التعدين في الفضاء .. جهود عالمية لاقتناص المعادن النادرة
د. محمد سيد علي حسن
باحث في علوم الفضاء، خبير سابق في الوكالة اليابانية لاستكشاف الفضاء (جاكسا)، (اليابان)
لم يكن تصريح عدد من علماء الفلك، ومنهم الأمريكي الشهير نيل تاسون المختص بالفيزياء الفلكية، في أن أول تريليونير في التاريخ الإنساني سيكون هو أول من يستثمر في التعدين الفضائي ضربا من الخيال أو مجرد حلم في المنام. وأميل شخصيا نحو هذا الرأي؛ لأن القيمة المادية المحتملة للتعدين في الفضاء تقدر بأكثر من 100 تريليون (مليون مليون) دولار أمريكي، في حين تبلغ القيمة المادية لقطاع التعدين على الأرض نحو 1.7 تريليون دولار. وأكثر الأجرام السماوية احتمالا للتعدين في المستقبل هي الكويكبات التي يوجد منها الملايين في مجموعتنا الشمسية، بأنواع متعددة وأحجام مختلفة تتفاوت أقطارها تفاوتًا كبيرًا بين نحو 1000 كم، مثل كويكب سيريس، ومئات الأمتار، مثل كويكبات إيتوكاوا وريوغو وبينو.
وتصنف الكويكبات بصورة عامة إلى أنواع مختلفة وفق لخصائصها الجيولوجية التي يمكن تحديدها طبقا للطيف المنبعث منها. ومعظم الكويكبات تندرج تحت واحد من ثلاثة أنواع هي: كويكبات من النوع إس الصخري الغني بالسليكون؛ وكويكبات من النوع سي الغني بالكربون وربما الماء أكثر العناصر أهمية للحياة؛ والنوع الأخير هو كويكبات إم الغنية بالمعادن ومن بينها البلاتين أو البلاتينيوم والذهب والمعادن الأرضية النادرة (مجموعة من 17 عنصرا كيميائيا في الجدول الدوري، وهي السكانديوم والإتريوم و15 من اللانثانيدات).
يعتقد العلماء أن أصل عدد كبير من تلك الكويكبات يعود إلى بقايا متشظية من الكواكب المصغرة، وهي أجرام تشكلت في بداية عمر الشمس عندما كانت سديما لكنها لم تحصل على الفرصة لتكبر كما الكواكب الأخرى. ومعظم الكويكبات المعروفة حاليا قابعة في ما يسمى بحزام الكويكبات بين المريخ والمشتري، وثمة أعداد معتبرة من الكويكبات الأخرى تدور في مدارات حول باقي كواكب المجموعة الشمسية منها الكويكبات القريبة من الأرض.
ويقدر بعض العلماء القيمة التعدينية لبعض الكويكبات بمبالغ تتراوح ما بين مئات الملايين من الدولارات إلى مئات الكوينتيليونات (مليون تريليون) من الدولارات. ومن أمثلة ذلك كويكب بينو الذي تقدر قيمته المادية بـنحو 669 مليون دولار، وكويكب ريوغو الذي تقدر قيمته بنحو 82 بليون دولار، وكويكب دافيدا الذي تقدر قيمته بنحو 100 تريليون دولار، وكويكب سايكي الذي يقدر البعض قيمته المادية بنحو 700 كوينتيليون دولار.
الكويكب سايكي
قدرت القيمة المادية لكويكب سايكي بهذا المبلغ الهائل لاحتوائه على كميات ضخمة من البلاتين والذهب والنيكل والحديد. ويعتقد العلماء أن سايكي كان في البداية كوكبا، لكن لظروف ما فقد قشرته الصخرية وتبقَّى فقط قلبه (النواة) الذي تمثل المعادن منه ما يعادل 95%. وسايكي هو أحد الكويكبات العشرة الكبيرة في حزام الكويكبات، ويبلغ قطره أكبر من 200 كم، وكتلته أقل بقليل من 1% من كتلة الحزام بكامله، وهو أكبر كويكبات النوع أم الغنية بالمعادن.
وتخطط وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) لإطلاق مركبة فضائية في 2022 لدراسة ذلك الكويكب الثمين. وستدور تلك المركبة غير المأهولة حوله لأنه الجرم الوحيد المكتشف حتى الآن والمكون فقط من نواة. وستستمر مدة الدوران ستة أشهر من أجل دراسة طبوغرافيته وخصائصه السطحية وجاذبيته ومغناطيسيته وبعض الخصائص الأخرى.
