الابتكار أو الاندثار البحث العلمي العربي: واقعه وتحدّياته وآفاقه
خمسة فصول علمية متنوعة الموضوعات والكتاب والاتجاهات كانت حصيلة التقرير الجديد الذي أطلقته مؤسّسة الفكر العربي في مؤتمرها السنوي الحافل الذي عقدته في دبي بإبريل الماضي، وتضمن موضوعات مرتبطة بنشاطات البحث العلمي في الوطن العربي، ولاسيما الابتكار والتطوير التكنولوجي، وإسهام تلك النشاطات في التنمية الشاملة والمستدامة.
وتضمن ذلك التقرير الذي يعد العاشر للمؤسسة ضمن تقاريرها الخاصة بالتنمية الثقافية نحو 25 موضوعا، مثلت تشخيصا متميزا لواقع نشاطات البحث العلمي والتطوير التكنولوجي والابتكار في الدول العربية ومؤسساتها العلمية والأكاديمية، وذلك بالاستناد إلى المؤشّرات المعتمدة عالمياً ورؤى استشرافية من شأن الأخذ بتوجهاتها تعزيز هذه النشاطات وتفعيل إسهامها في تحقيق التنمية العربية الشاملة والمستدامة.
تقدّم علمي ملحوظ
ونشرت المؤسسة موجزا للتقرير ذكرت فيه أن ذلك التقرير – الذي كتب موضوعاته عدد من العلماء والباحثين والخبراء العرب – يؤكّد بالإحصاءات والأرقام أنّ البحث والتطوير في الدول العربية لا يزال دون المستوى العالمي، إلاّ أنه يرصد تقدما على الرغم من ضآلة الإنفاق عليه، ويقدّم تحليلا وافيا لمؤسسات البحث العلمي في الدول العربية وإنجازاتها والصعوبات التي تواجهها. إلاّ أنه يلاحظ أن هناك عدة دول عربية فقط تضم مراكز متخصّصة بالبحث العلمي، وأن معظم نشاطات البحث العلمي تنجزها مؤسسات التعليم العالي.
ويتطرق التقرير إلى أوضاع التعليم العالي في الدول العربية وكيفية تحسينه، حيث يلفت إلى زيادة التحاق الإناث بالتعليم والذي أدى إلى تقدم تعليمي. غير أن هذا التقدّم العلمي لا يؤدّي بصورته الحالية إلى نمو اقتصادي يذكر، وذلك بسبب عدم ارتباط التعليم بالاقتصاد. ويدعو إلى تدريس العلوم والتكنولوجيا باللغة العربية، وذلك لوقف هجرة العقول إلى الخارج. ويبحث في الأسباب السياسية والاقتصادية والاجتماعية لهذه الهجرة، وكيفية إرساء نظام حاضن يربط الكفاءات العلمية المغتربة بوطنها الأم.
ويعرض التقرير بشكل مفصّل الأبحاث العلمية وتوزيعها في الدول العربية، فضلاً عن براءات الاختراع التي أنتجتها هذه الدول على مدار العقدَين الماضيين. ويوضح أنّ الدراسات تُظهر أن براءات الاختراع هي من الأصول غير الملموسة التي تمثّل أكثر من %80 من القيمة السوقيّة للشركات الكبرى. ويدعو الدول العربيّة إلى تبنّي سياسة ذكية تستند إلى بناء مستقبل في صناعة الملكيّة الفكرية.
مؤشرات علمية
يعرض التقرير عددا من المؤشرات العلمية منها أن متوسط الإنفاق على نشاطات البحث والتطوير من الناتج القومي في الدول العربية يبلغ نحو %0.4، في حين تبلغ النسبة في الدولِ النامية نحو %1.2، وتبلغ عالميا نحو %2.0 وتقع في البلدان المتقدمة بين 3 و%4. ويُقدّر حجم إنفاق الدول العربية مجتمعة على هذه النشاطات نحو تسعة بلايين دولار أمريكي، في حين تنفق ثلاث دول مجاورة هي قبرص وإيران وتركيا نحو 9.2 بليون دولار على النشاطات المماثلة لديها.
