د. العنود الرشيدي
كلية التربية – جامعة الكويت
شكلت رحلات المستكشفين في العصور القديمة نواة الاهتمام بعلم الأنثروبولوجيا الثقافية؛ فقد دفع الفضول بالإنسان قديما إلى زيارة المجتمعات المجاورة، واستكشاف عاداتها وأساليب حياة شعوبها، وتدوين الملاحظات حول ممارساتهم وطقوسهم، وأطعمتهم ولباسهم، وصفات أجسادهم، وألوان بشراتهم وشعورهم، ليعود محملا بمعلومات تصف حياة تلك الشعوب، فيقصها على أهله وأصدقائه، ويترك المكتوب منها إرثا تاريخيا تتناقله الأجيال على مر العصور. وتمثل تلك الرحلات الاستكشافية انطلاقة تأسيسية لمجال الدراسات الإثنوغرافية Ethnography التي تعد من أقدم مجالات البحث في الأنثروبولوجيا الثقافية.
والأنثروبولوجيا الثقافية أحد المجالات الرئيسية في علم الأنثروبولوجيا؛ فهي تهتم بدراسة كل جوانب الثقافة الإنسانية كاللغة، والدين، والعادات والتقاليد، والقيم والأعراف، والمعتقدات والطقوس، والآثار، والأطعمة والملبوسات، وغيرها من عناصر ممثلة للثقافة بمفهومها الأنثروبولوجي.
ويتفق معظم المفكرين على أن المؤرخ الإغريقي هيرودوت Herodotus (425-484 قبل الميلاد) كان من أوائل الشخصيات التي اشتهرت بزياراتها وتوثيقها لأوصاف البلدان والشعوب وأحوالها، وذلك في رحلاته حول حوض البحر المتوسط، التي شملت مناطق الفرس والبابليين، ومصر وسورية وليبيا، وغيرها من البلدان.
وكان للرحالة العرب والمسلمين في القرون الوسطى إسهامات متميزة في الدراسات الاثنوغرافية؛ ويعد أبو الريحان البيروني الذي عاش في القرن الحادي عشر الميلادي من أعظم العقول التي عرفتها الحضارة الإسلامية، من خلال دراساته المقارنة في الأديان والثقافات في الشرق الأوسط وجنوب آسيا، ولاسيما في الثقافة الهندية، كما تمثل أعمال المفكر العربي ابن خلدون الذي عاش في القرن الرابع عشر الميلادي، نموذجا واضحا للدراسات الاثنوغرافية، من خلال رحلاته إلى الأندلس ومصر والحجاز والشام وبلاد المغرب العربي.
الطابع العلمي
لم تأخذ الأنثروبولوجيا الثقافية طابعا علميا إلا في نهاية القرن التاسع عشر، وذلك على يد المفكر الإنجليزي إدوارد تايلور Edward Tylor (1832- 1917) الذي يعد مؤسس الأنثروبولوجيا الثقافية في بريطانيا، من خلال كتابه “الثقافة البدائية” الذي نشر في عام 1871، في حين شكلت أعمال المفكر الأمريكي فرانز بوآز Franz Boas (1858-1942) التأسيس العلمي الحقيقي للأنثروبولوجيا الثقافية في الولايات المتحدة الأمريكية. ومنذ ذلك الوقت، بدأت الأنثروبولوجيا الثقافية تتخذ مسارا علميا مستقلا.
وفي عالمنا المعاصر، نجد أن الأنثروبولوجيا الثقافية تركز في دراستها على الجماعات الإنسانية، والثقافات البشرية، والفئات الاجتماعية المتنوعة في المجتمع الواحد. ويرى أستاذ علم الاجتماع التربوي الدكتور علي وطفة في وصفه لأهمية هذا المجال العلمي أنه “يندر أن نجد قطاعا اجتماعيا ينفلت من دائرة الرصد والبحث الأنثروبولوجي” حتى أصبحت الدراسات الأنثروبولوجية الثقافية تتوغل في كل جماعة إنسانية لتستكشف نظمها الثقافية، وتبحث في طبيعة الإنسان ككائن ثقافي.
جسر يعزز العلاقات الحضارية
إذا كانت الرحلات الاستكشافية للثقافات والشعوب قديما قد اقتصرت على عدد محدود من الرحالة والمستكشفين المغامرين، فإن هذا النهج الأنثربولوجي الثقافي أصبح ظاهرة طبيعية في عالمنا المعاصر، حتى وإن لم يكن الفرد مدركا لطبيعة ذلك الفضول الذي يحثه على زيارة البلدان والمدن المختلفة، والذي يمثل نزعة أنثروبولوجية ثقافية تدفع الإنسان لاستكشاف ثقافة الشعوب التي تتقاسم معه الحياة على هذه الأرض.
