د. أيمن الأحمد
كلما استبشرت البشرية خيراً بالإنجازات الطبية الحديثة في معظم المجالات الصحية، وتفاءلت بما يمكن تسميته “الفتوحات الطبية” – على سبيل المجاز – تطالعنا بعض الأخبار التي تحد من ذلك التفاؤل، وتعيدنا إلى دائرة الشعور بالأخطار التي تهدد البشرية، ولاسيما الأوبئة التي تجتاح مناطق متفرقة في أنحاء العالم فتقتل العشرات وأحيانا المئات، وتشرد الآلاف، وتحدث ويلات ومآسي يصعب حصر آثارها.
وعلى الرغم من التطور الطبي المستمر فإنه يمكن القول إن الأمراض المعْدية لم تتلاش حتى الآن بل إنها بعيدة عن هذا الوصف، فهي مازالت تهدد معظم دول العالم. والتهديدات القادمة من عوامل معْدية جديدة تجعل دول العالم أيضاً قريبة بعضها من بعض.
وفي عصر العولمة هذا، تخترق العوامل الممرضة الحدود الوطنية وتستطيع الانتشار عبر كوكب الأرض بسرعة هائلة. ومادامت هذه العوامل تختار الاستيطان في أمكنة لا تمييز بينها، فإنها تمثل خطراً حقيقياً على البشرية، ولا تستطيع دولة واحدة بمفردها أن تتعامل معه وتصدّه.
والأوبئة القديمة المعروفة مثل الملاريا والحصبة والإنفلونزا والإسهال والطاعون، والجديدة مثل الإيدز وإيبولا وإنفلونزا الطيور وإنفلونزا الخنازير، تعتبر أكبر قاتل في العالم، ولكن إذا تم ربطها بحشد الأوبئة الجديدة سيصبح لدى المرء انطباع بأنه في كل مدة زمنية قصيرة يظهر مرض جديد.
أوبئة فتاكة
ومع انتشار وباء إنفلونزا الطيور وإنفلونزا الخنازير قبل سنوات، ووباء إيبولا السنة الماضية، عادت الأوبئة لتظهر على المشهد العام من جديد، مع وجود تنبؤات بظهور أوبئة فتاكة قريباً ربما تودي بحياة الملايين في أنحاء العالم.
وعندما يحتشد الناس في المدن العالية الكثافة، وينتشرون في الأحياء الفقيرة والمستشفيات، ويستهلكون أغذية رديئة أو غير كافية ومياهاً ملوثة، ويسافرون على نحو واسع، ويدمرون جهازهم المناعي بالأمراض والأدوية الكيميائية أو السموم البيئية؛ فإن الكائنات الممرضة يكون لديها مجال أوسع بكثير للمناورة.
ويحدث أي وباء عالمي عندما يظهر أو يتطور نوع جديد من الفيروسات يكون قادراً على الانتقال من شخص إلى آخر بسهولة، بحيث لا يوجد لدى أجسام الأشخاص أي مضادات بسبب عدم تسبب هذا الفيروس بعدوى سابقة. وحين يستطيع الفيروس الدوران بين الأشخاص يصبح قادراً على الانتشار بصورة هائلة وبسرعة عجيبة.
الإنفلونزا الإسبانية
ولعل أشهر أنواع الإنفلونزا فتكاً التي عرفها التاريخ هو الإنفلونزا الإسبانية التي قدرت حالات الوفاة الناجمة عنها بعيد انتهاء الحرب العالمية الأولى عام 1918 بــ 20 إلى 40 مليون شخص. وتم تعريف هذا الوباء على أنه أكثر الأوبئة تدميراً في تاريخ البشرية.
وجاء اسم الإنفلونزا الإسبانية نتيجة لحالات الوفاة الكثيرة جداً في إسبانيا، حيث قضت على نحو 8 ملايين شخص في مايو 1918. وظهرت أولى الحالات في ولاية كنساس الأمريكية في معسكر للجنود، ثم انتشرت في معظم أنحاء أمريكا.
وأصبح عام 1918 هو عام الموت والوباء في العالم أجمع، وكان تأثير مرض الإنفلونزا الإسبانية كارثياً لدرجة أن متوسط عمر الفرد الأمريكي انحدر بنسبة 10 سنوات. وكان المرض يعمل بصفة مميتة إلى حد أن نسب الوفاة بلغت 2.5 % مقارنة بنسبة 0.1 % من أمراض الإنفلونزا المعروفة سابقاً.