ويذكرُ التقرير أن متوسط عدد العاملين بدوام كامل في نشاطات البحث والتطوير في الدول العربية يبلغ نحو 450 عاملا لكل مليون نسمة من السكان، في حين يبلغ في قبرص 752 وفي إيران 750 وفي تركيا 804. وعلى صعيد الابتكار، يذكر التقرير خلال استعراضه ترتيب الدول العربية ضمن 127 دولة لعام 2017، أن ثلاث دول خليجية هي الإمارات وقطر والسعودية احتلت مراتب ضمن قائمة الدول الخمسين الأول في حين يبتعد موقع بقية الدول العربية في الترتيب العالمي، ويقع بعضها في أسفله.
وعلى سبيل المثال يعالج الدكتور عمر البزري في بحث بعنوان (البحث العلمي في الوطن العربي) القضايا التي أعاقـت، ومـا زالـت تُعيـق، تقـدم القدرات العلميـة والتكنولوجية للدول العربية، والتـي تتجلى في تراجع ملمــوس فــي مســيرتها التنموية بأشــكال عدة، ويستعرض معطيات حــول مؤسســات العلــوم والتكنولوجيا والابتـكار فـي عدد مـن تلك الدول ولاسيما المعنية بالبحث العلمي وتطويـر القـدرات التكنولوجيـة ودعـم نشاطات الابتكار البشرية والمالية المخصصــة لنشاطات منظومــات العلــوم والتكنولوجيا. ويتطرق الباحث إلى ما تنتجه تلك الدول مـن منشـورات وبـراءات اختـراع وما تخصصه مـن مـوارد على مجالات الأبحاث المختلفة، والأوراق العلمية التي ينشرها الباحثـون العاملـون فـيها في الدوريات العلمية الدولية المحكمة، وأهم الميادين العلمية التي يكتبون فيها، وما تنبىء به حـول أنمـاط التعـاون بيـن الباحثيـن مـن البلـدان العربيـة ونظرائهـم فـي دول العالم.
الإعلام العلمي العربي
يتميز التقرير بتسليط الضوء على موضوع لطالما أغفلته المؤسسات العلمية العربية، أو لم توله الاهتمام المنشود إن أحسنا الظن، وهو الإعلام العلمي. وتستعرض مقالتان متخصصتان في الفصل الخامس وضع هذا النوع من الإعلام المتخصص، والتطورات الحاصلة فيه، والمعوقات التي تواجهه.
وفي هذا الشأن يوضح الخبير السعودي في الإعلام العلمي العربي الدكتور عبدالله القفاري في بحث بعنوان (الإعلام العلمي ودوره في بناء الثقافة العربية) أن ذلك النوع من الإعلام المتخصص يتطلب إلماما بالتخصص العلمـي وخبـرة اعلاميـة كافيـة. ويرى أن حـال الإعلام العلمي العربي ليست علـى مـا يـرام، وأنه يعانـي ضعفـاً وتواضعـاً فـي الأداء، مع وجـود نمـاذج جيـدة تتوافـر فيهـا عناصـر الإعلام العلمي الفعـال. ويتطرق إلى دور المؤسسات التي يتوقع أن يكون لها الإسهام الأكبر فــي دعــم الإعلام العلمــي، حيث تتـوزع مهـام عـدة بيـن المؤسسات الإعلامية من خلال الأقسام العلميـة، التـي يجـب أن تكـون حاضـرة فـي أجنـدة تطويـر صفحـات الإعلام العلمي، وممارسـة دور مهني أكثـر فاعليـة فـي هـذا المجال. ويشدد على أهمية دور الجامعـات والكليات المتخصصة بالإعلام فـي دعـم الإعلام العلمي باعتبـاره إعلاما تنمويا متخصصا لايمكن مقاربتـه بمعـزل عـن أقسـام علمية جامعية تأخـذ علـى عاتقهـا تقديـم برامـج دراسية وتطبيقيـة تدعـم هـذا النوع من الإعلام المتخصص.
