د. رشا فهمي البشير
التصوير المقطعي بالانبعاث البوزيتروني الهجين أداة حيوية للتصوير الجزيئي تستطيع تقييم الخصائص المحددة التي تميز طبيعة الأنسجة المرضية. فهو يؤدي دوراً رائداً في تشخيص العديد من الأمراض السرطانية والقلبية والعصبية والنفسية. وفي هذه المقالة نستعرض بعض الملامح عن حقيقة أشعة البوزيترون والمواد البوزيترونية، والتطورات الحديثة في هذا المجال وكيفية الاستفادة منها تقنياً في التصوير والتشخيص الطبي للأمراض.
تتكون ذرات العناصر من نواة وإلكترونات سالبة الشحنة تدور حولها. والنواة تحتوي على بروتونات، وهي أجسام موجبة الشحنة، وكذلك نيوترونات وهي أجسام متعادلة الشحنة. وفي بعض المواد المشعة يكون هناك عدم اتزان بين عدد البروتونات والنيوترونات، لذا يتم تحول بعض البروتونات إلى نيوترونات حتى تصل الذرة إلى وضع أكثر استقراراً، أي أقل نشاطاً، ونتيجة لهذا التحول تقذف النواة البوزيترون.
والبوزيترون جسيم أولي نقيض للإلكترون، فهو يتطابق مع الإلكترون في الصفات والخصائص الفيزيائية كافة عدا الشحنة الكهربائية، حيث يحمل البوزيترون شحنة كهربائية أحادية موجبة، فيما يحمل الإلكترون شحنة كهربائية أحادية سالبة.
ونتيجة لهذا التحول في مكونات النواة تحافظ الذرة على عددها الكتلي، في حين يتغير عددها الذري نتيجة نقص عدد البروتونات، ومن ثم يتحول العنصر إلى عنصر آخر مختلف في الوظائف الكيميائية.
إبادة البوزيترون
عند خروج البوزيترون من النواة يسير مسافة قصيرة نتيجة اكتسابه طاقة حركية، ثم يصطدم بأحد الإلكترونات خارج النواة، ويحدث تفاعل مميز يؤدي إلى فناء الاثنين بصفتهما جسيمين ويتحولان إلى مجالين كهرمغنطيسيين من الطاقة الإشعاعية، يسيران في اتجاهين متقابلين (أي 180 درجة تقريباً بين اتجاهي انطلاقهما)، ويطلق على كل مجال منهما أشعة غاما، وطاقته 511 كيلوإلكترون فولت، وتقوم كاميرات تصوير خاصة بامتصاص حزمتي أشعة غاما، التي يطلق عليها كاميرات التصوير بالانبعاث البوزيتروني.
المواد والأدوية البوزيترونية
النظائر المشعة التي يكثر استخدامها في الكشف بواسطة التصوير المقطعي بالإصدار البوزيتروني PET (positrom-emission tomography) هي (مع عمر النصف الفيزيائي للعنصر): الفلور 18-، الكربون 11, النيتروجين 13, الأكسجين 15- , الروبيديوم 82 والغاليوم 68.
تحضر معظم هذه النظائر المشعة في السيكلوترون، وهو معجل (مسرع) للجسيمات المشحونة، التي تتسارع في مدار دائري نتيجة إمرارها في مجالين (كهربائي ومغنطيسي) في قلب المعجل. يختار العنصر المناسب الخامل الذي يتحول إلى نظيره المشع عن طريق اصطدام ذراته بهذه الجسيمات المشحونة المعجلة لسرعات عالية.
فعلى سبيل المثال لتحضير مادة الفلور 18- يجري تيار من الجسيمات المشحونة السريعة في مدار دائري في السيكلوترون، ويتم توجيه التيار ليصطدم بجزيئات الأكسجين فينتج منها الفلور 18- المشع. ويتم في الحال استخلاصه وتنقيته ومعاملته بالمادة الخاملة مثل حمض أميني مناسب، ثم إرساله فوراً إلى المستشفى حيث يكون المريض مستعداً لتلقي المادة المشعة.
