د. محمود الذوادي
من خلال البحث عن جوهر الطبيعة البشرية ومحاولة سبر ألغازها، ظهرت في عام 1940 نظرية تسمى (الإنسان الكائن غير المكتمل) l’être Inachevé . ولاقت هذه النظرية ردود فعل إيجابية لدى عدد من العلماء في ميادين علم الأحياء (البيولوجيا) وعلم الإنسان (الأنثروبولوجيا) والفلسفة. وتتمثل مقولة هذه النظرية في أن الإنسان هو كائن غير مكتمل بيولوجيا. ويعني هذا أن غرائز وأعضاء هذا الكائن البشري فاقدة للاعتماد على الذات عند ولادته، مقارنة بأجناس حية أخرى تكون قادرة على الحياة بالاعتماد على نفسها عند ولادتها دون التعلم أو العون الخارجي. وخلاصة القول تفيد بأن الإنسان عند الولادة لا يملك فطرياً مؤهلات محددة توجه سلوكاته المتعددة؛ إذ إنه يأتي للحياة من دون قدرة على الدفاع على الذات ومن دون قدرات خاصة أو غريزة باستثناء الرضاعة من ثدي أمه. ومن ثمّ، فهو يحتاج إلى سنوات عديدة من النمو والتعلم قبل أن يصبح معتمداً بالكامل على نفسه. وبعبارة أوضح؛ إن التنشئة الاجتماعية تعوّض ما لديه من ضعف بيولوجي خلقي.
ويرى عالم النفس والاجتماع الألماني أرنولد جهلن في كتابه (الإنسان.. طبيعته ومكانته في عالم 1940) أن هذا الإنسان كائن منفتح على العالم، أي إنه بطبيعته كائن ثقافي. ومن جهته، يؤكد أكبر علماء الحيوان كونراد لورنز أن قلة الغرائز عند الإنسان تجعل منه كائناً غير مكتمل.
وفي مقابل ذلك هناك من العلماء من يرى أن كثيراً من المهارات البشرية تبدو فطرية؛ لأنها تكون حاضرة لدى الأطفال عند الولادة. ويأتي تعلم لغة الأم بأصواتها وكلماتها في طليعة تلك المهارات، الأمر الذي يشير إلى أن ذلك لم يكن ليحصل لو كان مخ الطفل «غير مكتمل».
وبالعكس، فإن مهارة تعلم اللغة تدل على وجود نضج مبكر كبير في قسم اللغة من خريطة المخ البشري، فالطفل مجهز بترسانة وافية مختصة في تعلم اللغة، وهذا ما جعل عالم اللسانيات ستيفن بنكر لا يتردد عن الحديث حول «غريزة اللغة» عند الإنسان وحده.
وتبرهن بحوث علم النفس حول المقدرات المبكرة للرُّضع وصغار السن من الأطفال أن أدمغتهم تتمتع بمهارات ومؤهلات عالية المستوى تتجاوز اعتقادات معظم الناس. ومن ثمّ، فإن أدمغتهم تتصف بدرجة نمو ممتازة، تسمح لهم بالقيام بمجموعة من المسائل المعقدة. وكل ذلك يدل على أن الكائن البشري ليس في الواقع غير مكتمل على مستوى تركيبة مخه، كما تعتقد مقولة نظرية (الإنسان.. الكائن غير المكتمل).
اللغة أم الثقافة
بعد تحليل الجوانب المختلفة لأطروحة تلك النظرية، يمكن القول إن ظاهرة الثقافة التي يتميز بها الإنسان ذات جذور بيولوجية. وكما رأينا؛ فإن البنية البيولوجية والعصبية المبكرة الراقية لدماغ الطفل تؤهله لتعلم اللغة منذ الولادة.
واللغة هي الأساس الأول لميلاد ظاهرة الثقافة أو ما نسميها الرموز الثقافية (اللغة والفكر والدين والمعرفة/العلم والقيم والأعراف الثقافية والأساطير والقوانين).
لذا، فإن اللغة هي أم الرموز الثقافية جميعاً، أي إنه لا يمكن وجود أي من عناصر الثقافة / الرموز الثقافية، مثل الفكر والدين والعلم..إلخ.. دون حضور اللغة البشرية في شكلها المنطوق على الأقل، ناهيك عن شكلها المكتوب الذي يتميز به الإنسان عن بقية الكائنات.
وهكذا يصح القول: إن «الإنسان كائن ثقافي بالطبع»؛ أي إنه بفطرته البيولوجية والعصبية في تركيبة مخه منذ الولادة هو كائن ذو مهارة عالية في تعلم اللغة التي هي مربض الفرس بالنسبة لنشأة ظاهرة الثقافة ونموها وتطورها.
وبخصوص سيادة الجنس البشري على غيره من الكائنات، فإنها ذات علاقة قوية ومباشرة بالمعلميْن 5 و4: الهوية المزدوجة والرموز الثقافية. والعنصر المشترك بين هذين المعلميْن هو منظومة الرموز الثقافية. وهكذا يتجلى الدور المركزي والحاسم لهذه المنظومة في تمكين الإنسان وحده من السيادة/الخلافة في هذا العالم.
مقدرة مقولتنا على التفسير
إن منظومة الرموز الثقافية تسمح أيضاً بتفسير المعلمين 1 و2، فالنمو الجسمي البطيء عند الإنسان يمكن إرجاعه إلى أن عملية النمو الشاملة عنده تتمثل في جبهتين: الجبهة الجسمية وجبهة الرموز الثقافية، خلافاً للنمو الجسدي السريع عند الكائنات الأخرى بسبب فقدانها لمنظومة الرموز الثقافية بمعناها البشري الواسع والمعقد. وهذا يعني أن نمو الكائن البشري على مستويين يؤدي بالضرورة إلى بطء عملية النمو ككل عنده: أي على الجبهتين.
وبعبارة أخرى، فإن انصراف كل جهود عملية النمو عند الإنسان إلى جبهتين – لا جبهة واحدة – يعطل سرعة النمو على الجبهتين عند الإنسان: أي إلى بطء في النمو الجسدي وبطء في نمو منظومة الرموز الثقافية. ويلخص الشكل أعلاه مركزية منظومة الرموز الثقافية في ذات الإنسان، فيعطي بذلك مشروعية قوية لمقولة إن الإنسان كائن رموزي ثقافي بالطبع.
وهناك مشروعية فكرية ومنهجية لوصف هذا الإطار التحليلي للرموز الثقافية بأنه يمثل نظرية؛ لأن النظرية هي ذلك الإطار الفكري الذي يفسر عدداً من الظواهر المختلفة. وهذا ما تُبيّنه مقولة منظومة الرموز الثقافية عندنا. فالمعالم 1، 2، 3، و5 المميزة للإنسان في الشكل هي حصيلة لمركزية الرموز الثقافية في هوية الإنسان. ومن هنا تأتي مشروعية استعمال فكرة الرموز الثقافية أو البعد الثالث لبناء نظرية لفهم وتفسير طبيعة الإنسان وسلوكات الناس وشؤون مجتمعاتهم.