الإنسالات الطبية.. تطبيقات باهرة للذكاء الصنعي
د. أيمن الأحمد
نحو 30 عاما مضت منذ أن استخدم الأطباء أول إنسالة (روبوت) في العالم لإجراء إحدى العمليات الجراحية، محققين بذلك فتحاً طبياً جديداً ساهم في تطور العمليات الجراحية وتحسينها، وخفف من عدد الوفيات والأخطاء الطبية، وحدّ من المضاعفات الخطرة والإصابات المزمنة. ففي الثاني عشر من مارس عام 1984 أجرى عدد من أطباء العظام في مستشفى جامعة كولومبيا البريطانية بفانكوفر الكندية عملية جراحية لأحد المرضى باستخدام إنسالة صممها عدد من المهندسين، وأطلقوا عليها اسم (Heartthrob).
وتوالت بعدها الإنجازات في مجال استخدام الإنسالات في العمليات الطبية، لاسيما مع التطورات الحاصلة في مجال الهندسة الإلكترونية وعلم الحاسوب وعلم المواد.
ويوماً بعد يوم أخذت الإنسالات الطبية تدخل مجالات معقدة جدا، وتحل محل الجراحين في عدد كبير من المهمات الصعبة، كما أخذ حجمها يصغر عاماً بعد آخر ليتمكن الأطباء من استخدامها في عمليات خاصة تحتاج إلى أدوات دقيقة جداً وصغيرة الحجم في الوقت نفسه.
البداية من المناظير
مع انتشار الجراحة بالمنظار في التسعينيات من القرن العشرين، فإن تغيير الصيغة التي كانت متبعة في عمليات الجراحة العامة طور الاتجاه إلى التدخل بأصغر جرح وأقل عدد من الجروح المحتملة في جسم الإنسان في كل العمليات الجراحية. وأجريت أول عملية لاستئصال المرارة باستخدام إنسالة عام 1997، ثم تطور هذا الاتجاه بصورة كبيرة.
ومع أن التدخل الجراحي بالمنظار في عمليات عديدة هوالأمر الذي كان مستخدماً مدة طويلة، وما زال حتى الآن في عدد كبير من الدول، فإن هنالك تقييدات معينة تتضمنها تقنيات المنظار، وهو الأمر الذي ركزت عليه العمليات التي تستخدم الإنسالات، ولاسيما مع استخدام تقنية الأبعاد الثلاثية، حيث يمكن رؤية الأمور بوضوح شديد، ودقة عالية جداً.
ومع تطور العلوم تطورت استخدامات الإنسالات الطبية، فأصبح الجراحون يرون المنطقة التي يجرون لها الجراحة بأبعادها الثلاثة ويدققون في أدق التفاصيل، ويستطيعون التمييز بين الأعصاب والأوعية الدموية الدقيقة، مع إمكانية تنفيذ عدد من العمليات الطبية في الوقت نفسه.
وهذه الاستخدامات العديدة والمتطورة للإنسالات الطبية أدت إلى نتائج عديدة، انعكست على الطبيب والمريض من جهة، والنواحي الاقتصادية والاجتماعية والنفسية.
من جهة أخرى؛ فقد أدت إلى تقليل فترة النقاهة، وتخفيف درجات الألم واستخدام الأدوية المختلفة، وزيادة نجاح العمليات الدقيقة، وسرعة خروج المرضى من المستشفيات، والحد من الإنفاق الحكومي على الرعاية الطبية، وتحسين الحالة النفسية والمزاجية للمرضى، والحد من الأخطاء الطبية، وسرعة إنجاز العمليات الجراحية وعددها.