ويتميز الفلور 18- بأنَّ له عمر نصف يبلغ نحو 110دقائق، ويحضر في السيكلوترون بأحد المراكز العلمية، أو قد يكون من منشآت مستشفى متخصص في الطب النووي.
أمَّا النظائر المشعة التي عمر نصفها قصير فلا يمكن استخدامها إلا إذا كان المستشفى قريباً من مكان المركز العلمي الذي يشغل السيكلوترون لإنتاج العناصر المشعة، لتحقيق سرعة نقل النظير المشع واستخدامه قبل تحلل قدرته الإشعاعية.
تحضير الدواء البوزيتروني
تستعمل المادة المشعة للبوزيترونات من دون تغيير لإجراء التصوير الجزيئي للأعضاء المراد تصويرها تبعاً لوظيفتها وللخصائص الكيميائية للمادة المعطاة، مثل مادة الروبيديوم 82- لتصوير القلب، ومادة فلوريد الصوديوم 18- لتصوير العظام.
أما الدواء البوزيتروني فيحضر باتحاد مادتين؛ إحداهما باعثة للبوزيترونات والأخرى مادة خاملة تحملها للعضو المراد تصويره حسب وظيفته والتمثيل الغذائي فيه. فالعناصر الأساسية الغذائية للكائن الحي تتكون من سكريات وبروتينات ودهنيات. وهذه العناصر مؤلفة من مركبات تحتوي على عناصر الكربون والأكسجين والهدروجين والنيتروجين.
لذا يمكن إنتاج مركبات غذائية مع نظائر باعثة للبوزيترونات لهذه العناصر، ومن ثمّ نحصل على أدوية تبعث البوزيترونات من السكريات أو البروتينات أو الأحماض الأمينية أو الدهنيات، والتي يمكن استخدامها في التصوير الجزيئي للأعضاء لدراسة الكيمياء الحيوية والتمثيل الغذائي بها. وأشهر مثال على ذلك مادة الغلوكوز المنقوص الأكسجين الفلورونية.
الغلوكوز المنقوص الأكسجين
المادة الأكثر استخداماً حاليا في التصوير بالانبعاث البوزيتروني هي الغلوكوز المنقوص الأكسجين الفلورونية (Fluoro-Deoxy-Glucose FDG)، الذي يتم وصمه بالنظير المشع الفلور -18. وهو مركب مشابه للغلوكوز لكنه غير مماثل له.
وتمتاز خلايا الأورام الخبيثة باستهلاك كبير للغلوكوز نسبة إلى الخلايا السليمة، وذلك من أجل الحصول على الطاقة. وبشكل مماثل يستهلك الغلوكوز المنقوص بكميات كبيرة في الخلايا السرطانية مقارنة بالخلايا السليمة، لكن بسبب عدم قدرته على الاشتراك في جميع مراحل الأيض الخاصة بالغلوكوز، يتم حصره داخل الخلية ويصبح بالإمكان رؤيته بواسطة التصوير بالانبعاث البوزيتروني (PET).
وهذا التصوير يمثل مدى تركيز هذه المادة في مناطق الجسم المختلفة، مما يمكن من تمييز الأمكنة التي يتم استيعاب المادة فيها بصورة كبيرة، مقارنة بالمناطق السليمة التي يشتبه في كونها سرطانية.
التصوير البوزيتروني
التصوير المقطعي بالانبعاث البوزيتروني (PET) تقنية في الطب النووي تبين صوراً ثلاثية الأبعاد لبعض أعضاء الجسم يمكن بواسطتها تفقد مختلف العمليات الوظيفية في الجسم، مثل العمليات الحيوية.