وانتشر وباء الإنفلونزا في العالم عبر حملته من البشر خلال طرق النقل البحري، فحدثت انفجارات للوباء في أمريكا الشمالية وأوروبا وآسيا وإفريقيا والبرازيل وجنوب المحيط الهادي.
وفي أكتوبر 1918 توفي نحو 200 ألف شخص أمريكي، وفي 11 نوفمبر انتهت الحـــرب لكن هذا كان بمنزلة صحوة جديدة للمرض، إذ بدأ الناس بالاحتفال بأعداد كبيرة، وكانت هذه كارثة صحية في حد ذاتـــــها حيث انفجـــــر الوباء في بعض المدن. وكانت الإنفلونزا في شتاء ذلك العام كارثية، إذ انتقـــــل المرض إلى الملايين ومات الآلاف متأثرين.
تأثير العوامل البشرية
يعتبر الطبيب الإغريقي أبقراط والد علم الأوبئة، فهو أول من اعتقد بوجود علاقة بين حدوث انتشار الأمراض وبين العوامل البشرية. ويربط الباحثون بين ازدياد الأوبئة في العالم والنشاطات الإنسانية التي ازدهرت في الآونة الأخيرة، فمرض جنون البقر يعتقد أنه نتج من أعمال بيئية مشتبه فيها من خلال إعطاء أغذية تم إعدادها من بقايا الحيوانات للمواشي التي تتغذى طبيعياً على الأعشاب.
وثمة أجزاء من بروتين صغير مروع أطلق عليه البيرونز ظهر أنه السبب لذلك المرض، وهو لا يتحطم أو يتفكك عند طبخ اللحم. وبروتين البيرونز هو السبب في إصابة الإنسان بحالة من الوهن القاتل الذي لا يمكن تجنبه ويعرف بمرض فارينت كروتزفيلد-جاكوب.
ومنذ وقت بعيد عرفت فيروسات رملية أخرى كمسببات مسؤولة عن الحميات النزفية. ومن ذلك فيروس ماتشوبو الذي ظهر في بوليفيا عام 1952، وفيروس جونين الذي ظهر في الأرجنتين عام 1958. ويمكن لهذين الفيروسين أن يعيشا في نوع من القوارض يعرف باسم فئران المساء، ويتسلل النوع البوليفي منها إلى مساكن الناس.
وتنتقل بعض الفيروسات بوساطة البعوض بدلاً من انتقالها عن طريق القوارض. لذا فإن الاضطرابات البيئية الناشئة عن بناء السدود والتوسع في مشروعات الري مثلاً تبدو مشجعة لهذه العوامل.
وعندما انتشر مرض سارس في الصين في عام 2003، وجد الفيروس المسبب لهذا المرض في سنور الزباد. وفي الحال تم استهداف وقتل الآلاف من الحيوان الثديي البري الصغير، الذي كان يعد طعاماً تقليدياً في المناطق المجاورة للإقليم الذي ظهر فيه. وانتقد بعض العلماء عملية القتل لأنها عملية تمزيق بيئية غير ضرورية، ثم تبين أن الخفافيش وليس سنور الزباد هي مستودع الفيروس.
وتشكل الصناعات البيولوجية مصادر خطورة أيضاً؛ إذ إن لقاحات عديدة تُحضَّر من خلايا حيوانية، فإذا كانت هذه الخلايا ملوثة، فهناك خطر من إمكان انتقال فيروس مجهول الطبيعة إلى من يتم إعطاؤهم اللقاحات.
ويحذر بعض الباحثين من آثار ارتفاع حرارة الأرض على انتشار الأوبئة، لأن الظروف الأكثر سخونة لها تأثير عام على زيادة النشاط البيولوجي. فهناك قلق – على سبيل المثال – من أن تنقل الحشرات الاستوائية الكائنات الممرضة إلى المناطق المعتدلة المناخ حالياً.