إنسالات طبية نانوية
تتضمن أحدث التطورات العلمية في مجال الإنسالات الطبية استخدام ما يمكن تسميته بالإنسالات الطبية النانوية، وبمعنى آخر سيتضمن جراحو المستقبل إنسالات نانوية (متناهية في الصغر) تدخل أجسام المرضى وتؤدي عملها من الداخل من دون حاجة إلى إجراء عمليات شق للمرضى أوإفقادهم للوعي. وهذا الجيل من الإنسالات الطبية سيدخل إلى أجسام المرضى من خلال الآذان أوالعيون أو الأجهزة التنفسية، لتطرح الدواء المناسب، وتأخذ عينات من النسج المختلفة.
ومن تلك الإنسالات الطبية الحديثة إنسالة طولها 5 مم فقط ولها 16 رجلاً اهتزازية للتحكم فيها والسيطرة على حركاتها. وستتولى هذه الإنسالة أخذ عينات وإعطاء عقاقير السرطان، وتزويد الأطباء بصور لمناطق يصعب الوصول إليها، مثل أعماق داخل الرئتين. وستعمل داخل الأوعية الدموية الكبيرة لاستكشاف العلل الموجودة فيها.
ومن أهم استخدامات تلك الإنسالة استعمالها لدى الأشخاص في إدخال أدوات السمع وزرعها. وهذه الأدوات يستخدمها الأشخاص الصم، حيث توضع أقطاب كهربائية صغيرة ضمن سماعة رقيقة على هيئة لولب حساس لتحفيز العصب السمعي. وهذه الإنسالة ستكون قادرة على زرع الأداة المناسبة داخل قوقعة الأذن بصورة أعمق مما يمكن فعله حالياً، أو تمنح المريض سمعاً أفضل.
ومع التقدم أكثر في التصميم النانوي، تكثر الفرص للحصول على أدوات طبية داخل الجسم بطرائق مبتكرة. وثمة أداة منمنمة مختبرة ومجربة وهي آلة تصوير في كبسولة صغيرة بما يكفي بحيث يمكن ابتلاعها والتعرف من خلالها إلى ما يحتاج إليه الطبيب.
ويركز بعض الأطباء على استخدام الإنسالات النانوية في جراحة العين لأنها تتطلب دقة عالية. وهنالك إنسالة تدعى (الإنسالة العينية) تستخدم لقياس مستويات الأكسجين عند سطح شبكية العين، ومؤشر إمداد الدم. من أجل هذا، فإن الإنسالة مكسوة بمادة كهرضوئية كيميائية، ويظهر قياس السطوع فيها تركيز الأكسجين.
ويمكن استخدامها أيضاً لمعالجة انسداد الوريد الشبكي الذي يحدث عندما تحجز قطرة دم العرق الرئيسي خلف العين. كما تستخدم في سحب السوائل من تجويف الجسم، حيث يتم وضعها داخل سطح العين، ويتم إدخال إبرة فيها لحقن الدواء داخل العرق المستهدف، لكن وصول الإبرة إلى الشعيرة الدموية يتطلب مهارة جراحية كبيرة، وهو ما استدعى تصميم أداة نانوية جديدة تؤدي هذه المهمة.
الإنسالات الطبية والأخلاقيات
يستطيع المصمِّمون برمجةَ الإنسالات بمبدأ أخلاقي يُستنبَط بتطبيق تقنية في الذكاء الصُنعي تُدعى «التعلُّم الآلي» machinelearning.
يلقِّم المصمِّمون خوارزميةَ التعلُّم الآلي بمعلومات عن الخيارات التي ينبغي اعتبارها سليمة أخلاقياً في عدد من الحالات المختارة، اعتماداً على معايير مثل: مدى الفائدة المرجوَّة من فعلٍ ما، ومدى الضرر إذا لم ينفذ، ومدى الحيادية في اتخاذ القرار. ومن ثم، تَستخلِص الخوارزميةُ مبدأ عاماً يمكن تطبيقُه على حالات جديدة.
