البرهان بنقض الفرض أصوله وأسسه المنطقية
أحمد محمد الحكيم
إن إقامة البراهين المنطقية، وفهم أساليبها هما مِن أكثر المهام المعرفية صعوبة؛ لأنهما يتطلبان الكثير من الحقائق والمهارات والقوانين، إلى جانب التركيز على العلاقات المتبادلة بين هذه القضايا وبين الخبرات المتراكمة في المنطق والرياضيات. وأكثر البراهين تجري عادة بصورة مباشرة من الفرض إلى الطلب، غير أن هناك طرقاً أخرى غير مباشرة، تجري عكس ذلك، فهي لا تتوجه إلى الطلب مباشرة، وإنما تحوم حوله، فهي تثبت الطلب في ضوء الحُكم على استنتاجات أخرى لها صلة بهذا الطلب.
وقد شبه جورج بوليا مؤلف الكتاب الشهير “البحث عن الحل “، البرهان غير المباشر بما يصنعه دهاة السياسة في الانتخابات، عندما يعمل أحد المتنافسين، في سبيل الفوز، ما يشوّه سمعة خصمه، وكذلك شبهه بالتورية في الأدب. ويستعمل هذا البرهان عندما لا تتوفر حجج للبرهان المباشر.
ومن أشهر طرق البرهان غير المباشر، هي طريقة «نقض الفرض» التي تثبت صحة الحقيقة بإثبات أن عكسها باطل. ولهذه الطريقة أسماء أخرى نجدها في علم المنطق والرياضيات، مثل البرهان بالتناقض، والبرهان بالخُلف، والإثبات من التضاد.
جذور تاريخية
تعود الجذور التاريخية للبرهان بنقض الفرض إلى المدرسة الفلسفية اليونانية، التي كان على رأسها أفلاطون، إذ كانت متخصصة بابتداع براهين لأمور متناقضة ومشوشة. وتمركزت هذه المدرسة في «إيليا » Ellea (جنوبي إيطاليا، التي كانت مقاطعة إغريقية)، وكان من أشهر أعضائها بارمينيدس (Parmenides)، وزينو (Zeno) اللذان اهتما بالبرهان. لكن يُعتقد أن مَن أوجد البرهان بنقض الفرض هو بارمينيدس، نحو القرن السادس قبل الميلاد، وهو من أتباع فيثاغورس. وهو أول من استخدم مبدأ عدم التناقض استخداماً دقيقاً ووصل به إلى أقصى نتائجه، وقد سمي «السوق إلى المُحال»، وفيه يستدل من افتراض معين على نتيجة واضحة البطلان . وهذا النهج التفكيري يعود إلى المجادلات والمحاجات التي عرفت بها المدرسة الإيلية، فمثلاً كان يحاجّ في أن كل شيء موجود لايمكنه أن يتمتع بالكينونة، فلو أن له كينونة، فيجب أن تأتي من نفسه أو غير نفسه. إلا أن كلا الأمرين مستحيل، وذلك أنه طبقاً لقانون عدم التناقض لا يمكن أن يكون الشيء نفسه وغيره في آن واحد. وكان أحــد المبادئ الأســاسية لهذا المنطلق هو أن اسـتبعدت التجربـة؛ لأنها لم تأتِ إلينا من التفكير بل من الحواس. ولم يكن يُسمح للتجربة بأن تصحِّح، أو حتى أن تسلط الضوء على عملية المحاكمة. وفي الواقع، كانت الوظيفة الأساسية للعقل هي تصحيح خطأ النتائج المستخلصة من الأخطاء الناجمة عن نظرتنا المحدودة والجزئية للحقيقة. وهذا النهج التفكيري لم يمكّن بارمينيدس وزينون من أن يثبتا أن التغيير مستحيل فحسب، بل من أن الحركة كانت تناقضاً منطقياً، ولم يكن هناك وجود ولا عدم.
ولقد طور زينون، الذي كان تلميذاً لبارمينيدس، برهان الخلف (reduction ad absurdum) المألوف الذي يستدل فيه المرء من بطلان النتيجة على أن إحدى المقدمات لابد أن تكون باطلة، إلى أن يثبت أن من الممكن استخلاص نتيجتين متناقضتين من افتراض معين. وهذا يعني أن النتيجتين ليستا باطلتين فقط، بل هما مستحيلتان. وهو يستنتج من ذلك أن الافتراض الذي تلزم عنه هاتان النتيجتان هو ذاته مستحيل. هذا النوع من الحجج يسير في طريقة من دون أي مقارنة بين النتائج والوقائع، ومن ثم فهو بهذا المعنى جدلي تماماً، كما يقول برتراند رسل، أي إنه ينتمي إلى ميدان السؤال والجواب. والواقع أن زينون كان أول من استخدم الحجة الجدلية بطريقة منهجية. وكان لهذه الحجة دور كبير في الفلسفة، وقد اقتبسها سقراط وأفلاطون من الإيليين وطوراها بطريقتهما الخاصة، ومنذ ذلك الحين أصبحت لها مكانة مهمة في الفلسفة .
