د. أبو بكر خالد سعد الله
لعل القارئ سيستغرب عندما يعلم أن فكرة تغيير التوقيت خلال السنة بين الشتاء والصيف ترجع إلى أكثر من قرنين ونصف! وقد شهد الموضوع الكثير من الحملات الإعلامية والسياسية بين مؤيد ومعارض واستفتاءات متضاربة في العديد من البلدان. والجدل حول منافع تغيير التوقيت خلال السنة الواحدة لا يزال قائما، ولم يستطع المؤيدون الإتيان ببرهان شاف يثبت وجاهة القرار بتبني نظام التوقيتين.
صاحب الفكرة: فرنكلين أم هدسون؟
يكمن السبب الأساسي في إدخال التوقيت الصيفي في ملاحظة أن طول النهار وطول الليل ليسا متساويين خلال فصول السنة. وذلك ما ينجم عن ميلان محور دوران الأرض حول الشمس بالنسبة لمستوي مدارها. ومن عادة الإنسان أنه يستفيد في نشاطاته اليومية خلال النهار من نور الشمس. ومن ثمّ، يقلّ استهلاك المصابيح وبعض الآلات الكهربائية. لذا كان البحث في كيفية جعل معظم نشاطنا يتم خلال فترة ضياء الشمس.
وهكذا اهتدى الأمريكي بنجامين فرنكلين Benjamin Franklin (1706-1790) عام 1784 إلى فكرة ظهرت غريبة في ذلك الوقت. وفرنكلين لم يكن رجلا عاديا بل كان رجل سياسة وعلم ودبلوماسية. وكان من مؤسسي دولة الولايات المتحدة. وفي مجال الفيزياء، فهو من أتى بالمصطلح الإنجليزي electricity «كهرباء». كما أن له العديد من المبتكرات التي نستعملها حاليا، مثل مانع الصواعق الذي ابتدعه عام 1752، وكذا المواقد التي تستعمل الحطب، ومبدأ المكتبة المعيرة للكتب. وفكر أيضا في إنشاء مراكز لرجال الإطفاء.
يرى فرنكلين أن النهوض باكرا والنوم مبكرا يسمح بتخفيض استعمال الشموع والمصابيح الزيتية وغيرها من وسائل الإنارة التقليدية. وهكذا اقترح فرض ضريبة على كل صاحب منزل وضع نوافذ مزودة بأبواب تحجب أشعة الشمس. ونادى بتحفيز الشرطة على تشجيع السكان على تقليص استهلاك الشموع بما في ذلك المحال التجارية. وأوصى بأن يفرض على كل عائلة عدم شراء أكثر من رطل من الشموع أسبوعيا. بل طالب بتوقيف سير العربات ليلا باستثناء الحالات المستعجلة. وعند بزوغ الشمس يجب على الكنائس، حسب رأيه، دق أجراسها، وإن كان ذلك غير كاف يجب استعمال طلقات المدافع في كل شارع لإيقاظ النائمين المتكاسلين!
والغريب أيضا أن فكرة فرنكلين التي تهدف إلى الاقتصاد في استخدام الشمع والمصباح التقليدي كانت فكرة لا تخدم مصالحه الخاصة والعائلية؛ إذ كان أبوه يمتهن تجارة الشمع وذلك النوع من المصابيح! ومن فضائل هذا الرجل أنه أعتق عبيده عام 1772، وهذا قبل صدور قانون منع الرق في الولايات المتحدة بنحو قرن من الزمن.
نشير في هذا السياق إلى أن المهندس الاسكتلندي ساندفورد فليمينغ Sandford Fleming ابتكر عام 1884 نظام خطوط الطول لتوحيد مواعيد النقل عبر السكك الحديدية في كندا المعروفة بشساعة ترابها.
في الواقع، لم تكن فكرة فرنكلين قابلة للتطبيق ولا للاستمرارية إذا ما طبقت في يوم من الأيام. لذا برز عام 1895 عالم الحشرات النيوزيلندي جورج فيرنون هدسون George Vernon Hudson (1867-1946) حين جاء باقتراح مماثل يقضي بزيادة ساعتين في التوقيت المعمول به خلال شهر أكتوبر، ثم إنقاص ساعتين في شهر مارس من كل سنة. فشهد الاقتراح المصير نفسه. وبعد 10 سنوات ظهر اقتراح ثالث من البريطاني وليم ويلت William Willett (1856-1915) يتمثل في إضافة 20 دقيقة خلال كل يوم أحد من شهر أبريل، ثم القيام بالعملية العكسية خلال أيام الأحد من شهر سبتمبر. ودافع البرلماني روبرت بيرس Robert Pearce (1840-1922)، عام 1908 عن هذه الفكرة، لكن المزارعين بصفة خاصة عارضوها ولم تتحقق أمنية وليم ويلت.