وكثيرا ما يتعيَّن على الإنسالات التي تتآثر مع البشر أن تتَّخذ قرارات لها تداعيات أخلاقية. وليس في وسع المبرمجين التنبُّؤ بكل إشكال أخلاقي قد يعترض الآلة، غير أن بإمكانهم توفير مبدأ شامل قادر على توجيه اتخاذ القرار عن كل واقعة على حدة.
قدَّم بعض الباحثين أولَ عرض لإنسالة (سموها ناو) قادرة على اتخاذ قرارات أخلاقية؛ فزوَّدْوها على سبيل المثال بمبدأ أخلاقي تستعمله لتحديد عدد المرات التي يتعيَّن عليها تذكير مريض بتناول دوائه. وقد أثبتت برمجة الإنسالة قدرتها على الاختيار من بين بضعة خيارات ممكنة، كالمداومة على تذكير المريض مرة بعد مرة بتعاطي الدواء، وتحديد موعد تناوله، أومجاراة قرار المريض عدمَ تناوله. وتستطيع إنسالةٌ تساعد المسنِّين أن ترتِّب أولويات خِدماتها المحتملة وفقا لدرجة تلبية هذه الخدمات للمعايير الأخلاقية. واعتماداً على تلك التقديرات تَستعمِل مبدأَها المدمَج فيها لتحديد أولويات أعمالها في وقت معيَّن. فعلى سبيل المثال، إذا طلبَ أحدُ الأشخاص طعاماً وطلبَ آخرُ جهازَ التحكُّم في التلفاز، فلربما تجد الإنسالةُ أن من المصلحة أداءَ عمل آخر أولا، كتذكير مريض بتناوُل دوائه.
إنسالة طبية باهرة
تملك اليابان معدل شيخوخة كبيراً، إضافة إلى أطول متوسط عمر في العالم. وهذان العاملان تسبباً في إحداث مشكلة كبيرة في نظام الرعاية الصحية هناك؛ ففي السنوات المقبلة، سيصبح من الصعب تقديم رعاية صحية عالية المستوى، في ضوء تزايد عدد كبار السن. ومع وجود نقص في عدد الممرضات على مستوى العالم، يبدو أن اليابان ليست وحدها التي تعاني تلك المشكلة، ولكن اليابان تتصدر المشهد الخاص بتطوير الإنسالات التي تساعد الممرضات على جميع أعباء العمل الأساسية.
فقد طور العلماء الإنسالة (Terapio) التي ستريح الممرضات من بعض الأعمال، مثل جمع البيانات الخاصة بالمرضى ومتابعة المؤشرات الحيوية، مما يسمح لهن بالاهتمام بالمرضى بصورة أكبر.
تتضمن تلك الآلة سجلاً كاملاً للمريض، والتاريخ الطبي لها للاستعانة بتلك البيانات بسهولة. ويمكن لتلك الإنسالة التعرف إلى تفاعلات الأدوية التي ربما تشكل خطراً على صحة المريض. وكما هي مُبرمجة، فعندما لا تظهر بيانات على الشاشة، يظهر وجه الإنسالة وهو في ابتسامة ودية، ويمكن تغيير شكل العينين للتعبير عن المشاعر.
ولهذه الإنسالة ثلاثة أنظمة تشغيل، النظام الأول يُدعى مساعد الطاقة، ويسمح لها بالمناورة والحركة الدائمتين، أما النظام الثاني فيُدعى التعقب، حيثُ يتيح لها تعقب الممرضة متجنباً أي عائق في طريقه، في حين يدعى النظام الثالث بالدوريات، وهو يتيح للإنسالة الذهاب في دوريات إلى المرضى لجمع البيانات الخاصة بوضعهم الصحي، أوفحصهم. وثمة إنسالة يابانية أخرى تدعى (RIBA) مصممة لرفع المرضى بعناية فائقة من الأسرة أو وضعهم عليها، ومساعدتهم على التحول من وضع الجلوس إلى وضعية القيام، وغير ذلك من مهمات شخصية.