ويستند التقرير بهذا الصدد إلى عدد من الدراسات التي تصف الإعلام العلمي العربي بأنه ليس على ما يرام، وأنه يعاني ضعفاً وتواضعاً في الأداء. ويشير إلى أنّ المؤسّسات التي يتوقّع أن يكون لها الإسهام الأكبر في دعم الإعلام العلمي، هي المؤسّسات الصحافية والجامعات وكليّات الإعلام، فضلاً عن الجمعيات والروابط المهنية الدولية التي تختص بهذا النوع من الإعلام. لكنّه يُحصي عدد المجلات العلمية البالغة 24 مجلة، فضلاً عن 34 موقعا إلكترونيا نشيطا. ويشير إلى تطوّر ملحوظ في عمل المواقع العلمية العربية لناحية الخدمات المرتبطة بتسهيل الوصول إلى المادة العلمية، ولناحية المساعدة على توصيلها.
المرأة في العلوم
يتضمن التقرير عددا من الأبحاث التي تتناول الواقع الذي تشهده المرأة العربية العاملة في الميادين العلمية، سواء من حيث كونها طالبة أو عاملة أو قيادية. ويرى أن المرأة شهدت نقلة نوعيّة ليست منفصلة عن مجمل التحولات الاجتماعية التي شهدها ويشهدها الوطن العربي، وحققت تقدما عاما في نسب مشاركتها في مجالَي العلوم والتكنولوجيا، وذلك على الرغم من العوائق المختلفة التي تواجهها ومن الخلل الأساسي بين البنين والبنات في الالتحاق المدرسي وفي الخروج من واقع الأمية، إضافة إلى التأثير الواسع للبنى الذهنية التقليدية على إدراك المرأة والرجل للأدوار الاجتماعية لكلا الجنسين.
ويستنتج أن مشكلة النساء والعلوم، بغض النظر عن المعوّقات والتحدّيات التي تقف في وجههن، ترتبط في جزء منها بسياسة تشجيع الابتكار في معظم الدول العربية. ويوصي بضرورة انخراط النساء في العلم والتقانة والابتكار والثقافة العلمية بصورة عامة؛ لأن ذلك يسهم في دعم المرأة العربية وتمكينها مجتمعياً وفي مشروعاتها، كإنسانٍ فاعل ومتفاعل في محيطه وخارج هذا المحيط في آن واحد.
الثقافة العلمية التنموية
يدعو التقرير إلى نشر الثقافة العلمية كونها المنطلق الأساس لنجاح ما سماه “الثقافة التنمويّة”، وإلى تشجيع الابتكار والبحوث العلمية والتطوير التكنولوجي لما لكلّ ذلك من دور في توليد فرص عمل جديدة ومكافحة الفقر. ويوصي بضرورة وضع استراتيجيات بديلة لتحفيز الابتكار، بينها تأسيس منظومات وطنية للابتكار يمكنها تحقيق أهداف التنمية المستدامة، وإطلاق المبادرات الملائمة للارتقاء بالأنظمة البيئية للعلوم والتكنولوجيا والابتكار، من أجل التنمية الاقتصادية والاجتماعية وريادة الأعمال في الدول العربية.
ويرى أن التحدي الرئيسي للتنمية المعاصرة في الوطن العربي هو الاعتماد المفرط على الموارد الطبيعية والمصادر غير المتجددة، ويشدد على ضرورة دخول العرب مجتمعات المعرفة والإنتاج والتخلي عن الاعتماد المفرط على الريع، من خلال رفع مستوى الطلبة، وتدريب اليد العاملة، ورفع الإنفاق على البحث والتطوير، وربط مؤسساته بالحاضنات ودور الاستشارات والمؤسسات العامة، وذلك وفق خطة طويلة الأمد يشارك الجميع في وضعها. ويدعو إلى النظر إلى الذكاء الاصطناعي والثورة الصناعية الرابعة كجزء أساسي من المستقبل التنموي للوطن العربي. >