أسس البرهان بنقض الفرض
يعتمد البرهان بنقض الفرض على أسس ومبادئ منطقية تتمثل بمعنى البرهان وطبيعته، والاستدلال المنطقي، والفروض، والنقيض، وقانون عدم التناقض، وقانون الثالث المرفوع. فالبرهان هو فن الجدال بدءاً من نقاط انطلاق معينة، حتى النتيجة، بشكل لا يمكن معه إيجاد أي عثرة أو خطأ خلال مراحل الجدال. ونقاط الانطلاق هذه تشمل المقدمات أو الفروض، وهي الأساس الذي يبدأ به التفكير المنطقي بمهمة الاستدلال، لاستخلاص نتيجة معينة. وشرط صدق هذه النتيجة هو صدق المقدمات وصحة الاستدلال المنطقي. وكلمة صدق تعني إما أن تكون النتيجة صحيحة أو خطأ. ولابد من الإشارة إلى أن هذه المقدمات أو الفروض مستمدة من صلب القضية أو النظرية، أي من المعطيات المفروضة.
لكننا، قد نضطر لإثبات المطلوب بوضع افتراضات إضافية جديدة لإكمال عملية البرهان. وعلى هذا الأساس يتكوّن لدينا صنفان من الفروض: الأول الذي أوجبه علينا نص النظرية أو المسألة. والثاني ما أوجبناه نحن على أنفسنا لفترة مؤقتة. وهذا الفرض الأخير يكون عادة قابلاً للتفنيد، لأنه يمثل إنشاءً خيالياً، لا يخضع للإدراك الحسي، أي دون النظر لصحته أو خطئه. ولابد من الإشارة هنا إلى أن المقصود بـ«نقض الفرض»، هو نقض واستبعاد الفرض الجديد الذي أدخلناه في مقدمة البرهان، وليس الفرض الأصلي.
أما قانون عدم التناقض، فهو ذلك المبدأ في المنطق الذي يقول بأنه لا يمكن أن تكون القضية ونفيها صائبين معاً، أي إنه لا يمكن لقضية أن تكون صائبة وخاطئة في الوقت ذاته. فاذا كان هناك افتراضان يناقض أحدهما الآخر، وبرهنا على خطأ أحدهما أو استحالته فإن الآخر يكون صحيحاً، والعكس بالعكس. وقانون الثالث المرفوع، وهو أحد قوانين المنطق الأرسطي، ثنائي القيم، أي إما أن يكون الشيء أو لا يكون، فلا يوجد شيء وسط. وإذا توصلنا إلى استنتاج خاطئ في طريقة الاستدلال الصحيح، فمن الضروري أن تكون فرضية واحدة على الأقل من الفرضيات المتقدمة غير صحيحة.
آليات تطبيق البرهان بنقض الفرض
كي نضع الخطوات العملية لتطبيق البرهان بنقض الفرض أو (برهان الخلف) لابد من توضيح الخطوط الرئيسية له، وقد لخصها برتراند رسل في كتابه «حكمة الغرب «بمحاكمة منطقية ذات اتجاهين: من المقدمات إلى النتيجة، ومن النتيجة إلى المقدمات. فيقول: في برهان الخُلف نستدل من افتراض معين على نتيجة واضحة البطلان… ومن بطلان النتيجة على أن إحدى المقدمات لابد من أن تكون باطلة .إذن البرهان على قضايا معينة، يتم بمساعدة افتراضات، يتحول بعدها البرهان على هذه القضايا وفقاً لقواعد خاصة معينة إلى برهان على القضية الأصلية، أي دون افتراضات. والنقطة الرئيسية في برهان نقض الفرض أو الخُلف، هي أن هذا البرهان لا يتوجه الى إثبات المطلوب أولاً، وإنما إلى إبطال نقيضه. ولهذا سمي برهان الخلف، لأن المطلوب يأتي من خلفه، أي من ورائه. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن عملية تفنيد أي فرض تتم عن طريق تفنيد نتائجه.
مثال هندسي
من الأمثلة على البرهان بنقض الفرض من الهندسة الإقليدية أنه لإثبات النظرية التي تنص على أنه: “إذا كان المستقيمان عموديين على مستو واحد فإنهما متوازيان“. يبدأ البرهان بالكلمات: لنفرض العكس، أي إن المستقيمين غير متوازيين. فعندئذٍ يتقاطعان ويشكلان مثلثاً، فيه زاويتان داخليتان قائمتان، لذا فإن مجموع الزوايا الداخلية الثلاث لهذا المثلث أكبر من 180 درجة، ولكن هذا يتناقض مع النظرية المبرهنة، التي تقول إن مجموع الزوايا الداخلية لأي مثلث يساوي 180 درجة، وعليه، فإن الافتراض بكون المستقيمين غير متوازيين افتراض خاطئ، مما يستتبع صحة النظرية القائلة بتوازي هذين المستقيمين.