ولكي يتحقق الهدف المنشود، ونتمكن في يوم من الأيام من القيام بالتعدين الفضائي فلابد من اكتساب الخبرة اللازمة من خلال محاولات ناجحة للهبوط على الكويكبات والعودة منها إلى الأرض ببعض خاماتها. ومن أجل هذا الهدف نحتاج أن نرسل مركبات أو مسابير فضائية في رحلات طويلة قد تستغرق عدة سنوات إلى عدد من تلك الكويكبات، وهبوطها بنفسها أو إنزال مختبرات صغيرة بعد انفصالها من المركبات الفضائية الحاملة لها على هيئة مجسات غير متحركة أو عربات (روفرات) فضائية متحركة على سطوح تلك الكويكبات. وبعد انتهاء تلك المختبرات الصغيرة من إجراء الفحوص المطلوبة على سطوح تلك الأجرام السماوية فإنها ترسل نتائج الاختبارات إلى المركبات الفضائية الأم القريبة وكذلك بعض العينات، ومن ثم تعيد المركبات الفضائية إرسالها مرة أخرى إلى كوكب الأرض الذي يبعد ملايين الكيلومترات.
ولا تخلو تلك النوعية من الرحلات الفضائية من صعوبات وتعقيدات من النواحي الهندسية والتقنية؛ لأن تلك الأجسام الصغيرة التي ربما لا يتجاوز أطول أبعادها في بعض الحالات كيلومترا واحدا وبجاذبية تكاد تكون منعدمة يعتبر تحديا شديد الصعوبة مقارنة بالرحلات السابقة إلى المريخ والقمر على سبيل المثال. وفي كل تاريخ ذلك النوع من الرحلات الفضائية الصعبة، نجحت حتى الآن رحلتان في الهبوط على كويكبات وأخذ عينات منها، وهما رحلة المركبة الفضائية اليابانية هيابوسا 1 Hayabusa إلى الكويكب إيتوكاوا ونجاح هبوطها عليه وأخذ عينة منه والعودة بها إلى الأرض عام 2010، ورحلة المركبة الفضائية اليابانية أيضًا هيابوسا 2 إلى الكويكب ريوغو ونجاح هبوطها عليه مؤخراً مرتين في الأشهر الماضية وأخذ عينات منه. وهي حاليًا في طريقها للعودة بتلك العينات إلى الأرض لتصل في أواخر 2020. وهناك مركبة أمريكية ثالثة قد تهبط علي كويكب يسمى بنيو خلال الأشهر المقبلة لتتلقط ما بين 50 غراما وكيلوغرامين من تربة الكويكب لتعود بها إلى الأرض عام 2023. وسنتناول فيما يأتي رحلات المركبات الثلاث.
-1 المسبار هيابوسا 1
أطلقت الوكالة اليابانية لاستكشاف الفضاء (جاكسا) المسبار هيابوسا 1 من مركز أوتشينورا الفضائي في محافظة كاجوشيما اليابانية في مايو 2003 بواسطة الصاروخ الياباني أم 5، للوصول والهبوط على سطح كويكب صخري صغير أسمه إيتوكاوا (النوع إس). يشبه الكويكب إيتوكاوا حبة البطاطا، ويبلغ طوله 535 مترا وعرضه 294 مترا وارتفاعه 209 أمتار، وهو يدور حول محوره في 12 ساعة وتسع دقائق، ويدور كل 556 يوما دورة كاملة حول الشمس في مدار إهليلجي، وبمتوسط سرعة مقدارها 91 ألف كيلومتر في الساعة. وأطلق عليه هذا الاسم تكريما لعالم الصواريخ الياباني هيديو إيتوكاوا.
كان الغرض الأساسي من هذه المهمة غير المأهولة هو إنزال المركبة الفضائية هيابوسا 1 بنفسها (وليس مجساً كما حدث مؤخراً في حالة مركبة الفضاء الأوروبية روزيتا عندما هبطت على المذنب 67ب) على سطح الكويكب إيتوكاوا لجمع بعض العينات الصخرية من سطح الكويكب وإعادتها إلى الأرض لإجراء البحوث عليها في المختبرات، وإجراء بعض الاختبارات على سطح الكويكب بواسطة الأجهزة العلمية المحمولة على المركبة الفضائية، إضافة إلى مهام أخرى كاختبار قدرات المحركات الأيونية، وقدرتها على المناورة وتغيير المسار، وتطوير نظم أخرى.