ماذا بعد ذلك التاريخ؟
كانت ألمانيا هي أول دولة تبنت فكرة التوقيتين الشتوي/الصيفي في خضم الحرب العالمية الأولى، وذلك يوم 30 أبريل 1916. ثم حذت بريطانيا حذوها في 21 مايو 1916، تلتها فرنسا في 14 يونيو من السنة نفسها. وفي أعقاب تلك الحرب عام 2018، اتخذت الولايات المتحدة القرار نفسه.
وعندما وضعت الحرب أوزارها تخلت معظم الدول عن مبدأ التوقيتين. غير أن اندلاع الحرب العالمية الثانية عام 1939 جعلها تعود إلى العمل بالتوقيتين للاقتصاد في الطاقة. ومن جديد، تم التخلي عنه بعد 1945. وهكذا لم تشعر البلدان الغربية مجددا بأهمية تبني التوقيتين إلا بعد حظر النفط العربي الذي كان بمثابة رد فعل من جراء حرب أكتوبر 1973 في الشرق الأوسط. وعلى الرغم من ذلك، فقد ظلت ألمانيا خلال الفترة 1949-1947 تعمل بتغيير التوقيت. كما اهتم بهذا الموضوع الإيطاليون والأيرلنديون عام 1966.
في البداية كانت النية أن يظل نظام التوقيتين قائما ما دامت أزمة النفط خلال السبعينيات سارية المفعول؛ لأن معظم الطاقة المنتجة للكهرباء المستهلكة آنذاك كانت تستخدم النفط. لكن هذا النظام لم يتوقف العمل به بل عمم على جميع البلدان الأوروبية في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي بدعوى توحيد الاتصالات وتسهيل إجراءات التنقل والأسفار والتبادلات بين دول الاتحاد الأوروبي. ومن ثمّ وحدت مواعيد تغيير التوقيت في مارس وأكتوبر من كل سنة. وقد تم توحيد يومي تغيير التوقيتين عام 1998: التوقيت الصيفي ينطلق يوم آخر أحد من شهر مارس، في حين يبدأ التوقيت الشتوي يوم آخر أحد من شهر أكتوبر.
استعمل نظام التوقيتين في المناطق المعتدلة التي يكون فيها التغيير ذا فائدة، كما هو الحال في دول الاتحاد الأوروبي. كما نجده في أمريكا الشمالية حيث ننتقل إلى التوقيت الصيفي في ثاني يوم أحد من شهر مارس في حين يتحوّل التوقيت إلى التوقيت الصيفي في يوم أول أحد من شهر نوفمبر. نلاحظ أن الفارق الضئيل في تغيّر مدة النهار خلال فصول السنة في المناطق القريبة من خط الاستواء يجعل تغيير التوقيت من دون جدوى. وعلى كل حال فتقييم الفائدة التي قد تجنى من التغيير في التوقيت مرتبط بعدة عوامل، منها الموقع الجغرافي للبلد وكبره ومدى تطور مدنه ووضع أريافه. تبيّن الدراسات أن معظم سكان العالم يعيشون في مناطق تعمل بنظام التوقيت الواحد خلال كل فصول السنة.
الفوائد المرجوة من التوقيتين
نلاحظ أن هناك نقاشا، حادا أحيانا، حول وجاهة خيار التوقيتين. وقد انتقد نظام التوقيتين الكثير من المتتبعين ولم يروا فيه فائدة تستحق العمل به. فعلى سبيل المثال، نجد أن المفوضية الأوروبية تشكك في جدوى هذا النظام حيث رأت أن اقتصاد الطاقة الذي يجنى منها محدود نسبيا. وفي المقابل رأت اللجنة أن عدم تغيير التوقيت سيتمتع به المواطن في قضاء أوقات ترفيهية أطول. وفي عام 1997 ذكر تقرير لمجلس الشيوخ الفرنسي أن الدراسات حول الفوائد التي تترتب على نظام التوقيتين ضعيفة مقارنة بما ينعكس من متاعب على المواطن.
والواقع أن الفائدة المرجوة من تغيير التوقيت هي تخفيض استعمال الإنارة. غير أن تغيير التوقيت سيؤدي خلال شهر مارس إلى نقص استعمال الإنارة مساء في أوروبا، وبالموازاة مع ذلك يزيد استهلاكها صباحا بسبب الفارق الذي أصبح قصيرا بين شروق الشمس وساعة الالتحاق بمكان العمل. ففي عام 2009 مثلا، قدرت كمية الطاقة التي تكسبها فرنسا عند تبني التوقيتين بـ 440 ميغاكيلواط ساعة، وهذا لا يمثل في الواقع حتى %0.1 من الاستهلاك الإجمالي للطاقة حسب المنتقدين. والجدير بالذكر أن استعمال المصابيح المتطورة المقتصدة للطاقة سيخفض هذا الربح إلى 330 ميغاكيلواط ساعة عام 2030!