ويعمل الجهاز المصوّر على أساس اكتشاف أزواج من أشعة غاما المنبثقة بصورة غير مباشرة من نظير مشع يكون مصدراً للبوزيترونات. يتم حقن المادة المشعة في جسم المريض بعد ربطه بجزيء حيوي فعال (مثل جزيء سكر)، فتتركز المادة المشعة في العضو المراد فحصه، مثل الدماغ أو الكلى أو الكبد. ثم يقوم الجهاز بامتصاص أزواج أشعة غاما الصادرة عن العضو وإنشاء صورة ثلاثية الأبعاد لها بواسطة الحاسوب، فيمكن رؤيتها على شاشة متصلة بالحاسوب كصور مقطعية متتابعة للعضو بالأبعاد الثلاثية (الطول والعرض والارتفاع).
تطور التصوير البوزيتروني
في عام 1929 شك العالم تشونغ ياوتشاد من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا بوجود جسيمات تتصرف مثل الإلكترون، لكنها تحمل شحنة موجبة. وفي 2 أغسطس 1932 اكتشف العالم كارل أندرسون جسيم البوزيترون، ونال جائزة نوبل في الفيزياء على ذلك سنة 1936.
وفي عام 1975 ظهر أول جهاز تصوير مقطعي بالانبعاث البوزيتروني (PET)، وذلك بسبب إمكانية إنتاج مواد مشعة بوزيترونية بواسطة المعجل الدائري (السيكلترون) والتطور الهائل في تقنيات التصوير المقطعي المحوسب بالأشعة السينية ما بين سنة 1967 وسنة 1972، إضافة إلى الاعتماد على الحاسوب في أجهزة التصوير الطبية.
وبين عامي 1975 و1980 حدث تطور كبير لاستعمال أدوات التصوير بالطب النووي، حيث أدخلت كواشف ومضية ضوئية صلبة أكثر كفاءة وصغيرة لامتصاص أشعة غاما، ورتبت على شكل حلقات حول العضو المراد تصويره. إضافة إلى تصميم الأدوية النووية البوزيترونية التي تتكون من مادة مشعة بوزيترونية متصلة بمادة خاملة توجه المادة المشعة إلى العضو المراد فحصه، وذلك حسب تروية الدم له ووظيفته ومقدار نشاطه الحيوي والخلوي.
واستطاعت هذه الأدوية تطوير أدوات قياس جريان الدم والتمثيل الغذائي (الأيض- الاستقلاب)، وتخليق البروتينات ومحتوى الدهنيات، وتوجيه الأجسام المضادة المشعة إلى المستقبلات بالأعضاء وغيرها من النواحي الوظيفية والحيوية، ومنذ عام 1980 دخل التصوير البوزيتروني عالم التشخيص السريري وبخاصة أمراض الدماغ والقلب.
وفي عام 2000 جرى صنع أول جهاز هجين يستعمل طريقتين للتصوير في الوقت نفسه؛ التصوير الطبقي المحوسب بواسطة الأشعة السينية التي تكون مقترنة بالتصوير المقطعي بالإصدار البوزيتروني (بسبب الحاجة إلى إطار تشريحي مرجعي للتصوير البوزيتروني لتحديد مكان المرض)، وتمييز الغدد الليمفاوية الصغيرة (نحو 8 ملم) التي تظهر طبيعية من الناحية التشريحية في حين تصنف بأنها مرضية على أساس نسبة امتصاص السكر المشع البوزيتروني .
واستعمل هذا الجهاز في الأبحاث العلمية على الحيوانات الأليفة، وبعد عشر سنوات من تصميمه استعمل على الإنسان حيث أصبح له دور رائد في تشخيص الأمراض السرطانية. وحديثاً تم إنتاج جهاز تصوير هجين يجمع التصوير بالرنين المغنطيسي (MRI) مع التصوير البوزيتروني، حيث تستطيع الصور الهجينة تزويدنا بمعلومات عن الأنسجة والتفاصيل الوظيفية.
