Dr. Waheed Mohamed Mofaddal
يتميز علم البيئة بالتطور السريع وبتعدد مجالاته وتشابكه مع العلوم الأخرى، مع وجود مساحة كبيرة من الجدل والتشكك في عدد كبير من القضايا والمشكلات البيئية، ودور العنصر البشري مقابل الطبيعة فيها، مثل الانقراض الجماعي للكائنات وارتفاع مستويات التلوث وتفاقم مشكلة الاحتباس الحراري، وغير ذلك مما أصبح كوكبنا الأزرق مثقلا به. ولعل هذا هو السبب في كثرة المصطلحات البيئية المستخدمة، وفي ظهور مفاهيم بيئية جديدة بين الفينة والأخرى أو توجه بيئي جديد كل فترة. ولعلنا نذكر في هذا الرواج الشديد في وقت سابق لبعض المفاهيم البيئية مثل «التنمية المستدامة» و»الاقتصاد الأخضر» وغيرهما، على الرغم من أن هذه المصطلحات لم تأت في الواقع بشيء جديد، سوى مقاربة موضوع حماية البيئة ومحاولة تخفيف الأحمال البيئية وخفض نسب التلوث بآليات جديدة ومنظور مختلف.
واليوم يبدو أن المجتمع العلمي والمهتمين بحماية البيئة والتنمية المستدامة عموما على موعد آخر مع أحد المفاهيم الجديدة المتعلقة بتعزيز النمو الاقتصادي عبر الاستخدام المستدام للثروات والموارد الطبيعية الموجودة في البحار والمحيطات، أو لنقل على موعد مع أحد التوجهات الاقتصادية – البيئية الجديدة، التي تحاول التوفيق أو لنقل المواءمة من جديد بين الاقتصاد والبيئة، كما حاول من قبل الاقتصاد الأخضر، ونعني بذلك مفهوم «الاقتصاد الأزرق».
لون جديد للاقتصاد
يمكن تعريف الاقتصاد الأزرق (Blue Economy) بأنه الاقتصاد المرتكز على الانتفاع بالثروات البحرية وخدمات النظم الإيكولوجية والنشاطات البحرية المتاحة في السواحل والبحار والمحيطات، مثل مصايد الأسماك والسياحة الشاطئية ونشاطات الغوص والشحن البحري والتعدين، بما يمكن معه استحداث مزيد من فرص العمل وزيادة إجمالي الناتج المحلي وتحقيق الرفاهية المنشودة. وعلى الرغم من وجود بعد اقتصادي ومادي نفعي واضح في هذا التعريف، فإن مفهوم الاقتصاد الأزرق يحرص في الوقت نفسه على الإدارة المستدامة للموارد البيئية والحفاظ على صحة وسلامة النظم الإيكولوجية البحرية، من أجل المحافظة على كفاءتها وضمان استمرارية إنتاجيتها، ومن ثم ديمومة انتفاع الشعوب والمجتمعات البشرية منها.
وعلى ذلك فإن الاقتصاد الأزرق يستهدف بصورة عامة تعظيم العائد الاقتصادي من الخدمات والموارد البحرية المتاحة، من خلال توجيه الاستثمارات والبحوث ووضع السياسات والآليات المناسبة التي تكفل ضمان النمو المستدام للنشاطات المرتكزة على هذه الموارد، والتي تكفل في الوقت نفسه تحقيق البعد البيئي عبر الحرص على استدامة هذه الموارد والمحافظة عليها من التلوث والصيد الجائر وغيرها من التحديات.
كتاب البداية
وكان عالم الاقتصاد البلجيكي غونتر باولي من أوائل من لفتوا الانتباه إلى أهمية «الاقتصاد الأزرق»، من خلال كتابه المنشور في عام 2010 والمعنون: «الاقتصاد الأزرق: عشر سنوات، مئة اختراع واكتشاف، ومئة مليون فرصة عمل». وحظي الكتاب والأفكار المعروضة فيه برواج شديد، مما كان له أثر كبير في انتشار مفهوم الاقتصاد الأزرق بين الخاصة والعامة. وحاول باولي إقناع المستثمرين ورجال الاعمال بتحقيق التنمية الاقتصادية عبر الاستفادة من الموارد والبدائل (البيئية وغير البيئية) المتاحة وعبر الحلول المبتكرة، بدلا من اتباع الحلول التقليدية وإنفاق أموال طائلة واستثمارات ضخمة على مشروعات نمطية ومستنزفة للطاقة.