ومن الملاحظ أن الشعوب المعاصرة لم تعد منغلقة على ذاتها كما كان يحدث في قديم الزمان، بل نجد أن معظم الشعوب خرجت لتشارك الشعوب الأخرى في مظاهر حياتها، حيث تتزايد الرحلات الجوية في كل عام، وتمتلئ المطارات في كل موسم سفر معلنة الإقلاع لوجهات وبلدان جديدة، وتتنافس شركات الطيران على استقطاب المسافرين الباحثين عن وجهات متعددة وشعوب تحمل ثقافات غريبة، حتى بات البشر يشدون الرحال إلى أماكن لم تكن في الحسبان، كالجزر الصغيرة المنتشرة في المحيطات الواسعة، والأرياف والقرى في الجبال الشاهقة، والمناطق والغابات النائية في قارتي أفريقيا وأمريكا الجنوبية. إن الرغبة في التعرف على حياة الشعوب تشير إلى درجة جيدة من الانفتاح الثقافي، الذي يعني: الشعور بالرغبة في التعرف على خصائص الثقافات والشعوب الأخرى، وتقبلها واحترامها، والتعايش السلمي معها، وذلك للوصول إلى مرحلة التكامل الثقافي.
ويسهم الانفتاح الثقافي على الشعوب الأخرى في تعزيز العلاقات الحضارية بين الشعوب؛ فالعلاقات الحضارية ترتكز بشكل أساسي على وعي الإنسان بثقافته الخاصة أولا، ثم الإقرار بوجود ثقافات أخرى مختلفة، والعمل على التكيف معها من خلال احترامها، وفهم الدوافع النفسية والعقلية تجاه السلوكيات الثقافية الصادرة عن الآخرين المختلفين. وتكمن الغاية الكبرى من توطيد العلاقات الحضارية بين الشعوب في تحقيق التواصل الإيجابي بين الثقافات، الذي يعد الطريق الأمثل للتعايش السلمي، وتحقيق قيم العدل والمساواة والحرية، والسلام العالمي.
وتتصف البلدان والشعوب التي تقيم علاقات حضارية بينها وبين الشعوب الأخرى، بتشجيعها للتعددية الثقافية في مجتمعاتها كالتعددية العرقية، والدينية، والجنسية؛ فنجدها تفتح أذرعها مرحبة بالسياح والزائرين، والمستثمرين والباحثين عن فرص العمل من مختلف الثقافات.
وتعد الدراسات والبحوث الأنثروبولوجية الثقافية مجالا مهما لتأسيس وتعميق العلاقات الحضارية بين الشعوب، لاسيما بعد تسارع وتيرة الهجرات السكانية للعمل أو الدراسة، والتطورات الجذرية في التكنولوجيا والاتصالات، والتعددية الثقافية في المجتمع الواحد، وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، واندماج المجتمعات بعضها ببعض. فمن خلال علم الأنثروبولوجيا الثقافية، يتعرف الإنسان على ثقافة البلدان والشعوب المختلفة عن طريق الدراسات والكتب المتنوعة، أو مشاهدة البرامج الوثائقية عن حياة الشعوب، أو زيارة المراكز الثقافية، وحضور الأنشطة الثقافية التي تنظمها الجماعات الثقافية في بلدانهم، كدورات اللغات المختلفة، أو المهرجانات الثقافية الخاصة.
إن الأنثروبولوجيا الثقافية تمثل مرآة تعكس حياة الشعوب في شتى أنحاء العالم؛ فهي تساعد الإنسان على فهم ثقافته الخاصة، والإقرار بوجود ثقافات مختلفة تتقاسم معه الحياة في عالم جميل ومتنوع، ومن ثم، فهي تمهد الطريق لحدوث التفاعل الإيجابي بين الشعوب، أو ما يطلق عليه في الأنثروبولوجيا الثقافية مفهوم التلاقح بين الحضارات.
التلاقح بين الحضارات
يقصد بمفهوم التلاقح بين الحضارات التفاعل المباشر الذي يحدث عند تلاقي ثقافتين أو أكثر، سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات الثقافية ممثلة بالشعوب، والذي ينتج عنه إعادة تشكيل الثقافات الأساسية، لإنتاج ثقافة جديدة تتميز بتمثيلها لعدة ثقافات، وتحظى غالبا بالقبول والاحترام من أفراد الثقافات المعنية.