أهمية التصوير الهجين
في العديد من مراكز الطب النووي أمكن دمج التصوير المقطعي بالإصدار البوزيتروني مع التصوير الطبقي المحوسب بالأشعة السينية، ونتج عن هذا التصوير صور عرفت بالصور الهجينة. وهذه الصور تعطي معلومات عن فحصين مختلفين يمكن تقييمها كفحص واحد مما يعطي معلومات تشخيصية دقيقة عن المرض. ويقوم التصوير البوزيتروني بقياس وظائف مهمة في الجسم؛ مثل سريان الدم في العضو واستخدام الأكسجين وعملية الأيض للسكر. وهذا يساعد على تقييم الوظائف الفيزيولوجية والحيوية للأنسجة والأعضاء، والتغييرات التي تحدث عند بداية المرض قبل استفحاله.
ويعطي التصوير الطبقي المحوسب بالأشعة السينية صوراً دقيقة لأعضاء الجسم الداخلية فهو يساعد على تقييم الصفة التشريحية للأعضاء.
والتصوير الهجين دمج طريقتي التصوير وهو يعطي الموقع التشريحي للعضو الذي يحوي خللاً في الوظائف الحيوية. فهو يعطي دقة أفضل في التشخيص عن التصوير لكل منهما على انفراد. ويتطلب لتفسير بيانات هذا التصوير معرفة البيولوجيا الجزيئية والتمثيل الغذائي والكيمياء الإشعاعية والتصوير التشريحي.
استخدامات متعددة
مع اكتشاف التصوير الهجين، وملاحظة مدى أهميته في تشخيص الأمراض بدقة؛ زادت وتيرة استخدام هذا التصوير في العديد من المستشفيات والمراكز الطبية.
فالاستخدام الأساسي لهذه التقنية هو اكتشاف الأمراض السرطانية الخبيثة بدقة عالية، مثل سرطانات الغدد الليمفاوية والثدي والرئة والبروستاته والمخ والجهاز الهضمي وصبغيات الجلد. فهي تقدم التقييم الأولي للأورام السرطانية، وتستطيع تحديد مدى انتشار السرطان في الجسم، حيث يمكنها رؤية مكان الورم الأولي في العضو المصاب بالسرطان والانتشار الثانوي في الأعضاء الأخرى. وهكذا يمكنها تحديد مرحلة المرض ومساعدة الطبيب على اختيار العلاج الأمثل.
وتتميز هذه التقنية بقدرتها على إعطاء معلومات حسابية عن تركيز المادة المشعة مثل السكر المشع في الأنسجة المصابة بالسرطان، ومن ثم تمييز ما إذا كان الورم خبيثاً أم حميداً. وعند إعادة هذا التصوير خلال تطور المرض يمكن معرفة مدى فاعلية العلاج الكيميائي أو الإشعاعي أو الهرموني، وذلك حول مدى انكماش أو اختفاء كتلة الورم أو زيادتها، وكذلك مدى التغيرات في القياسات الحسابية، ومعرفة ارتداد الورم بعد العلاج والشفاء، واختيار العلاج المناسب مبكراً. ولهذا التصوير أهمية في التخطيط لمجال العلاج الإشعاعي على الجسم بدقة.
يمكن استخدام هذا التصوير في تقييم أمراض شرايين القلب، حيث يمكن استعمال مادة الروبيديوم – 82 في تحديد تروية الدم لعضلة القلب. كما يمكن للسكر المشع بالفلور معرفة مدى تأثر حيوية عضلة القلب بعد الجلطات القلبية، والتي يمكن أن تتحسن بعملية توسعة شرايين القلب، أو وضع دعامات أو إجراء عملية قلب مفتوح لإجراء وصلة لشرايين القلب.
وهناك استخدامات أخرى مثل التشخيص الدقيق للأورام السرطانية وغير السرطانية في المخ أو العظام, وأمراض الذاكرة والخرف والصرع، والأمراض النفسية كالفصام والإحباط والالتهابات وغيرها.