لكن هذا المفهوم أعيد طرحه بقوة من جديد – بعد إضافة البعد البيئي إليه – خلال مؤتمر الأمم المتحدة للتنمية المستدامة «ريو-20» الذي عقد في يونيو 2012 بمدينة ريو دي جانيرو بالبرازيل، و حظي حينها بقبول لافت، بسبب تنامي الحاجة لتحقيق الأمن الغذائي وتدبير موارد وبدائل اقتصادية جديدة من أجل دفع عجلة التنمية والقضاء على الفقر، وبسبب الرغبة أيضا في إحداث توازن بين التنمية الاقتصادية واستغلال الموارد البيئية المتاحة، وضرورة المحافظة في الوقت ذاته على البيئة وحق الأجيال القادمة في الانتفاع بالثروات الطبيعية المتاحة.
ومثلما كان الحال عند إطلاق مفهوم «الاقتصاد الأخضر»، حيث تشير كلمة «الأخضر» إلى وجود بعد بيئي قوي في هذا الاقتصاد، وتشير كذلك إلى إمكاناته في تقليل الانبعاثات الكربونية وتخفيف الحمل البيئي الواقع على النظم الإيكولوجية والموائل الطبيعية والبيئة الطبيعية عموما، فإن وجود كلمة «الأزرق» بعد كلمة «الاقتصاد» يشير إلى ارتكاز هذا الاقتصاد على النشاطات البحرية وعلى عطاء النظم والموائل البيئية المتوافرة في البحار والمحيطات الشاسعة الزرقاء.
دلائل القوة
تستند الدعوة إلى استغلال ودفع الاقتصاد الأزرق إلى وجود ثروات وموارد كثيرة ومتنوعة على امتداد السواحل وفي مختلف البحار والمحيطات، وهذا من دون المعرفة بوجودها أو من دون استغلاها اقتصادياً بشكل كاف حتى الآن. كما تستند هذه الدعوة إلى وجود قيمة سعرية وسوقية عالية لخدمات النظم البيئية والموائل الطبيعية الموجودة بالبحار والمحيطات، ما يعني أنه يمكن استثمارها بشكل اقتصادي وربحي على النحو الذي يتم عادة مع أي سلعة أو مادة خام متاحة.
وتشكل الموارد والخدمات التي تقدمها لنا البحار والمحيطات نسبة كبيرة بالفعل مما يحظى به كوكب الأرض ومما هو متاح للبشرية عموما، كما تمثل هذه الموارد قيمة اقتصادية عالية لا يمكن الاستهانة بها. ولعله من المفيد هنا ذكر بعض الأرقام والحقائق الدالة على ذلك. وبادئ ذي بدء ينبغي الالتفات إلى أن أكثر من %40 من سكان العالم يعيشون على بعد 100 كم من السواحل، وأن 13 من 20 من المدن الكبرى في العالم تقع على السواحل أو تطل على إحدى المناطق الساحلية.
وفيما يتعلق بنسبة الاستخدام والمساهمة الفعلية للموارد المتاحة في البحار والمحيطات، فإنه يكفي الإشارة إلى أن %90 من حركة التجارة الدولية تتم عبر البحار والمحيطات، وأن أكثر من %25 من النفط يتم استخراجها من تلك المسطحات المائية، فضلا عن توليد طاقة من الرياح والأمواج تقدر بنحو 175 جيجاوات. يضاف إلى هذا العائد الناتج من الصيد والسياحة الشاطئية ونشاطات الغوص والرياضات البحرية، إذ تسهم المصائد السمكية على سبيل المثال في أكثر من 270 بليون دولار أمريكي من إجمالي الدخل العالمي. ناهيك عن فرص العمل التي توفرها تلك النشاطات، إذ توفر مهنة الصيد البحري وحدها على سبيل المثال أكثر من 350 مليون وظيفة، في حين تستوعب السياحة الساحلية أكثر من %6 من القوى العاملة العالمية.
ويقدر الصندوق العالمي للطبيعة قيمة كل الأصول الرئيسية الموجودة في البحار والمحيطات بأكثر من 24 تريليون دولار، لتعتبر البحار والمحيطات بهذا سابعَ أكبر اقتصاد عالمي. وعلى مستوى الدول والمناطق الإقليمية يشير تقرير حديث إلى بلوغ إجمالي العائد المتوقع الحصول عليه في الصين من وراء الاقتصاد البحري بحلول عام 2020 إلى 9 تريليونات يوان، ليشكل بذلك أكثر من %10 من إجمالي الناتج المحلي. ويقدر تقرير آخر قيمة إنتاج الاقتصاد البحري في أوروبا بنحو 600 بليون دولار أمريكي. وفي منطقة جنوب شرق آسيا، يشير تقرير ثالث إلى أن العائد من المصائد السمكية المرتبطة بالشعاب المرجانية في كل من إندونيسيا والفلبين يقدر بنحو 3 بلايين دولار سنوياً، في حين تقدر قيمة العائد الناتج من السياحة المرتبطة بالشعاب المرجانية فيهما بنحو 300 مليون دولار سنوياً. وفي أفريقيا يقدر إجمالي قيمة المصائد السمكية المتاحة بأكثر من 250 بليون دولار.
