الإنفلونزا تشكل خطراً كبيراً على الصحة العامة، لكن الاستعمال الواسع للقاحات يساعد على الحد من أخطارها الصحية والاقتصادية.
د. حسن زراقط
أستاذ محاضر وباحث في قسم الأمراض الجرثومية وعلم المناعة بالجامعة الأمريكية في بيروت،( لبنان)
لطالما عرفت البشرية الإنفلونزا، وتعاملت مع أنواعها عبر القرون، وعالجتها المجتمعات بأنماط عدة من العلاجات اعتمادا على ما تمتلكه من موارد طبيعية أو ما لديها من معتقدات دينية، وصولا إلى العلاجات الحديثة التي لاتزال عاجزة عن علاج عدد منها. والإنفلونزا عدوى فيروسية تهاجم الجهاز التنفسي، وهي مسبب رئيسي للالتهابات الحادة للجهاز التنفسي.
تفشي الإنفلونزا
يرتبط تفشي الإنفلونزا الموسمية بمعدلات مرض ووفيات كبيرة في جميع أنحاء العالم. وهي بذلك تشكل عبئًا كبيرًا على الاقتصاد العالمي بسبب تكاليف العلاج والغياب عن العمل. وتظهر التقديرات أن ما بين 5 إلى 20 % من سكان العالم يصابون بالإنفلونزا كل عام، مما يؤدي إلى ما بين ثلاثة إلى خمسة ملايين حالة تتطلب دخول المستشفيات، وما يصل إلى 625000 حالة وفاة. تسجل معظم حالات الإنفلونزا أثناء فصل الشتاء في الدول ذات المناخ المعتدل في حين تستمر طوال العام في الدول المدارية. تعزى الفاشيات السنوية في البشر إلى نمطين فرعيين من الإنفلونزا A (A/H3N2 و A/H1N1) و سلالتين من الإنفلونزا B (B/Yamagata و B/Victoria). ويسجل أحياناً حالات من الإنفلونزا C لكنها نادرة جداً، وغالباً ما تكون العدوى بها طفيفة.
تحمل فيروسات الإنفلونزا جينومات مجزأة مكونة من الحمض النووي الريبي (RNA)، لذا فهي تتطور وتتغير بسرعة كبيرة. وتحمل فيروسات الإنفلونزا من النمط A و B على سطحها بروتينين مختلفين هما الراصة الدموية (HA) والنورامينيداز (NA). ويقسم النمط A إلى عدة فروع وفقاً لتوليفة هذين البروتينين. تعتبر الطيور المائية البرية وغيرها من الطيور البرية الخزان الطبيعي لفيروسات الإنفلونزا من النمط A. وقد تؤدي التغييرات الوراثية وتبادل الجينات بين الأنماط الفرعية إلى بروز أنماط فرعية جديدة ربما تسري أحيانا في البشر وتؤدي إلى حدوث الجائحات. يعتبر الخنزير والدواجن حيوانات وسيطة تسهل تطور وانتقال هذه الفيروسات إلى البشر، وذلك نظراً لإيوائها بالقرب من بعضها واختلاط الناس معها.
خطر الجائحات الجديدة
حالياً هناك عدة أنواع من إنفلونزا الطيور التي يقدر العلماء أنها قد تشكل خطر التحول إلى جائحة، وأبرزها A/H5N1 و A/H7N9. يؤدي هذان النوعان إلى إصابات متقطعة عند البشر، لكنهما يترافقان مع نسب وفيات عالية جداً (30% إلى 60%). لذا يؤكد العلماء على ضرورة رصد هذه الفيروسات الناشئة ودراستها بدقة لمعرفة إمكانية تحولها الى جائحة والتحضير لها.
ينتقل فيروس الإنفلونزا عن طريق الرزاز أو الحبيبات الصغيرة التي يفرزها الشخص المريض أثناء السعال أوالعطس أو الكلام. ويسهم اكتظاظ الأشخاص في المدارس والتجمعات العامة في انتشار العدوى. وتتراوح عوارض عدوى الإنفلونزا بين خفيفة تزول من تلقاء نفسها خلال أسبوع أو أكثر، ومضاعفات خطيرة قد تؤدي إلى دخول المستشفى والوفاة أحياناً. وتعتبر الحمى أو ارتفاع درجة حرارة الجسم، والسعال، وآلام العضلات، والتهاب الحلق التي تظهر بشكل مفاجئ من أبرز سمات الإنفلونزا. أما أهم المضاعفات التي قد تسببها الإنفلونزا فهي الالتهاب الرئوي، والتهاب الأذن، والتهاب الشعب الهوائية، إضافة إلى مشكلات في القلب.
والفئات الأكثر عرضة للمضاعفات والإصابات الوخيمة هم الأطفال دون سن الخامسة، والأشخاص الذين يزيد عمرهم على 65 عاما، والحوامل، والأشخاص الذين يعانون أمراضا مزمنة كالربو والسكري والأمراض القلبية. كما يعتبر العاملون في القطاع الصحي أكثر عرضة للإصابة بعدوى الإنفلونزا بسبب طبيعة عملهم.