الفطريات ودور الإنسان
لطالما أظهرت الدراسات أن اللوم يجب أن يوجه إلى الإنسان إلى حد كبير لوجود هذه المجموعة الحاشدة من الفطريات التي تسبب الأمراض وتهدد النباتات والحيوانات والبشر، وأنه يجب ألاّ نقتصر في اللوم على دور الإنسان الرئيسي في التغير المناخي. فلدى العديد من الفطريات مجال محدد تتوطن فيه، ولكن البشر لم يألوا جهداً في مساعدة هذه الفطريات على أن تفر من تلك المواطن عبر التجارة الدولية. فمن أكبر الاحتمالات أن التجارة هي التي أتت بالعوامل التي سببت فطريات مجاعة البطاطا الإيرلندية في أوروبا، وعفن الكستناء إلى شمالي أمريكا، وداء الفطريات القديرية chytridiomycosis المعدية لجلد الحيوانات البرمائية في جميع أرجاء العالم، حسبما تقول جينيفر فريزر في مقال نشرته ساينتفيك أمريكان العام الماضي.
وترى فريزر أن إدمان البشر على النقل البحري أدى دور تقديم الخدمات في تزويج الفطريات بعضها ببعض. فالفطريات في مجموعها كائنات حية عالية الحماسة للجنس. وعندما يجمع البشر فطوراً بعضها مع بعض بعد أن كانت قبل ذلك منفصلة وبعضها بعيد عن بعض جغرافياً، لكنها قادرة على التزاوج، فإن تزاوجها يمكن أن ينتج منه نماذج جديدة ومتفاوتة وأشد ضراوة، فتتمكن فجأة من أن تصيب الأحياء بالعدوى، وهو أمر لم تكن أسلافها تستطيع فعله، أو يمكنها أن تعيش في بيئات جديدة.
وإن استمرار حجم التجارة أو تزايدها، سيزيد من احتمالات نقل الممرضات إلى أثوياء hosts لم يسبق التعرّف إليها من قبل، ونشأة نماذج ممرضات جديدة تنتج من تزاوج الفطريات.
ومع أننا لا نستطيع إلاّ فعل أمور بسيطة جداً من أجل إيقاف انتشار بعض الفطريات، فإن بإمكان البشر أن يتخذوا خطوات للحد من احتمال تسابق الفطريات في التكاثر وفي تهديد البشر، وأن يكونوا جاهزين بصورة أفضل حينما تحصل أي فاشية، وأحد أفضل الأمور التي يجب البدء بها هو تحسين ورصد وتشخيص الأمراض التي تسببها الفطريات.
ونظراً لأن الأمراض الفطرية غير شائعة بين الناس الأصحاء، فربما لا يَطلب الأطباء إجراء الاختبارات لكشفها، وهو ما يؤدي إلى تأخير التشخيص، وإلى ظهور الأعراض المعندة عندما تبدأ المعالجة.
وليس لدى منظمة الصحة العالمية حالياً أي برنامج للتعاطي مع عدوى الفطريات، وهناك عدد ضئيل من الوكالات التي تعمل في مجال الصحة العامة تقوم حالياً برصد العدوى بالفطريات.
وهناك خط دفاعي آخر، وهو رفع مستوى الأمان البيولوجي للنباتات والحيوانات، ولأن الممرضات عند البشر غالباً ما تعيش أيضا في التربة وعلى النباتات، فإن زيادة التفتيش على دخول هذه المواد إلى الدول بفحص حمولة السفن من المنتجات الزراعية ومن الحيوانات بحثاً عن الفطريات المعروفة بأهميتها في إصابة البشر بالممرضات – على سبيل المثال – وبزيادة الانتباه في المطارات إلى تنظيف الأحذية الملوثة بالوحل، أو بالحيلولة دون إدخال النباتات عبر الرحلات الدولية، فإن هذا كله لن يؤدي إلى مكافحة الأمراض فقط، بل إلى التقليل أيضاً من أخطار الاتصال الجنسي غير العادي بين الفطريات، كما يجب استثمار المزيد من المال في ابتكار أدوية جديدة ومحسنة لمكافحة الفطريات.
وتتمثل العقبة الرئيسية في علاقاتنا بالفطريات؛ فنحن – معشر البشر – من الناحية العملية أولاد أعمام لها من الدرجة الأولى في شجرة الحياة. وقد افترق مسارا الفطريات والحيوانات في حقبة أكثر حداثة عن مجموعات المتعضيات الأخرى جميعها. ولا تقتصر آثار هذه القرابة على جعل الخمائر نماذج models ممتازة لبيولوجيا الثدييات، لكنها تجعل الخمائر وغيرها من الفطريات أشد صعوبة للمعالجة عندما تغزو الحيوانات وتصيبها بالعدوى.