ونظرّا لتزايد جدوى وأهمية الاقتصاد الأزرق عبر العالم، فقد أطلقت منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو) خلال مؤتمر «ريو-20» في العام 2012، مبادرة عالمية لدعم الاقتصاد الأزرق عرفت باسم مبادرة «النمو الأزرق». وهذه المبادرة تهدف إلى تشجيع الشعوب والمجتمعات الساحلية على الاستفادة من الموارد البحرية المتاحة، والمحافظة في الوقت نفسه على سلامة المسطحات المائية كالبحار والمحيطات من التهديدات المتنامية كالتلوث والصيد الجائر والصيد غير القانوني ومخاطر ارتفاع مستوى سطح البحر والتغيرات المناخية وغيره، وهذا عبر الالتزام بمنهج التنمية المستدامة وتحقيق البعد البيئي في قطاعات الاقتصاد الأزرق المختلفة.
عناصر أساسية
تتطلب عملية دفع النمو الأزرق والاستغلال الاقتصادي والنفعي للنظم والموارد البحرية المتاحة في منطقة ما التعرف أولا على حالة ومدى إنتاجية الأصول والنظم البيئية أو الموائل الطبيعية الساحلية الموجودة في تلك المنطقة، وذلك لكونها الركيزة الأساسية التي يقوم عليها الاقتصاد الأزرق، إذ إن تدهور حالة الشعاب المرجانية في موقع ما على سبيل المثال، سيؤدي بالتبعية إلى تدهور إنتاجيتها وضعف مواردها من الأسماك، فضلا عن ضعف الإقبال عليها من قبل نشاطات الغوص وبقية النشاطات السياحية، وهو ما سيؤدي حتما إلى فشلها في تعزيز النمو الاقتصادي وتوفير فرص عمل إضافية ومصدر دخل مستدام. وبصفة عامة هناك أكثر من أداة ووسيلة علمية يمكن بها تقييم حالة النظم والموائل الطبيعية بانتظام، مثل المسح الميداني والزيارات الميدانية بواسطة الفرق المتخصصة، واستخدام الصور الفضائية وتقنية الاستشعار عن بعد في ترسيم مصادر الثروة الساحلية الموجودة وفي رصد حالة الموائل الطبيعية وتقييم التغييرات الطبيعية الحادثة.
وتتطلب عملية تطبيق الاقتصاد الأزرق أيضا تحديد نوعية خدمات النظم البيئية التي تحظي بها وتقدمها كل منطقة بحرية، وكذلك تقييم مدى جودة هذه الخدمات والعوامل البيئية وغير البيئية المؤثرة فيها، وهذا لكي يمكن التعرف على مدى قدرة ومقدار مساهمة النظم البيئية البحرية الموجودة في هذه المنطقة في دفع ودعم التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وتنقسم خدمات النظم البيئية كما يوضح لنا تقرير «تقييم الألفية لحالة النظم البيئية»، إلى أربع فئات كل منها معزز بالتنوع الحيوي. وهذه الخدمات هي الخدمات التموينية التي تتمثل في قدرة هذه النظم على إمدادنا بالأغذية والمحاصيل والمياه العذبة والأدوية المشتقة من النباتات، والخدمات التنظيمية التي تتمثل في دور الأراضي الرطبة مثلا في ترشيح الملوثات وتنظيم المناخ عبر التخزين الكربوني. وهناك أيضا الخدمات الثقافية المتمثلة في القيم الروحية والجمالية والتعليم والتي نستمدها من الموائل الطبيعية كالشعاب المرجانية مثلا، وأخيرا هناك الخدمات المساندة وهي تشمل الوظائف الثانوية التي تقوم بها بعض الموائل أو نظم ما مثل تكوين التربة والبناء الضوئي وتدوير العناصر الغذائية.