وبهذا الصدد نبه الملاحظون إلى أن انتشار الآلات والتجهيزات الكهربائية المقتصدة للطاقة خفض نسبة الاقتصاد في الطاقة المترتبة عن تغيير التوقيت. وصار من الصعب تقدير حجم ما نقتصده من طاقة إذا راعينا ضرورات التكييف (التبريد) والتدفئة. ويعترف الرسميون على مستوى الاتحاد الأوروبي بصعوبة تحديد مقدار الربح والخسارة في مجال الطاقة الناجمة عن تغيير التوقيت.
عادات وعوامل نفسية
هناك عادات وعوامل نفسية ينبغي مراعاتها عندما يتعلق الأمر بتقدير الربح والخسارة في مجال الطاقة. فإذا ربط الإنسان موعد نومه بسقوط الظلام، كما كان يفعل قبل تغيير التوقيت، فسيظل يستعمل الإنارة بالنسبة نفسها. لاحظ المتتبعون مثلا أن الألمان والنمساويين ينهضون باكرا مقارنة بالإسبان والفرنسيين القاطنين في نفس المنطقة المحددة بخطوط الطول.
ومن أكبر المستفيدين من العمل بالتوقيتين العديد من المحال التجارية التي يقصدها المتسوقون خلال مدة أطول عند العمل بالتوقيتين. وقد قدرت بعض الصحف الأرباح المكتسبة من جراء ذلك في بعض مناطق الولايات المتحدة بعشرات الملايين من الدولارات، وأحيانا بمئات الملايين منها. كما لوحظ انخفاض في نسبة الجرائم قدرت بـ 10 % في العاصمة الأمريكية.
هل من مضار؟
يبدو أن تغيير التوقيت لا يؤثر تأثيرا كبيرا في الرضّع الذين لم يبلغوا ستة أشهر؛ لأن المراحل اليومية (أو التواتر اليومي Circadian rhythm) لم تترسخ لديهم بعد. وهذا عكس أولئك الذين تجاوزت أعمارهم ستة أشهر. فقد ثبت أن اعتماد توقيتين صيفي/شتوي يُحدث لدى هؤلاء أحيانا بعض الاضطرابات المؤقتة خلال الفترة الأولى من تغيير التوقيت، مثل فقدان الشهية، وتغيّرا في مواعيد النوم، وتحوّلا في المزاج. وقد يتفاقم ذلك بسبب سلوكات الآباء والأمهات. ولتجنب هذا الوضع ينصح الأطباء بالشروع في التغيير التدريجي لعادات الرضيع والطفل في مواعيد الأكل والنوم قُبيل تاريخ تغير التوقيت بأيام.
ولوحظ في بعض البلدان مثل فرنسا وروسيا زيادة في نسبة الانتحار واستهلاك المنومات. وهو ما جعل روسيا تتخلى عن تغيير التوقيت. لكن هناك من لا يربط هذا بذاك. كما يرى الأطباء إمكانية تضاعف عدد الأزمات القلبية والحوادث خلال العمل وقيادة السيارات من جراء تغيير التوقيت. من المعلوم أن ضغوط بعض المؤسسات الاقتصادية عام 2005 في الولايات المتحدة أدت إلى تمديد العمل بالتوقيت الصيفي. ويُذكر في هذا السياق أن التوقيت الصيفي زاد في بعض المناطق من استهلاك الطاقة حسب دراسة أجريت هناك عام 2008. من جهة أخرى، فما من شك أن تغيير التوقيت يؤثر على الاتصالات والأسفار نحو مختلف البلدان. وثمة مضار تمس الحيوانات الداجنة أدت مثلا إلى نقص في كمية الحليب لدى الأبقار من جراء تغيّر مواقيت الحلب، كما يؤثر ذلك على نوعية الحليب!
وهكذا نرى أن من الصعب الإدلاء بحكم نهائي في مدى وجاهة العمل بتوقيتين شتوي/صيفي؛ فذلك كما نلاحظ يحتاج إلى دراسة معمقة ممتدة زمنيا تراعي الزمان والمكان وطبيعة نشاطات المواطنين والحركة التجارية، إضافة إلى عوامل أخرى كثيرة مرتبطة بتقاليد السكان وعاداتهم وبيئتهم.