بعد السفر في الفضاء، ومع التشغيل المتواصل تقريباً للمحركات الأيونية المثبتة على المركبة الفضائية هيابوسا 1 وإنجاز عملية تعديل المسار وزيادة سرعة المركبة في 19 مارس 2004، باستخدام المحركات الأيونية وبمساعدة جاذبية الأرض، وصلت المركبة هيابوسا 1 إلى ارتفاع 20 كيلومترا من الكويكب إيتوكاوا لتبدأ التحليق فوقه وهو على بعد 300 مليون كيلومتر من الأرض في 12 سبتمبر 2005. وكانت جاذبية إيتوكاوا لا تكفي لأن تكون المركبة الفضائية هيابوسا تابعة له، فبقيت على هذا الارتفاع تزامل إيتوكاوا في الدوران حول الشمس. وبعد فترة استطلاع للكويكب وتصوير سطحه بدقة تبلغ مترا واحدا، وبعد مناورة ناجحة تحولت المركبة هيابوسا 1 في 30 سبتمبر 2005 إلى ارتفاع نحو سبعة كيلومترات من سطح الكويكب لإجراء مراقبة أكثر دقة لسطحه وتضاريسه. وتمكنت المركبة من تحديد حجمه ومقاييسه، وعينت متوسط كثافته بنحو 1.95 غرام/سنتيمتر مكعب بدقة قدرها ± 0.14 غرام/سنتيمتر مكعب.
وخلال الفترة من 8 إلى 28 أكتوبر 2005 أجرت المركبة عدة رحلات لذلك الكويكب بارتفاعات مختلفة وبزوايا طور متباينة، لتحديد مكان الهبوط المناسب للمركبة، والمناطق القطبية له. وتم اختيار موقع هبوط مناسب سهل التضاريس يسمى بحر موزيز على سطح إيتوكاوا لإنزال المركبة عليه وأخذ العينات الصخرية المطلوبة، ثم الإقلاع بها إلى الفضاء من جديد. ولأن عملية وصول الأوامر من مركز التحكم والسيطرة الأرضي إلى المركبة تستغرق نحو نصف ساعة، فقد زودت بجهاز قيادة آلي ذكي قادر على اتخاذ القرارات المناسبة تلقائيًا للتحكم في المركبة لمواجهة أي سيناريو محتمل أثناء عملية الهبوط على الكويكب.
وفى 19 نوفمبر 2005 أجرت المركبة عملية هبوط ناجحة على سطح إيتوكاوا لمدة 30 دقيقة، لكنها لم تفلح في تشغيل جهاز مصمم لجمع العينات الصخرية من سطحه. وفي 25 نوفمبر 2005، نجحت المركبة في الهبوط برفق على سطحه وجمع عينات صخرية من تربته ووضعها بداخل كبسولة ملحقة بها. ثم أقلعت إلى الفضاء تاركة سطح الكويكب للاستعداد لرحلة العودة الطويلة إلى الأرض التي استغرقت أربع سنوات ونصف.
وفي 13 يونيو عام 2010 عادت هيابوسا 1 إلى الأرض سالمة بعد قضاء نحو سبعة أعوام وشهرين في الفضاء، قطعت خلالها ستة بلايين كيلومتر عبر الفضاء، وأطلقت كبسولة العينات المحمية حرارياً بنظام حماية حراري مصنوع من المواد الكربون-الكربون المركبة إلى داخل الأرض، ثم هبطت في صحراء ووميرا الأسترالية. وبذلك تكون رحلة تلك المركبة إلى ذلك الكويكب أول وآخر محاولة ناجحة في تاريخ البشرية للهبوط على سطح كويكب والعودة بعينات صخرية منه إلى الأرض.
