالأمر البسيط أو السهل. ومن أهم العقبات التي يجب على الدول العربية التخطيط الدقيق لمواجهتها:
< وجود الوعي والاستيعاب لأبعاد هذه الفرصة وتحدياتها والتعامل معها بجدية من قبل الحكومات والقطاع الخاص.
< نشر الثقافة اللازمة لتفهم التكنولوجيات الجديدة والبازغة المعنية.
< صعوبات التنسيق وضمان تضافر الجهود من كل الجهات المعنية بالثورة الصناعية الرابعة.
< ضمان التمويل المناسب وبخاصة لمرحلة الإقلاع.
< تأهيل القوى العاملة الوطنية الماهرة والمتخصصة اللازمة.
إمكانات وأخطار
إن هذه الثورة في طريقها إلينا، وستغير معظم الوظائف الحالية بصورة أكبر مع المتوقع، فتبعاً لما يذكره كلاوس شواب، مؤسس المنتدى الاقتصادي العالمي فإن الثورة الصناعية الرابعة ستكون مختلفة اختلافاً كبيراً عن الثورات الثلاث السابقة؛ إذ سنواجه خلالها مجموعة من التكنولوجيات البازغة التي تجمع بين العلوم المادية والرقمية والبيولوجية، وستؤثر هذه التكنولوجيات الجديدة في جميع التخصصات والاقتصادات والصناعات.
وسيكون لهذه التكنولوجيات إمكانات هائلة في ربط بلايين الأشخاص بشبكة الإنترنت، وفي تحسين فعالية الأعمال والمنظمات بشكل كبير، وفي المساعدة على إعادة إحياء البيئة الطبيعية من خلال تحسين إدارة الأصول، وربما حتى تصحيح الأضرار التي تسببت بها الثورات الصناعية السابقة.
ولكن هناك أيضاً أخطارا محتملة، فبحسب شواب هناك مخاوف مثل عدم قدرة المنظمات أو عدم رغبتها في التكيف مع هذه التكنولوجيات البازغة، وفشل الحكومات في توظيف أو تنظيم هذه التكنولوجيات بشكل صحيح، وخطر مخاوف أمنية جديدة، ومنها احتمال ازدياد انعدام المساواة بدلاً من أن ينحسر إذا لم تدر الأمور بشكل صحيح.