فعند هجرة عائلة عربية لإحدى الدول الأوروبية، على سبيل المثال، تبدأ هذه الأسرة بالتفاعل مع ثقافة البلد الجديد، التي تتميز باختلافها جذريا عن ثقافة الأسرة العربية من حيث اللغة، والدين، والقيم والأعراف والمعتقدات، وما إلى ذلك. وهذا التفاعل بين خصائص ثقافتين مختلفتين، يؤدي بمرور الأيام إلى خلق ثقافة جديدة تحملها الأسرة العربية تمثل ثقافتها الأصلية من جهة، وبعضا من خصائص الثقافة المستضيفة من جهة أخرى؛ فتبدأ الأسرة العربية بتعلم لغة البلد الجديد، والتعرف على مناسباتهم وأعيادهم الوطنية، وتجربة ملبوساتهم وأطعمتهم المتنوعة، والتكيف مع سلوكياتهم كأوقات النوم والاستيقاظ، واستخدام وسائل النقل العامة، وغيرها. وهذا التغيير الحادث في ثقافة الأسرة العربية، يمثل نتاجا واضحا للتلاقح بين الحضارات على مستوى الأفراد.
أما على مستوى الشعوب، فلم يعد التلاقح بين الحضارات خيارا، بل أصبح ضرورة لكل الشعوب التي تسعى نحو إقامة السلام العالمي؛ فالعالم اليوم صار قرية واحدة، لا يمكن عزل جزء منها عن الآخر، بل بات من الواجب تقريب الحضارات بعضها من بعض، من خلال تشجيع التفاعل والاحتكاك الإيجابيين بين شعوبها بهدف إثراء الحضارة الإنسانية. ومن خلال التلاقح بين الحضارات، تستفيد شعوب كل حضارة بأخذ ما يناسبها ويتفق مع ثقافتها، وتمنح لشعوب الحضارات الأخرى ما تملكه من خبرات وعلوم واستكشافات. فالحضارات المتقدمة هي تلك التي لم تعزل نفسها عن الحضارات الأخرى، بل هي التي سعت نحو التفاعل والاحتكاك بالحضارات المختلفة، وأخذت من علومها وتراثها الثقافي بما يتناسب مع طبيعتها.
ولإنجاح عملية التلاقح بين الحضارات، لابد أن تمتلك الشعوب استعدادا وجاهزية لتقبل الاختلافات الثقافية بينها وبين الشعوب الأخرى. ويطلق على هذا الاستعداد النفسي في علم الأنثروبولوجيا الثقافية مفهوم الكفاءة بين-الثقافية Intercultural Competence. ويعرف المفكر الأمريكي ملتون بينيت Milton Bennett الكفاءة بين-الثقافية بأنها: مجموعة من المهارات، والخصائص المعرفية والسلوكية والوجدانية، التي تدعم التواصل الفعال والملائم في البيئات المتنوعة ثقافيا.
وتشير الدراسات الأنثروبولوجية الثقافية إلى وجود عوامل تساعد على عملية التلاقح بين الحضارات. فقد وجد الباحثون أن الفرد الذي يعيش في بيئة ثقافية منغلقة، غالبا ما يحمل استعدادا أقل للتفاعل والتواصل الإيجابيين مع أي ثقافة مختلفة؛ فالاحتكاك الثقافي يعزز من قدرة الفرد على تقبل الآخر المختلف، كما أن إتقان اللغات المختلفة يسهم بشكل إيجابي في التكيف الثقافي مع شعوب الحضارات المختلفة.
ويؤدي التعليم دورا مهما في تهيئة فرص التلاقح بين الحضارات؛ فالشعوب الأكثر تعليما تبدي تقبلا وانفتاحا وترحيبا بالثقافات المتنوعة، وذلك بحسب ما تشير إليه الدراسات في هذا المجال. وتوصل الباحثون أيضا إلى أن علاقات المصاهرة بين الثقافات المختلفة تعزز بشكل كبير قدرة الفرد على التعاون والتفاعل والتواصل الإيجابي مع الثقافات المختلفة.
ومما تقدم، يمكن القول بأن نجاح عملية التلاقح بين الحضارات مرهون إلى حد كبير بقدرة الشعوب على النظر إلى الاختلافات الثقافية كفرصة قيمة لتشكيل ثقافة إنسانية عالمية، تعكس قيم السلام العالمي والتعايش السلمي بين الحضارات.