-2 المسبار هيابوسا 2
في الثالث من ديسمبر عام 2014 أطلقت الوكالة اليابانية لاستكشاف الفضاء (جاكسا) المركبة الفضائية الثانية لها للهبوط على كويكب، وحملت اسم هيابوسا 2. وجرت عملية الإطلاق بنجاح من مركز تانيجاشيما الفضائي في محافظة كاجوشيما اليابانية بواسطة الصاروخ الياباني أتش-2أ للوصول إلى كويكب صغير اسمه ريوغو، من النوع سي الغني بالمركبات الكربونية، والذي يبلغ طول متوسط قطره نحو 865 متراً. والهدف الأساسي من تلك البعثة غير المأهولة كان إنزال تلك المركبة برفق على سطح الكويكب ثلاث مرات في مناطق مختلفة لجمع ثلاث عينات من سطحه، وجلبها إلى الأرض لإجراء البحوث عليها في المختبرات. وخلال أخذ إحدى العينات ستُنزِل المركبة عبوة ناسفة منها تجاه الكويكب لتنفجر قبل الوصول إلى سطحه بمسافة كافية، مطلقة قذيفة معدنية لحفر جزء من سطحه وتمهيده قبل هبوط المركبة عليه لأخذ عينات منه غير سطحية. وهذه المركبة مكملة لرحلة هيابوسا 1، وهدفها هو البناء على نتائج الرحلة الأولى من خلال استهداف كويكب آخر وتجاوز نقاط الضعف في الرحلة الأولى. واستخدمت المركبة محركات أيونية حديثة للدفع الفضائي أكثر قوة بنحو 20% من سابقتها، كما استخدمت تكنولوجيا أكثر تطوراً للملاحة والتوجيه وهوائيات وأنظمة تحكم جديدة. ووصلت المركبة إلى ريوغو في 27 يونيو 2018، ومسحت سطحه مدة عام ونصف لدراسته قبل أن تهبط عليه بنجاح مرتين: الأولى في 22 فبراير 2019 والأخرى في 11 يوليو 2019، وحصلت على عينات من تربته إحداها عينات تحت سطحية. ثم غادرت المركبة الكويكب في 19 نوفمبر 2019 متجهة نحو الأرض مع العينات التي جمعتها. ويتوقع أن تصل إلى مدار الأرض في أواخر 2020 لتقذف الكبسولة التي تحمل العينات إلى داخل الأرض مخترقة المجال الجوي، ومن ثم تهبط بمظلة في صحراء ووميرا جنوبي أستراليا.
-3 المسبار أوزوريس – ركس
على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي أطلقت الإدارة الأمريكية الوطنية للملاحة الفضائية والفضاء (ناسا) مركبتها الفضائية أوزوريس -ركس في 8 سبتمبر 2016 لكي تزور كويكب بينو، وهو أحد الكويكبات الكربونية الصغيرة القريبة من الأرض، وتلتقط عينات من تربته يبغ وزنها كيلوغرامين دون هبوط المركبة على الكويكب، وذلك عن طريق استخدام ذراع آلية طويلة مثبتة في المركبة بعد اقترابها بشكل كاف من الكويكب. ومن ثم ستجلب المركبة تلك العينات إلى الأرض لإجراء البحوث عليها. وقد وصلت المركبة إلى محيط بينو في 3 ديسمبر 2018 الماضي، وبدأت بتحليل سطحه لتحديد منطقة العينة المستهدفة التي ستأخذها خلال الأشهر القليلة المقبلة. وفي 12 ديسمبر 2019 أعلنت (ناسا) عن نقطة الهبوط المختارة المعروفة باسم العندليب أو الهزار. ويتوقع أن تعود المركبة بعينتها إلى الأرض في 24 سبتمبر 2023 لدراستها وتحليلها، بهدف فهم طبيعتها وكيفية توزيع مكوناتها المعدنية والعضوية.
وبتنفيذ تلك الرحلات الفضائية والتغلب على تحدياتها الفنية الكبيرة يتوقع العلماء تعزيز معرفتهم من خلال العينات الملتقطة من الكويكبات والمذنبات أو المختبرة على سطوحها عن الفترة التي سبقت ولادة النظام الشمسي وتطوره، وعن المراحل الأولية لتشكل الكواكب، وتحديد مصادر المياه والمركبات العضوية التي أدت إلى تشكل الحياة على كوكب الأرض. إضافة إلى ذلك، هناك هدف آخر وهو اقتصادي بحت يتمثل في اكتساب الخبرات المطلوبة لبدء عمليات التعدين الفضائي في المستقبل، ولاسيما على الكويكبات. فمن يا ترى سيكون أول تريليونير في التاريخ؟!