قيمة الخدمات
أما العنصر الثالث الأساسي الذي يجب تحقيقه عند الانتفاع بالأصول أو الموائل الطبيعية المتاحة أو استغلالها في الاقتصاد الأزرق، فيتمثل في ضرورة تحديد سعر أو قيمة سوقية (Market (Price للخدمات والوظائف التي يقدمها كل موئل من هذه الموائل، لكي يمكن تقييم أهمية هذه الأصول والدور الذي يمكن أن تؤديه في دعم التنمية والاقتصاد. وهناك عدة أساليب لتحقيق هذه الغاية مثل طريقة سعر السوق (Market Value) التي تعتمد على تحديد القيمة عن طريق معرفة الأسعار السارية والمتداولة في الأسواق والتي يسهل تطبيقها مثلا على الأسماك، للتعرف على القيمة النقدية للمصايد البحرية المستخرجة من منطقة ما. وهناك أيضا طريقة السفر والانتقال (Traveling Cost) وتطبق على الموائل البيولوجية أو عناصر التنوع الأحيائي التي لا يوجد لها سعر سائد في السوق، كالمحميات الطبيعية البحرية أو الشعاب المرجانية. كما يمكن استخدام طريقة تميز الموقع (Hedonic Method) أو طريقة التكلفة الاستبدالية (Replacement Cost) وغيرهما من الطرق لتحديد القيمة الاقتصادية لعناصر التنوع الأحيائي البحري أو الخدمات التي يقدمها أحد الموائل، والتي ينصب الهدف منها على تحديد القيم الاقتصادية والمحاسبية للنشاطات البيئية. ويعنى تخصص اقتصاديات البيئة (Environmental Economics) أو «الاقتصاد البيئي» بهذه النوعية من الدراسات والطرق، إذ يركز على تحديد العلاقة التبادلية بين البيئة والتنمية، وتحديد الآثار الاقتصادية للسياسات البيئية وتسعير كلفة المشكلات البيئية وتطوير أدوات للتحليل الاقتصادي وتحليل التكلفة والمنفعة لما تقدمه الطبيعة والنظم البيئية من خدمات تموينية وتنظيمية وثقافية فضلا عن الخدمات المساندة.
تحديات قائمة
على الرغم من المزايا المتعددة والآفاق الواعدة للاقتصاد الأزرق، فإن مسألة تطبيقه عمليا وتحقيق الغايات المنشودة منه، تواجهها مجموعة من التحديات والمعوقات. وأول هذه التحديات تزايد الضغوط البشرية والتعديات الممنهجة على الأنظمة والموائل البحرية، بسبب الصيد الجائر وإزالة غابات القرم (المانغروف) وبقية الموائل القاعية الساحلية وردم الشواطئ وأجزاء من الحيد المرجاني، وغير ذلك من النشاطات والممارسات السلبية، ودور ذلك في التقليل من إنتاجية هذه النظم وفي التأثير على الفوائد والمساهمات الاقتصادية والتنموية التي يمكن أن تقدمها. وقد خلفت هذه الممارسات بالفعل آثارا يصعب جداً معالجتها، نظرا لتأثيرها المباشر على صحة الموائل والنظم الطبيعية البحرية وعلى إنتاجيتها البيولوجية وقدرتها على العطاء. وفي ذلك يشير تقرير حديث إلى زيادة عدد المناطق البحرية الفقيرة والميتة بسبب افتقارها للأكسجين المذاب إلى أكثر من 500 منطقة على مستوى العالم، وإلى اتساع المساحة التي تغطيها هذه المناطق إلى نحو 246 ألف كيلومتر مربع. ويظهر تقرير تعرض 20 في المئة على الأقل من الشعاب المرجانية و45 في المئة من غابات القرم على مستوى العالم للتدمير أو الاستقطاع خلال العقود القليلة الماضية.
ومن تلك التحديات أيضا نقص الكوادر البشرية المؤهلة لتطبيق آليات الاقتصاد الأزرق في قطاعاته المختلفة، وضرورة تخصيص اعتمادات ومبالغ مالية كبيرة من أجل الاستثمار في العنصر البشري، وإعداد جيل قادر على الابتكار وتحقيق أهداف الاقتصاد الأزرق بفاعلية وكفاءة.
وهناك مجموعة أخرى من التحديات تنبع من صعوبة إيجاد قيم سعرية لكثير من خدمات الأنظمة البيئية والموارد البحرية، وهو مطلب أساسي وحيوي لكي يمكن البدء في تطبيق الاقتصاد الأزرق كما أوضحنا سالفا، وتنبع أيضا من غياب التخطيط البيئي وعدم الانسجام بين القطاعات والإدارات المختلفة المعنية بالإدارة البيئية والاقتصادية للموارد والنشاطات البحرية.
وعلى هذا يبدو أن الطريق لا يزال طويلا نسبيا أمام الاقتصاد الأزرق -بمفهومه الشامل وببعديه الاقتصادي والبيئي- لكي يحقق التوسع والانتشار المأمولين، إذ لابد أولا من التعامل مع كل هذه التحديات ومواجهتها بصورة جدية لكي يمكن استكمال الطريق ولكي يفرض ذلك التوجه الاقتصادي البيئي الجديد وجوده ويحقق الغايات المنشودة منه، وأهمها الاستخدام المستدام للموارد البحرية ودفع عجلة التنمية وتحقيق الرفاهية البشرية.