لقاحات سنوية
تسهم الممارسات الوقائية- كغسل اليدين الجيد لمدة 20 ثانية، وتغطية الأنف والفم بمنديل أو بالذراع المثنية أثناء العطس أو السعال، وتجنب مخالطة المرضى- في الحد انتقال عدوى الإنفلونزا.
ويعتبر اللقاح السنوي الركيزة الأساسية للوقاية من الإنفلونزا والحد من انتشارها وأخطارها الوخيمة. ويعتبر اللقاح آمنا وفعالا، ويوصى به لكل من بلغ من العمر ستة أشهر فأكثر، ولاسيما لمن هم أكثر عرضة للعدوى ومضاعفاتها الوخيمة.
وبسبب قدرة فيروس الإنفلونزا على التطور السريع يجب إعادة اللقاح بشكل سنوي. ويحتوي اللقاح السنوي على ثلاث سلالات فيروسية (اللقاح الثلاثي) هي نمطان فرعيان من فيروسات الإنفلونزا A وفيروس واحد من النمط B. وطور لقاح رباعي بدءا من موسم الإنفلونزا 2013-2014، وهو يحتوي على الفيروسات الموجودة في اللقاحات الثلاثية إضافة إلى سلالة ثانية من النمط B للتأكد من تأمينه وقاية أوسع ضد الإنفلونزا.
وتشمل لقاحات الإنفلونزا عدة أنوع: المعطلة، الموهنة الحية، والبروتينات المؤتلفة. وخلال كل موسم تدرس الفيروسات التي تنتشر في البشر من خلال الرصد والتحليل الجيني والمستضدي. وبناءً على ذلك يتم اختيار الفيروسات التي يرجح أن تكون أكثر شيوعا في الموسم المقبل لاستعمالها في اللقاح السنوي.
علاجات متنوعة
تتوفر العديد من الأدوية المضادة لفيروس الإنفلونزا. ويسهم استعمال هذه الأدوية في التخفيف من مدة المرض والتقليل من المضاعفات الحادة له. ويوصى بالبدء المبكر للعلاج خلال مدة 48 ساعة من ظهور العوارض للحصول على أفضل النتائج.
وهناك صنفان أساسيان من المضادات الفيروسية: الصنف الأول هو مثبطات بروتين الإنفلونزا نورامينيداز (NA)، ومنها أوسيلتاميفير وزاناميفير و بيراميفير ودواء لانيناميفير. تمنع هذه المركبات إطلاق الفيروسات من الخلية المصابة وتسهم في الحد من انتشارها مما يسمح للجسد بالتغلب عليها. أما الصنف الثاني فهو مثبط البوليميريز (بالوكسافير ماربوكسيل) الذي يمنع تكاثر وإنتاج الفيروس داخل الخلية، وقد صودق على استخدامه حديثا. وسجلت مستويات منخفضة من المقاومة ضد هذه الأدوية المضادة للفيروسات خلال الفاشيات الموسمية الأخيرة.
لاشك في أن الإنفلونزا تشكل خطراً كبيراً على الصحة العامة. لكن الاستعمال الواسع للقاحات يساعد على الحد من أخطارها الصحية والاقتصادية. ولا بد من التأكيد على أهمية الرصد المستمر للإنفلونزا في الحيوان والإنسان وفق منهج الصحة الموحدة One Health Approach للمساهمة في الوقاية منها والسيطرة عليها.
جائحات عالمية
حدثت أربع حالات انتشار عالمي (جائحات) للإنفلونزا خلال القرن الماضي في الأعوام 1918 (الإنفلونزا الإسبانية H1N1)، و1957 (الإنفلونزا الآسيوية H2N2)، و1968 (إنفلونزا هونغ كونغ H3N2)، و2009 (إنفلونزا الخنازير H1N1). تعتبر جائحة 1918 التي سببها الفيروس A/H1N1 من أسوأ الأوبئة التي اجتاحت البشرية في التاريخ. وتظهر التقديرات أنها أدت إلى زيادة قياسية في معدلات الوفاة؛ فقد أصيب نحو خمس سكان العالم بهذا الفيروس، وأدى إلى وفاة ما بين 50 و100 مليون شخص. في عام 2009 ظهر الفيروس A/H1N1 في المكسيك، وانتشر بسرعة كبيرة في العالم متحولا إلى جائحة أدت إلى وفاة ما بين 151 و575 ألف شخص في أول عام من انتشاره. وارتبطت نشأة ذلك الفيروس بالخنازيز. وقد تبين للباحثين أن منشأه خليط من فيروس الخنازير الأمريكي الشمالي الذي انتشر بين الطيور والبشر والخنازير، وفيروس الخنازير الأوراسي الثاني الذي تم انتشر لأكثر من عشر سنوات في الخنازير في المكسيك قبل انتقاله إلى البشر